لا تخلو الممارسة الإسلامية التاريخية والمعاصرة من حالات ووقائع جرى فيها قمع المخالف الديني الإسلامي بسيف القوة والسلطان، وهو ما تكاد تتشارك فيه غالب الاتجاهات الدينية المذهبية المختلفة ـ بتجلياتها وتطبيقاتها البشرية ـ إذ تجنح حال تمكنها بحبل من السلطات السياسية إلى قمع المخالف الديني وكبته والحجر عليه، بذريعة صيانة العقائد من التحريف والتبديل والزندقة.
ووفقا لباحثين فقد تتبنى السلطة السياسية في زمن ما مذهبا عقائديا وفقهيا بعينه، فتسعى بسيف القوة لنشره وإكراه علماء المسلمين وعامتهم على تبنيه ونبذ غيره، وقد يجري توظيف مذهب عقائدي وفقهي ما من قبل السلطات السياسية في إطار يخدم أجنداتها السياسية، فينساق أتباع ذلك المذهب وراء تلك السياسات ليكونوا أداة تحريض ضد مخالفيهم، ما يدفع السلطان إلى قمعهم واضطهادهم ومحاصرتهم.
حالات قمع المخالف الديني وقعت في زمن مبكر من تاريخ الإسلام، وتداولت على ممارسته والتحريض عليه غالب الاتجاهات الدينية المختلفة، وهو ما يتكرر اليوم سواء في الممارسة السنية ـ على اختلاف اتجاهات أهلها.. أشاعرة وماتريدية وسلفية ـ أو الممارسة الشيعية، ولا تظهر تجلياتها في غالب الحالات إلا حينما يصل أصحاب اتجاه ديني ما إلى السلطة، أو يتحالف أرباب السلطة مع ذلك الاتجاه، كما في حالة الاتجاه السلفي في الدولة السعودية، أو الاتجاه الشيعي الإمامي بعد الثورة الإيرانية وتمكن الفقيه من الوصول إلى السلطة والتحكم بها.
وفي هذا السياق يلفت الباحث في الفكر الإسلامي، معتز شطا إلى "ضرورة التفريق بين الدين الإسلامي بتعاليمه وبين الفكر الديني، فالدين هو التعاليم التي تشتمل عليها نصوص الشرع، أما الفكر الديني فهو ناتج تفاعل العقل البشري مع تلك النصوص الدينية، فالدين الإسلامي ليس فيه أي نزعة لقمع المخالف، كما هو مقرر في قوله تعالى (لا إكراه في الدين)".
معتز شطا.. باحث في الفكر الإسلامي
وأضاف: "أما الفكر الديني فقد يشتمل على مستوى النظرية أو التطبيق العملي على ممارسات قد تخالف تعاليم الدين، ويتم إلباسها ثوبا دينيا مع ذلك، إما جهلا، وإما تدليسا على الآخرين، وفي تاريخ المسلمين نماذج لا تحصى على قمع المسلم المخالف، ذلك القمع الذي وصل إلى القتل بصورة بشعة في أحيان كثيرة، مثل تقطيع أوصال غيلان بن مسلم الدمشقي، وقطع رأس الجعد بن درهم في يوم الأضحى، أو التعذيب مثل جلد أحمد بن حنبل، وكلها نماذج لقمع المخالف لتوجه السلطة في القضايا العقائدية والسياسية".
وردا على سؤال لـ "عربي21" حول مشروعية تلك الممارسة وفق تطبيقاتها التاريخية والمعاصرة، أكدّ شطا أن "هذه الممارسات غير مشروعة بطبيعة الحال، يرفضها العقل السليم ولا يدعو إليها النقل، بل إن النقل يدعو إلى حرية الاختيار العقدي، وأن الإنسان مسؤول عن اختياره أمام الله، وهو المؤكد في قوله تعالى (لا إكراه في الدين)، فالنفي هنا لمطلق الإكراه، سواء إكراه المسلم على الإسلام، أو إكراه المسلم على اعتقاد معين لا يقتنع به، فالله الذي يحاسبه لا السلطان، بعكس المخالفات السلوكية كالقتل والجرائم، فهنا يجب على السلطان عقابه".
وتابع: "ولكن حديثنا هنا عن الخيارات العقائدية لا الجرائم القانونية" مشددا على أن "إجبار السلطان الناس على اتباع عقيدة معينة خلافا لقناعاتهم يؤدي إلى تراكم الاحتقان والغضب كما يؤدي إلى انتشار النفاق، فالناس قد يتظاهرون باتباع ما يريده السلطان خشية بطشه، لكن مع أول فرصة تتاح لهم يقلبون الأمور رأسا على عقب".
وحذر من أن نتائج تلك الممارسات وعواقبها الوخيمة عادة "ما تفضي إلى جنوح كل اتجاه في حال تمكنه إلى أن يفعل بمخالفيه ما فُعل بهم من تنكيل واضطهاد وتضييق، وهكذا ينتقل الناس في المجتمعات المسلمة عبر العصور من اختناق إلى اختناق، ومن محنة إلى محنة، لغياب العدل والحريات الفكرية والاعتقادية" على حد قوله.
يستند القائلون بمشروعية قمع المخالف الديني، بوصفه مبتدعا في الدين بدعة عقائدية خطيرة، يخشى من وراء نشرها إفساد عقائد المسلمين، وإشاعة المقولات المبتدعة بينهم، وفق تصنيف كل مذهب عقائدي لغيره من المذاهب الأخرى، وهو ما يدعوهم إلى تجويز معاقبة ولي الأمر لأولئك المبتدعين قمعا لبدعتهم، واستئصالا لضلالاتهم، وقد تصل عقوبة المبتدع إلى القتل إن رأى أصحاب الشأن تحقق المصلحة بذلك.
ومن المتداول المشهور الاستشهاد بواقعة قتل الجعد بن درهم ـ كما تتابعت على روايتها كثير من المراجع العقائدية ـ "وكان أول من أحدث هذا في الإسلام الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه".
وفي هذا الإطار يقول الباحث والأكاديمي أحمد بن عبد العزيز الحليبي في كتابه (أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية): "وقد تقتضي المصلحة إيقاع عقوبة أشد على الداعية المبتدع، متى دعا إلى مفسدة عظيمة، وواجه الحق الظاهر، فيعاقب بالهجر أو التعزير أو القتل، إذا كان لا يرتدع إلا بإحداها، وإلى هذا أشار ابن تيمية في قوله "فإن الحق إذا كان ظاهرا قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هُجر وعُزر، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله بصبيغ التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه".
ويتابع ابن تيمية بيانه بأنه "إذا اقتضى الأمر قتل صاحب البدعة قمعا لبدعته فإنه يصار إلى ذلك "كما قتل المسلمون الجعد بن درهم، وغيلان الدمشقي وغيرهما، كان ذلك هو المصلحة، بخلاف ما إذا ترك داعيا، وهو لا يقبل الحق إما لهواه وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة، وضررا عليه وعلى المسلمين.." إلى أن قال "والمقصود أن الحق إذا ظهر وعُرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس، قُوبل بالعقوبة".
بدوره بيّن الكاتب والباحث المغربي، المختص في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، والدراسات القرآنية، الدكتور مولاي أحمد صابر "أننا إذا عدنا إلى القرآن فإننا سنفهم من خلال آياته أنه يضمن حرية الاعتقاد وحرية التعددية الدينية، فللمخالف بكامل حريته أن يمارس كل معتقداته الدينية، كما ورد في قوله تعالى (لا إكراه في الدين)، وقوله تعالى (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)، وفضلا عن ذلك فقد دعا إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وغير ذلك من الأدلة والبراهين الدالة على أن القرآن يضمن حرية العقيدة والاعتقاد".
مولاي أحمد صابر.. كاتب وباحث مغربي
وأضاف: "هذا ما ورد بيانه والتأكيد عليه في القرآن الكريم، أما فيما يخص التاريخ الإسلامي فإننا سنجد تجارب ومقاربات مرتبطة بسياقاتها التاريخية والسياسية والثقافية، وقد نجد فيها مستوى كبيرا من حرية الاعتقاد، والتواصل برحمة وود مع المخالف الديني، وقد نجد أخطاء وانزلاقات وظلما وإكراها، وكل ذلك متصل بالتجارب التاريخية".
وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول "والمشكلة المنهجية التي تقع هنا أن هناك من يأتي ويقرأ ما حدث ووقع في التاريخ على أنه هو الإسلام، مع أن الدين الإسلامي وضع منظومة قيمية، نفهمها من داخل القرآن الكريم، ومن أفعال الرسول وسيرته عليه الصلاة والسلام، بينما التاريخ الإسلامي يخضع للنظر والاجتهاد والتقديم والتأخير".
وأبدى صابر أسفه "لوجود جماعات أصولية تضفي على بعض التجارب التاريخية هالة من القداسة حسب تصوراتها، ثم تخرج بفتاوى وآراء تسيء إلى حرية الاعتقاد، وإلى قيمة التعددية الدينية في المجتمع، وهذا فيه إضرار بقيمة المواطنة، وقيمة الإخاء، والتعايش بسلم وسلام بين مختلف مكونات المجتمع الواحد".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن "تلك التصورات والفتاوى تقدم صورة سلبية عن الإسلام دين الرحمة، وكل ما فيه من القيم المفتوحة على الخير والسلام، واحترام التعددية الدينية، وضمان حرية الاعتقاد، وعدم إكراه الناس في العقائد".
هل قتل الدعاة سنة ماضية أم معضلة تستوجب المراجعة؟
هل تسعى أوروبا بالفعل لتشكيل "إسلام أوروبي مصطنع"؟