منذ أكثر من عقدين بدأت الدراسات والأبحاث تتزايد عن خطورة مستقبل الوضع المائي في أماكن عديدة في العالم، وعن التحذير من أن حروب الأجيال القادمة ستكون حول المياه أكثر من أي شيء آخر. يبدو أننا بدأنا بالفعل "بالتسخين" لهذه الحروب سواء في مصر أو العراق، ولكن الدول العربية لا تزال تدخل هذه الساحة الساخنة للصراع منفردة، ودون مشروع عربي مشترك.
مع إعلان إثيوبيا بدء ما يسمى "الملء الثاني" لسد النهضة، يكون الصراع على مياه النيل مع مصر والسودان دخل مرحلة خطيرة، تبدو فيها كل الخيارات صعبة. فلا تستطيع القاهرة والخرطوم الوقوف متفرجتين على ضياع حصتيهما من مياه النيل من جهة، ومن جهة أخرى تراوح الجهود الدبلوماسية للدولتين مكانهما دون جدوى، فيما يصبح "الخيار العسكري" -الذي هو بالأساس خيار سيء- أكثر استحالة مع مرور الوقت بسبب مخاطره البيئية والسياسية وتداعياته السلبية على المدنيين في الدول الثلاث المعنية بالصراع.
في العراق، يبدو أن الصراع مع إيران على تقاسم مياه "شط العرب" يزداد حدة ويدخل مرحلة جديدة. فعلى الرغم من العلاقة الوثيقة بين نظامي الحكم في البلدين، بل وتبعية حكومة العراق لطهران حسب اتهامات وشواهد كثيرة، إلا أن شح المياه في العراق دفع وزير الموارد المائية فيها للتلويح باللجوء إلى المجتمع الدولي والأمم المتحدة لمواجهة "عدم التزام إيران بالحصص المائية بين البلدين". ونظرا لطبيعة العلاقة بين حكومتي بغداد وطهران لم يكن هذا التصريح ليخرج من وزير عراقي ضد إيران لولا وصول الموارد المائية العراقية إلى مستوى غير محتمل.
يعاني الأردن هو الآخر من شح المياه، وقد وقعت عمان على اتفاقية لشراء 55 مليون متر مكعب من مياه الشرب سنويا من دولة الاحتلال الإسرائيلي، على أن يستمر الاتفاق لعدة سنوات. يرهن الأردن بمثل هذا الاتفاق مستقبل مياه الشرب الضرورية لحياة شعبه لاتفاقية مع الاحتلال، علما أن نتنياهو عطل نقل المياه للأردن في أكثر من مناسبة، كان آخرها في شهر آذار/ مارس الماضي، بعد خلاف غير معلن مع الأردن.
أما الشعب الفلسطيني، فإن معاناته مع شح المياه هي مستمدة من معاناته مع الاحتلال الإحلالي الغاصب لأرضه. بحسب إحصائية نشرتها مؤسسات إحصائية مختلفة، فإن حصة الفرد في دولة الاحتلال من المياه تتراوح بين 3 إلى 7 أضعاف حصة الفرد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك بسبب سرقة مياه القرى الفلسطينية لصالح المستوطنات في الضفة، إضافة إلى سيطرة الاحتلال على مياه نهر الأردن والبحر الميت وطبريا، ومنع الفلسطينيين من استخراج المياه السطحية إلا بشروط صارمة.
لا تواجه دول الخليج اليوم مشكلات في الحصول على مياه صالحة للشرب والزراعة، وذلك بسبب الوفرة المالية التي تجعل تحلية مياه البحر أمرا ممكنا، ولكن هذه الدول من المتوقع أن تعاني من أزمات كبيرة في مستوى المياه في حال تراجعت عوائد النفط خلال العقود القادمة.
في ظل كل هذه التحديات التي تتعلق بحياة الشعوب العربية ونصيبها من المياه الصالحة للشرب والزراعة، تدخل الدول العربية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين بدون مشروع مشترك لمواجهة مخاطر حروب المياه، بل بأجندات متضادة أحيانا، ومن المتوقع بالتالي أن تخرج خاسرة في هذه الحروب، لأن اعتمادها على دول الغرب وعلى العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي أحيانا أو على روسيا أحيانا أخرى لن يوفر لها الانتصار أبدا، بل ستبقى تابعة لهذا المحور أو ذاك دون أن تتمكن من الحفاظ على مصالحها.
من الطبيعي أن تحصل خلافات بين الدول العربية حول بعض الملفات، وليس مستغربا أن تتناقض مصلحة آنية لدولة عربية مع أخرى كما يحصل الآن في ملف أوبك بين السعودية والإمارات، ولكن المصالح الاستراتيجية والأمن القومي لهذه الدول سيبقى مترابطا، ولذلك فإن أنظمة الحكم -لو كانت تفكر في مصلحة شعوبها- ستتسامح في الملفات الخلافية في سبيل الاتفاق على مشروع موحد بالحد الأدنى لمواجهة مخاطر حروب المياه وغيرها من التهديدات للأمن القومي العربي.
تمتلك الدول العربية أوراق ضغط في المنطقة يمكنها لو تجمعت أن تشكل قوة ضاغطة في الإقليم، سواء في الشرق الأوسط أو إفريقيا، لتحقق مصالح الدول العربية المشتركة. ومن الأمثلة على أوراق الضغط هذه:
· الاستثمارات والعلاقات التجارية مع الدول الإفريقية وإمكانية استخدامها لممارسة الضغط على دول الاتحاد الإفريقي لاتخاذ موقف يراعي مصر والسودان في أزمة "سد النهضة". ولمعرفة أهمية هذه الورقة يكفي أن نعلم أن حجم التبادل التجاري بين إفريقيا وخمسة من الدول العربية يصل إلى 70 مليار دولار سنويا تقريبا.
· العلاقات التجارية مع فرنسا، ومنها صفقات السلاح التي تبلغ مليارات الدولار، والتي يمكن استخدامها كورقة للحصول على موقف فرنسي يمنح مصر والسودان حقوقهما المائية.
· التحالفات الأمنية والعلاقات التجارية مع واشنطن والمصالح المشتركة بين الطرفين، والتي يمكن استخدامها للحصول على دعم أمريكي حقيقي ومؤثر ويتجاوز التصريحات في ملف سد النهضة، وفي ملف الصراع المائي بين العراق وإيران.
· وقف الهرولة والتطبيع مع الاحتلال، بهدف الضغط عليه، ونزع شرعيته في المجتمع الدولي، وفضح جرائمه المتمثلة بسرقة مياه الشعب الفلسطيني، بدلا من التسارع المشين في التطبيع والذي يجعل جرائم الاحتلال بدون ثمن.
· توسيع الاستثمارات العربية المشتركة، وتبادل الخبرات والأيدي العاملة، بهدف تطوير تحلية المياه واستخراجها، خصوصا في الدول التي باتت تعاني شحا خطيرا في المياه بالفعل.
· الانفتاح العربي على العراق، وتوسيع العلاقات التجارية والسياسية والعسكرية مع بغداد، في محاولة للتقليل من الاستحواذ الإيراني على هذه العلاقات، وهو ما سيحقق مصلحة مشتركة لجميع الأطراف، حيث تستعيد الدول العربية علاقاتها الاستراتيجية مع العراق، وتقيم علاقات استثمارية ناجحة بين الطرفين، وتقلل من خطورة السيطرة الإيرانية على موارد العراق المائية والنفطية، وتقلل من نفوذها السياسي في العراق.
تونس تخوض حربا بقيادة غير موحدة
العقبات المنتظرة في وجه دور تركي محتمل في أفغانستان