كتاب عربي 21

من ينزفون ومن يكابرون ومن يغيّرون

1300x600

السياسة؛ كما كل نشاطات الحياة تحتمل الصواب والخطأ، والعاقل من أدرك الخطأ، وصحّح المسار، والجاهل من واصل المكابرة، وزاد الخسائر، وصولا إلى الفشل؛ سواءً مضى إلى النهاية السياسية، أم النهاية الطبيعية.


نتذكّر هذه النظرية وسط هذا النزيف والخراب الذي يجتاح المنطقة طولا وعرضا، ولا يستثني أكثر اللاعبين الرئيسيين فيها، بل حتى الأقل شأنا، ممن يواصلون الفشل أيضا دون تصحيح المسار.


يحلو لبعض المؤدلجين، بخاصة من اليسار، ومعهم قصار النظر أن يحيلوا هذا النزيف وما تخلّله من خراب، إلى ربيع العرب الذي اندلع في المنطقة قبل أكثر من 10 سنوات، كأن مطالب الشعوب في الحرية والكرامة كانت عبثا، أو كأن خروجها السلمي لتحقيق ذلك، كان جريمة تستحق أن تُعاقَب عليها. أما الأسوأ بين هؤلاء، فهم أولئك الذين يتّهمون الجماهير بالتبعية لأجندات خارجية، كأن قدر هذه الأمة أن تستكين للظلم، ولا تتحرّك أبدا لرفعه، مع أن تاريخها حافل برفض الظلم بكل أشكاله.


لذلك نعيد التذكير بما قلناه مرارا وتكرارا؛ ممثلا في حقيقة أن هذا النزيف الذي يجتاح المنطقة لم يكن بسبب "ربيع العرب"، ولا تتحمّل مسؤوليته الشعوب، بل يتحمّل وزره المباشر محوران؛ الأول هو محور الثورة المضادة العربية الذي قرّر أن يعاقب الشعوب على مطالبتها بالحرية والتعددية والكرامة، فدفع بعض أركانه عشرات المليارات لأجل تحقيق ذلك.

 

أما المحور الثاني فهو المحور الإيراني الذي وجد في ربيع الشعوب تخريبا على مشروع تمدّده المذهبي، بخاصة حين وصل سوريا، وبدأ يبشّر بتصحيح الوضع في العراق. أما المحور الثالث فلا يقل أهمية، رغم أن مسؤوليته غير مباشرة تماما، وإن كان موقفه طبيعيا، أعني المحور الأمريكي الصهيوني، والغربي بشكل عام، وبإسناد من سائر القوى الكبرى التي وجدت في ربيع الشعوب تهديدا خطيرا لمصالحها؛ هي التي عاشت طويلا على تناقضات المنطقة وتفكّكها وشرذمتها، وتعاملت مع أنظمة ضعيفة وتابعة، ولا يمكن أن تقبل استبدالها بأنظمة تعبّر عن ضمير الشعوب التي لا تعترف للصهاينة بأي شبر من فلسطين، كما ترفض التعبية للخارج (أيا يكن)، وتريد استقلالية في القرار.

 

اليوم، يمكن القول إن جميع محاور المنطقة قد أصبحت في حالة نزيف مدمّر..


اليوم، يمكن القول إن جميع محاور المنطقة قد أصبحت في حالة نزيف مدمّر، لكن ما ينبغي قوله أيضا، هو أن هناك من بدأ يدرك أن هذا النزيف يستحق إعادة ترتيب للأولويات، بينما يصرّ آخرون على ذات المسار العبثي، دون اعتبار لما جرّه ويجرّه عليهم من تبعات.


في محور "الثورة المضادة"، يبدو أن هناك من يواصل مطاردة "الإسلام السياسي"، كعنوان لربيع العرب؛ برأيه، من دون أن يرى حقيقة أن قواه (قوى الإسلام السياسي)، لم تعد تشكل خطرا عليه، ولا على غيره، أقله في المدى القريب. في ذات الوقت الذي يرتمي في الحضن الصهيوني. أما في المحور الآخر (الإيراني أعني)، فلا يبدو أن هناك قراءة جديدة لما جرى ويجري، وكل التعويل يتمّ على تفاهم مع الأمريكان بشأن اتفاق النووي، يرفع العقوبات، كأن رفعها سيؤدي إلى استعادة سوريا والعراق واليمن ولبنان، بل السيطرة عليهما بالكامل، كأن شيئا لم يكن، أو كأن غالبية الأمة، ستقبل بذلك، ولن تجد طرقا شتى لرفضه ومقاومته، حتى لو عجزت الأنظمة المحسوبة على الغالبية في تحقيق المطلوب. 


نفتح قوسا هنا كي نضع جملة خاصّة بالوضع الفلسطيني في سياق إعادة النظر في المسار، ونعني بها محمود عباس بشكل خاص، وحركة "فتح" بشكل عام، إذ لا يتعظ الأول بفشل عقدين كاملين، ولا تتعظ الثانية من كل ما جرى، بحيث تحافظ على حضورها عبر دفع رئيسها الذي بدأ النصف الثاني من عقده التاسع، إلى الرحيل الطوعي، وتتوافق على اختيار قيادة جديدة تنتمي للشعب وخياراته، ولا تمضي في سياسة تجريب المجرّب.


كما نشير أيضا إلى أن معظم الأنظمة تحتاج لتصحيح مساراتها، ولو فصّلنا لطالت السطور على نحو ممل.


بالمقابل يبدو أن هناك من بدأ يعيد التفكير في مساراته، وإن لم تتضح ملامح ذلك الواضحة حتى الآن، فتركيا تعيد النظر في خياراتها السياسية في ظل نزيف اقتصادي صعب، وفي ظل تناقضات داخلية كبيرة. واللافت أن هذا التطوّر في المقاربة التركية لا يجد صدىً إيجابيا لائقا عند الآخرين (بعضه بسبب سوء الإخراج)، رغم أن نزيفهم كبير جدا، كما هو حال مصر التي تحتاج لمصالحة داخلية، ولموقف آخر من مشروع التمدّد الإيراني، ومن المشروع الصهيوني أيضا، هي التي تعاني تهديدا لأمنها القومي، عبر "سد النهضة"، وعبر المشروع الصهيوني، الذي لا تبتعد أصابعه عن قضية السد، ولن يغادر أحلام الهيمنة على المنطقة، وإن بدا مرتبكا إلى حد كبير، بسبب تناقضاته الداخلية من جهة، وبسبب التغيرات في موازين القوى العسكرية، أقله لجهة التكنولوجيا الجديدة من صواريخ بعيدة المدى، ومن طائرات مسيّرة، بجانب إصرار عجيب من الشعب الفلسطيني على المقاومة والصمود.


الجانب السيء في هذا الجزء، هو أن بؤس الرد على التقارب التركي، يدفع الأخير إلى التقارب مع الكيان الصهيوني أيضا، وهذه ستكون خطيئة كبيرة، أيا يكن تبريرها.


ينطبق الأمر على السعودية، وإن بدا أن هناك ملامح لتغيّرات في المواقف، تبدّت في تناقضاتها مع الحليف الإماراتي المصرّ على تصعيد التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومواصلة الحرب على "الإسلام السياسي" وتجلّياته، والذي لا يقدّم عونا يُذكر لأجل التخلّص من النزيف اليمني الرهيب، ثم جاءت خلافات النفط كي تعزّز الأزمة.

 

ما ينقذ المنطقة حقا، هو توافق بين محاورها الثلاثة (العرب بقيادة مصر والسعودية، وتركيا وإيران)..


ما ينقذ المنطقة حقا، هو توافق بين محاورها الثلاثة (العرب بقيادة مصر والسعودية، وتركيا وإيران)، لكن إصرار إيران على مسارها، يطرح خيارا آخر، يتمثّل في تفاهم عربي (يستثني المُصرّين على خيارات العبث إياها)، مع تركيا التي تبدي رغبة في ذلك، الأمر الذي سيلجم الأحلام الإيرانية، وقد يعيد قيادتها إلى الصواب، في ذات الوقت الذي يلجم أحلام المشروع الصهيوني، ويهمّش قدرة القوى الكبرى على الابتزاز.


إذا لم يحدث ذلك، فستكون المنطقة (أنظمتها الشمولية وشبه الشمولية بشكل خاص) بانتظار انفجارات سياسية بسبب العجز عن مواجهة التحديات الخارجية، وبسبب شراسة القمع في الداخل، فضلا عن واقع اجتماعي سيئ يمثله التدهور الاقتصادي. ومن المؤسف أن نقول إن ملامح المسار الأخير هي التي تلوح في الأفق أكثر من المسار الأول. ربنا يستر.