كتب

الروايات التوراتية ما بين السياحة والسياسة وعلم الآثار

كتاب يبحث في تصحيح الروايات التاريخية والأثرية في فلسطين- (عربي21)

عند الحديث في السياسة عن القضية الفلسطينية أو تاريخ فلسطين القديم، كثيراً ما نسمع مصطلح الروايات التوراتية أو الرواية الإسرائيلية سواءً من طرف المختصين أو عامة الناس، ونسمع مطالبات ومناشدات بضرورة وجود رواية فلسطينية تُكذِّب وتفنِّد الادعاءات الإسرائيلية.

لكن في الحقيقة لسنا بحاجة إلى رواية فلسطينية وليس من العلم أو المنطق في شيء مجابهة الرواية برواية أو الخرافة بخرافة أو الكتاب السماوي بكتاب سماوي، وإنما بالبحث العلمي فقط، أي بإعادة كتابة تاريخ فلسطين بمنهج علمي مستندين إلى ما توصل إليه علم التاريخ وعلم الآثار من حقائق علمية مُثبتة، وأن يكون ما نتوصل إليه ونتبناه هو الحقيقة العلمية المحايدة وليس الرواية الفلسطينية (والفرق شاسع ما بين الرواية والتأريخ).

في هذا السياق، صدر عن دار نشر كُتْبنا (ط1، 2020)، للدكتورضرغام غانم فارس.

الكتاب في الأصل هو عبارة عن رسالة دكتوراة بعنوان "تعقيدات عمل المرشد السياحي في فلسطين"، وقد نوقشت وأُجيزت (24/6/2019)، في قسم الإرشاد السياحي- كلية السياحة والفنادق، جامعة الفيوم، جمهورية مصر العربية. يقع الكتاب في 348 صفحة من الحجم المتوسط، وجاء الكتاب في ثلاثة فصول وخاتمة.

الروايات التوراتية في السياحة

تعتبر الروايات التوراتية موضوعا محورياً في تسويق فلسطين سياحياً وفي المادة الإرشادية التي يقدمها المرشد السياحي، ولهذا فقد خصص د. ضرغام الفصل الأول لتناول مفهوم التوراة بالنسبة لليهود والسامريين والمسيحيين والمسلمين، وتحديد محاذير الروايات التوراتية من خلال تحديد مفهوم كل ديانة للتوراة ولما تتضمنه من روايات، والاستناد إلى تلك المفاهيم في فهم العلاقة ما بين الخلفية الدينية وموقف المجتمع الفلسطيني المتعدد الديانات من تداول الروايات التوراتية في التسويق والإرشاد السياحي، حيث تعتبر دراسة هذه العلاقة هي إحدى جوانب الفهم والتفسير لمواقف المجتمع الفلسطيني المتباينة من تلك الروايات (ص 23 ـ 96).
 
عرض د. ضرغام في هذا الفصل للمرشد السياحي الفلسطيني فهمًا شاملًا لأهمية ومحاذير الروايات التوراتية.

الروايات التوراتية في السياسة

يشير د. ضرغام إلى أن حركات الإصلاح المسيحية في أوروبا سبقت الحركة الصهيونية بمئات السنين في الدعوة إلى إحياء مضمون العهد القديم من الكتاب المقدس والدعوة لتطبيقه بما فيه عودة اليهود إلى الأرض التي وعدهم الله بها.

أولاً ـ توظيف الصهيونية العالمية للروايات التوراتية

 
يتناول المؤلف في هذا العنوان أربعة محاور، وهي:

1 ـ الخلفية التوراتية في الفكر الصهيوني تجاه فلسطين، بمعنى معرفة المضمون التوراتي المتعلق بامتلاك أرض الوعد (الميعاد)، والذي يقوم بصفة عامة إلى فكرتين رئيسيتين: الأولى العداء للسكان الأصليين لأرض كنعان وعدم المهادنة أو الصلح معهم وعدم الرحمة في حربهم، والثانية امتلاك أرض كنعان بوعد وبرعاية ربانية  (ص 101 ـ 105).

2 ـ الإصلاحات المسيحية وإحياء فكرة أرض الوعد، وهي إصلاحات أوجدت التربة الخصبة لنجاح الحركة الصهيونية، وهي في الحقيقة صانعة الموجة التي ركِبتها ووجهتها الحركة الصهيونية مستفيدة من ولادة فكرة إحياء المضمون التوراتي وانتشارها، وذلك في إطار حركات الإصلاح الديني المسيحي الذي شهدته اوروبا (ص 106- 116).

3 ـ تبلور الفكر الصهيوني في حركة سياسية، فقد ظهرت العديد من الدعوات التي تحث على الهجرة إلى فلسطين والإستيطان بها قبل تبلور الفكر الصهيوني كحركة سياسية (ص 116- 127).

4 ـ الصهيونية والبعد الديني في اختيار هذا الإسم للحركة، ويري المؤلف أن الإسم يحمل في طياته سبباً للإلتفاف حولها من طرف اليهود والمسيحيين وخاصة البروتستانت ويحمل أيضاً هدفاً يحلم بتحقيقة المسيحيين المؤمنين بالمجيء الثاني للمسيح واليهود المؤمنين بالظهور الأول للمسيح المُخلص - لأن اليهود لا يعترفون بعيسى كمسيح ـ (ص 128).
 
ثانياً ـ التنقيب الأثري على أساس توراتي

كان التنقيب الأثري ذريعة استخدمتها الدول العظمى للتواجد في فلسطين وإعداد الخرائط والخطط للسيطرة على المنطقة، وكانت أيضاً أداة بيد السياسيين للحصول على دعم وتأييد المؤمنين بالعهد القديم من الكتاب المقدس سواءً يهوداً أو مسيحيين من خلال العمل على توظيف علم الآثار في إثبات صحة مضمون العهد القديم وتوظيف مضمون العهد القديم لتحقيق تلك الدول مصالحها في المنطقة (ص 138- 139). 

 

نحن أمام كتاب يوضح لنا الفرق ما بين الروايات التوراتية والحقائق التاريخية. ويصف لنا ـ لأول مرة ـ تعقيدات عمل المرشد السياحي في فلسطين، ويحاول الكاتب التحرر من الروايات التوراتية لمحاولة بناء تاريخي فلسطيني خالٍ من تأثير التوراة. ومن هنا تنبع أهمية الكتاب.

 



ويناقش د. ضرغام تحت هذا العنوان، مفهوم علم الآثار بصفة عامة، وخصوصية علم التاريخ والآثار في الأراضي المقدسة، ثم انعكاس الفكر التوراتي على المسح والتنقيب الأثري في فلسطين وتأثيره في تفسير المكتشفات الأثرية وصياغة تاريخ فلسطين  (ص 139- 151).
 
ثالثاً ـ استخدام الروايات التوراتية لتكريس الاحتلال والاستيطان

يربط المؤلف ما بين استخدام الروايات التوراتية لتكريس الاحتلال والاستيطان وبين الحدود الجغرافية المتغيرة لمسرح هذا التوظيف، ويلخص د. ضرغام تلك الأحداث التاريخية وحدودها الجغرافية من خلال الخرائط الت يرفقها بالكتاب. 

ولهذا نتناول هنا الجانب المتعلق بالصهيونية والتوظيف الديني لما لهذا الجانب من أهمية في هذه الدراسة لتفسير موقف المجتمع المحلي الفلسطيني من تداول المرشدين السياحيين الفلسطينيين للروايات التوراتية. وما يهمنا في هذه الجزئية من الدراسة هو الإنعكاس الميداني داخل فلسطين لهذا التوظيف الديني من حيث وصول المهاجرين وإنشاء المستوطنات وقيام دولة "إسرائيل" على قاعدة توراتية وبشعارات توراتية.

الروايات التوراتية في علم الآثار

يهدف د. ضرغام من هذا الفصل، تزويد المرشد السياحي الفلسطيني بقراءة علمية لأهم محاور تاريخ فلسطين المتعلقة بالحدود الزمنية لهذه الدراسة والمرتكزة على اللقاءات والشواهد الأثرية، مع تناول أهم مضامين روايات العهد القديم المتعلقة بتلك المحاور في فترة الآباء وصولا إلى السبي البابلي.

أولاً ـ "إسرائيل" في النقوش الأثرية

1 ـ لوحة مرنبتاح، ورواية الخروج 

تعتبر لوحة مرنبتاح من أهم المكتشفات الأثرية بالنسبة للمهتمين بالآثار المتعلقة بالروايات التوراتية، حيث يعتبرها البعض شاهداً مهماً على التاريخ المُبكِّر لـ (إسرائيل) بل إن البعض يسميها زوراً لوحة (إسرائيل). ويرفض د. ضرغام، ما يذهب إليه علماء الآثار من ورود إسم "إسرائيل" في لوحة مرنبتاح، ويعيد قراءته بالآتي: "(يسرِءار) ويُقصد بها مجموعة من البدو" (ص 191). ويصل إلى حقيقة تاريخية، وهي "عدم وجود أدلة أثرية تدعم صحة رواية الخروج كما وردت في التوراة" (ص 203).
 
2 ـ التعريف بلوحة تل دان ومضمونها

هي عبارة عن ثلاث أجزاء مرمَمة من لوحة من حجر البازلت معروضة حاليا في متحف (إسرائيل) في القدس، ويبلغ ارتفاعها 34 سم وعرضها 32 سم، ويعود تاريخها إلى القرن التاسع قبل الميلاد في العصر الحديدي الثاني. يشير د. ضرغام إلى أن ما "ورد في لوحة تل دان الحروف الثلاث (دود (dwd))، ومنها تم استنباط اسم داود أو "(David) (ص 221). 

ويري أن "هناك الكثير من الكلمات الناقصة في نص اللوحة، وتم استكمال حروفها من خلال التخمين" (ص 223). ويؤكد على "غياب الأدلة الأثرية لمعالم نهضة عمرانية وسياسية في القرن العاشر قبل الميلاد" (ص 225). أي أنه "لم يظهر أي دليل أثري يثبت صحة الوصف التوراتي لعمارة مدينة القدس وتخطيطها في عهد داود وسليمان" (ص 229). 

أتفق مع قول الباحث بعدم وجود دليل أثري على وجود داود وسليمان في فلسطين. ولكنيّ أختلف معه حول النقش نفسه، فالنقش "لم يستطع أن يقف صامداً أمام النقد الصارم، الذي وُجِّهَ له، والذي أظهر، في النهاية، أنه "مُزيَّف". وقد أثبت الزيف، طائفة من عُلماءِ الآثار، واللاهوت، واللُّغات الساميَّة القديمة، والنقوش "الإبيغرافيا"، كان أهمها فرد كراير، والمُستشرِق الإيطالي جيوفاني غاربيني (Geovani Garbini)" (يُراجع أحمد الدبش، القدس التاريخ الحقيقي منذ أقدم العصور حتى الاحتلال الفارسي، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2020). 

3 ـ لوحة الملك ميشع المؤابي، ومملكة إسرائيل

بحسب زعم علماء الآثار، تُعرف لوحة ميشع أيضاً باسم الحجر المؤابي، وتنسب هذه اللوحة إلى الملك ميشع المؤابي، الذي أقامها في عاصمته ديبان، في حوالي عام 850 ق.م، ليخلد فيها انتصاره على ملك (إسرائيل).

4 ـ مسلة الملك شلمنصر الثالث وبيت عمري

تُنسب هذه المسلة إلى الملك الاشوري شلمنصر الثالث (858 ـ 824 ق.م). وتعرف أيضاً باسم "المسلة السوداء". يري د. ضرغام، ان إسم (إسرائيل) لم يَرد "كمملكة في مسلة شلمنصر الثالث" (ص 245). وما جاء بحسب ترجمة المؤلف، هو، "(ي ا و ا) أي  (ياهو)، ثم كلمة (مآر) وتعني (ابن)، تليها الحروف (هـُ م رِ) أي (عمري)" (ص 246). أي ترجمها "ياهو بن عمري".
 
ثانياً ـ ديانة أرض كنعان قبل السبي البابلي

يعتقد المؤلف، بأنه "عند تناول ديانة أرض كنعان قبل السبي البابلي لا بد من المقارنة ما بين النصوص التوراتية وعلم الآثار" (ص 255). ويناقش مفهوم الإله قبل ظهور يهوه، وعلاقة موسى به، وعبادة يهوه (ص 257- 276). ويتطرق المؤلف إلى "بداية صياغة التوراة وتشكلّ الديانة اليهوديةُ" (ص 276- 305).
 
وأخيرًا، نحن أمام كتاب يوضح لنا الفرق ما بين الروايات التوراتية والحقائق التاريخية. ويصف لنا ـ لأول مرة ـ تعقيدات عمل المرشد السياحي في فلسطين، ويحاول الكاتب التحرر من الروايات التوراتية لمحاولة بناء تاريخي فلسطيني خالٍ من تأثير التوراة. ومن هنا تنبع أهمية الكتاب.

*كاتِب وباحِث فلسطيني