يتّهم الغرب، وعلى رأسه واشنطن (آخر مثال سفيرة فرنسا بعد رئيسها ماكرون)، قوى السلطة اللبنانية بالفساد والنهب. لكن المفارقة أن ممثليه يبحثون عن أسباب الانهيار الكوارثي المتمادي خارج مسؤولية هذه القوى، وخصوصا، خارج مسؤولية فشل نظامها السياسي الاقتصادي الاجتماعي التابع والمتخلف!
ما يردّده الإعلام الموجّه من قِبل الأمريكيين والصهاينة ومتابعيهم لجهة أن سلاح المقاومة هو المسؤول عما يعانيه اللبنانيون اليوم من كوارث وانهيارات، هو صحيح، جزئيا، بمقدار ما انعكست وتنعكس فيه مفاعيل المشروع الذي روَّج له، بشكل صاخب، الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كخطة أمريكية صهيونية (بالأساس) سعودية، حملت اسم «صفقة القرن». الهدف كان ولا يزال، في لبنان، تعطيل دور المقاومة فيه، ومن ثم، في سواه من ساحات الصراع مع مشاريع وسياسات واشنطن وتل أبيب وحلفائهما في الخليج، بالدرجة الأولى. وهي مشاريع تتكرر بصيغ جديدة وبهدف واحد: تصفية قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه، والهيمنة على «الشرق الأوسط الكبير» بكامل ثرواته وعلاقاته ومصائره.
تعذَّرَ تعطيلُ المقاومة بقوة العدوان والآلة الحربية الصهيونية المدعومة من واشنطن (خصوصا عام 2006)، فكانت الاستدارة نحو وسائل أخرى، بدت أنجع وأفعل. أبرز هذه الوسائل كان الحقل الاقتصادي الذي هو، بالضرورة، وبفعل قرون السيطرة الاستعمارية على البلدان النامية والتابعة، حقل مأزوم. عدة الشغل باتت، بالإمكانيات والخبرة، جاهزة ومحدودة التكلفة نسبيا، من ذلك تشجيع وإدارة الفساد والنهب والهدر والمديونية وعدم المحاسبة، بعيدا عن خطط ومشاريع التنمية والإنتاج وشروطهما في الداخل ومع الخارج. في مجرى ذلك، تتم إشادة الأساس الصلب للتدهور الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي والتأزم الشامل والمتدحرج الذي وجد في «خصوصيات» النظام السياسي اللبناني عبر صيغة «الكوتا» الطائفية التحاصصية، المانعة لبناء دولة قانون ومؤسسات موحدة وحصينة، خير شريك في تعظيم الأزمة وفي دفعها نحو الاستعصاء فالتفجر! يثير اندلاع الأزمة، وبسببها، النقمة والاحتجاجات. ثم يكون السعي لاستغلالها: فرضا لتوجهات سياسية أو اقتصادية أو الاثنتين معا. يُستحضر لهذا الغرض، وحسب الاستجابة أو عدمها، ما في الجعبة من وسائل الإخضاع بذريعة «الإصلاح». والإصلاح المزعوم هذا ليس سوى تطبيق شروط صندوق النقد والبنك الدوليين، اللذين تديرهما واشنطن. لقد بلغ الأمر في لبنان بسبب تداخل الفساد مع السياسات والصراعات والبنية السياسية والاقتصادية، وكذلك بسبب أولوية استهداف المقاومة، مستوى غير مسبوق لجهة تسريع الانهيار وتعطيل المؤسسات الدستورية ونزع الشرعية عنها، وإقامة «تحالفات» مع مؤسسات أمنية خلافا للأعراف الديبلوماسية وعلى حساب السيادة. هذا فضلا عن إغداق المليارات على قوى وشخصيات مدنية لإحداث تحول في الرأي العام وفي التوازنات الداخلية. ولم يسلم حقل من حقول النشاط السياسي أو الاجتماعي أو الأمني أو الإعلامي، دون محاولة زجّه في معركة «تشويه صورة المقاومة» كما قال السفير الأمريكي الأسبق في لبنان فيلتمان الذي اعترف مباشرة بإنفاق 500 مليون دولار أمريكي لهذا الهدف «النبيل» قبيل عدوان تموز 2006 وبعده!
لا بأس في التذكير بأن المعركة ضد المقاومة في لبنان، التي تحولت إلى معركة ضد الشعب اللبناني نفسه، كانت حلقة في مسار تضمن: الاعتراف بالقدس عاصمة موحّدة لدولة الاغتصاب، الاعتراف الأمريكي بيهودية الدولة، الاعتراف بحق إسرائيل في ضمّ الجولان (وكل ذلك وفق معادلة: «أعطى من لا يملك لمن لا يستحق»). إلى فرض التطبيع مع العدو، على دول خليجية، وعلى حكام السودان الجدد وسواهم خلافا لمصالح الشعب السوداني وتنكّرا لثورته المجيدة المصادَرة.
في الوقائع والمجريات والتقديرات، إن واشنطن، وبدون التقليل من أهمية إزاحة ترامب عن ناصية القرار في البيت الأبيض، واستنادا إلى ثوابت السياسة الأمريكية الراسخة رغم تبدل العهود، تواصل حاليا سياساتها التي باشرتها منذ سنوات: تكثيف الضغوط السياسية والاقتصادية وسلاح العقوبات والمقاطعة والحصار ونزع الشرعية واستكشاف فُرص فرض وصاية على لبنان. تعمل إدارة بايدن بصخب أقل، ولكنْ، ربما بفعالية أكبر. من ذلك الاجتماع الثلاثي لوزراء خارجية أمريكا وفرنسا والسعودية في إيطاليا ودعوة سفيرتي واشنطن وباريس في لبنان، إلى اجتماع غير مسبوق في السعودية، ليس لتنسيق المساعدات كما يوهم أو يتوهم البعض، بل للتنسيق في رفع وتيرة الضغوط تحقيقا للهدف المعلَن دائما، وهو تعطيل المقاومة مهما كان الثمن! دعوة السفيرتين إلى الرياض هي «فاول» جديد يذكّر برفض ممثلي واشنطن اللقاء مع ممثلي مؤسسات الدولة الشرعية، ثم إعلان مسؤولين كبار فيها «التحالف» مع مؤسسة الجيش اللبناني والتباهي بتقديم مساعدات سخية وشاملة له: التدريب والتجهيز للدعم المالي المباشر أو غير المباشر (عبر الحلفاء والأدوات وآخرهم الوزير القطري!). وكانت واشنطن قد ارتكبت «فاولا» آخر حين خرقت حصارها على السلطة من أجل تشجيع المفاوضات غير المباشرة مع العدو الصهيوني؛ أملا في توسيع مناخ التطبيع الذي ترعاه على مستوى المنطقة وتعزيزه. لكن حين فشلت المفاوضات في تحقيق الهدف الأمريكي الصهيوني، جرى تجميدها مع مواصلة الضغوط المشار إليها آنفا، وفي خدمة الهدف نفسه أي تعطيل المقاومة، ولو أدى الأمر إلى تدمير لبنان بشكل كامل أو «زواله» كما حذَّر وزير خارجية فرنسا بكل صراحة ووقاحة!
سيناريو الإجرام الذي وفرت له القوى المتحكمة كل عناصر النجاح عبر إفلاس البلد بالنهب والهدر والفساد والتبعية، (وبرعاية واشنطن المباشرة من خلال «أفضل حاكم بنك مركزي في العالم») يواصل استثماره في الأزمة اللبنانية عبر تعميقها ودفعها إلى حدود الفوضى الكاملة التي يأمل، مع الصهاينة، أن تحقق أحلامهما في الانتقام من هزائمهما في لبنان غير المسبوقة في المنطقة. وليس صحيحا، في هذا الصدد، كل ما يتحدث عنه البعض من تسوية قادمة في مفاوضات فيينا؛ لأن الصهاينة بما يراودهم من مطامع وما يستشعرونه من الفرص المؤاتية بسبب التشرذم والضعف العربيين، لن يتراجعوا طالما أنهم هم من يرسمون سياسة واشنطن في المنطقة! في الأثناء، ثمة خطة أخرى تبرز في الموازاة، تقوم على محاولة بلورة بديل أمني مدني إرهابي لقطف الثمار في الوقت المناسب. في هذا النطاق تشكل الانتخابات النيابية في حال حصولها أو عدم حصولها، ومهما كانت النتائج، منعطفا نحو تغيير يرغب أصحاب مخطط الإجرام أن يكون حاسما وشاملا لإغراق المقاومة ولبنان في الفتن والاحتراب والدماء والانقسامات؛ تمهيدا للتدخل الأجنبي بذريعة المساعدة أو الحماية على غرار ما يعرضه القادة الصهاينة اليوم من استعداد لدعم لبنان في حل أزمته الاقتصادية!
لا يجابه هذا المخطط الإجرامي بالأساليب السابقة بالتأكيد! هذا كلام برسم كل القوى المستهدفة وخصوصا برسم قوى التحرر الوطني والتغيير الإصلاحي الفعلي.