تحقق أخيراً ما كان تنبأ به جورج أوريل. كنت أعلم أنه عاجلاً أم آجلاً سيحاول النظام السعودي اختراق هاتفي باستخدام برنامج بيغاسوس، الذي تصنعه الشركة الأمنية الإسرائيلية الخاصة التي تسمى مجموعة إن إس أو.
يسلط هذا التطور الضوء على تشكل محور جديد للشر، حيث غدت إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة جوقة من القوى المهلكة التي تستهدف إخماد النشاط وإحباط كل سعي من أجل الديمقراطية في المنطقة، إذ تقدم إسرائيل المعرفة، بينما يقدم الآخرون الأموال.
لا يشكل تخصيص جهاز الأمن الإسرائيلي، وتنامي الشركات الخاصة التي يؤسسها عملاء سابقون في مؤسسات الدفاع والمخابرات الإسرائيلية، تهديداً فقط للفلسطينيين في إسرائيل وغزة والضفة الغربية المحتلة، لكنه أيضاً تهديد لجميع مواطني الخليج، مع مبيعات برنامج التجسس الإسرائيلي للأنظمة الدكتاتورية في أرجاء الوطن العربي.
في المقابل، تحظى إسرائيل بإمكانية الوصول إلى الدوائر الاستخباراتية الداخلية والدول العميقة في الخليج، ما يمكنها من الاحتفاظ بها رهائن لمدة طويلة قادمة من الزمن. تدعم إسرائيل الأنظمة المستبدة في الخليج، ظناً منها أن ذلك يضمن أمنها هي إلى الأبد، إلا أن إسرائيل مخطئة.
إن التطبيع مع إسرائيل عمل لا أخلاقي، ليس فقط بسبب المعاناة الفلسطينية، بل وأيضاً لأنها تشكل تهديداً وجودياً لجميع مواطني الخليج الذين يبتغون الإصلاح السياسي في بلدانهم. لقد رسخت ما يسمى "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) لديها، حتى لم يعد بإمكان أي قدر من الدعاية إنقاذها، ولا مفر من أن تتكثف المعارضة الشعبية القوية لتطبيع الأنظمة العربية مع إسرائيل خلال الشهور والأعوام القادمة.
حكاية المراقبة
تلعب الإمارات العربية المتحدة دوراً أساسياً في حكاية المراقبة التي تمارسها الشركات الإسرائيلية الخاصة. لقد افتتن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بنظيره الإماراتي محمد بن زايد، وغدا خاضعاً لتأثيره. انس أطول بناية وأكثر المطارات إشغالاً ووزارات التسامح والسعادة -وهي كلها في القلب من الدعاية التي تمارسها الإمارات العربية المتحدة- وتذكر أن محمد بن زايد هو الموجه لمحمد بن سلمان.
يجمع بين الاثنين كرههما للديمقراطية والتعددية السياسية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، وكلاهما من أركان محور الشر الذي تشرف عليه التكنولوجيا الإسرائيلية الهدامة، التي تدعي أن غرضها هو مساعدة الحكومات في إلقاء القبض على المجرمين والإرهابيين. إلا أنها تستخدم ضد النشطاء السلميين.
حصلت "حكايات محرمة"، وهي منظمة غير حكومية مقرها باريس تتخصص في الدفاع عن الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان، على أكثر من خمسين ألف رقم هاتف تُستهدف عالمياً من قبل برامج تجسس إسرائيلية لصالح زبائن إن إس أو، والذين هم في الأساس حكومات. قامت هذه المنظمة بتحذير منصات إعلامية متعددة، وبمساعدة من منظمة العفو الدولية أطلقت مشروع بيغاسوس.
يظهر من المعلومات أن محاولة جرت في أبريل/ نيسان من عام 2019 لاختراق هاتفي، لكنها لم تنجح. رغم أن ذلك يبعث على الارتياح، إلا أنني تهيمن علي أحاسيس بأنني بت عرضة للأذى وانتهاك الخصوصية.
للحصول على الدليل من مشروع بيغاسوس، كان علي أن أسلم محتويات هاتفي -الذي أخزن فيه بيانات عن حياتي الخاصة والمهنية- إلى فريقهم التقني.
جلست أمام شاشة الكمبيوتر ثلاث ساعات أشاهد حياتي الفرضية تنتقل أمام عيني إلى مختبر منظمة العفو الدولية، حيث أجري بحث عن برنامج التجسس. حصلت في ذلك اليوم على ما يثبت أن محاولة الاختراق في أبريل كانت فاشلة.
التحكم بالسردية
كمواطنة بريطانية من أصول سعودية، قضيت أكثر من نصف حياتي وأنا أكتب وأبحث وأدرس. ما كان المرء ليتوقع أن يتعرض مثلي للاختراق، إلا أن مثل هذه النشاطات المهنية تعدّ في المملكة العربية السعودية جريمة، حيث عقد النظام العزم على التحكم بالسردية حول الماضي والحاضر والمستقبل.
جريمتي هي أنني خرقت هذه السردية، مستخدمة في ذلك مهارات البحث والوصول إلى سعوديين ما لبثت أصواتهم تعاني من الكتمان. كل أبحاثي ركزت على إعطاء صوت لمن لا صوت لهم، والتي لا مفر أن تشتمل على إجراء مقابلات مع سعوديين داخل وخارج البلاد. إن فضحي للكذب السعودي الرسمي هو الذي يزعج النظام، الذي لم يأل جهداً في تلطيخ سمعتي، واتهامي بالعمالة للحكومات الغربية ولتركيا وإيران وقطر، وقبل ذلك ليبيا والعراق.
في تسعينيات القرن الماضي، استهدفني النظام بالتهديد مباشرة باللجوء إلى العنف، ولكن مع قدوم الإنترنت، غدت تلك التهديدات واقعية، يبثها ويروج لها عملاء النظام. ولم تكن محاولة اختراق هاتفي سوى الحلقة الأخيرة.
وفي عام 2014، تم اختراق حسابي في تويتر؛ بحثاً عن فضائح مثيرة، وربما عن مخططات سرية بالتعاون مع منفيين سعوديين آخرين. لا بد أن من قاموا بعملية الاختراق خاب ظنهم؛ لعدم عثورهم على شيء من ذلك، لكنهم مع ذلك كشفوا عن المحادثة الخاصة التي كانت بيني وبين الشيخ عوض القرني، الشخصية الإسلامية الهامة، والذي أرسل إلي بتحياته، وطلب مني عدم التشدد في نقدي لصمت الحركة الإسلامية عندما يجري اعتقال نشطاء سعوديين بارزين من المدافعين عن حقوق الإنسان.
شن جواسيس النظام حملة للنيل من صدقية القرني؛ لأنه بعث برسالة مباشرة إلى امرأة غير منقبة مثلي. وما زال القرني في السجن منذ سنوات عديدة.
حياة في خطر
لم يكن لدي يوم شيئاً أخفيه، فكل ما أعرفه موثق ومنشور في كتب وفي مقالات. لا توجد لدي أسرار، ولكن هذه ليست الفكرة، فأنا أقدس خصوصيتي، وأبغض التدخل السعودي في حياتي، كما أنني أقلق على من يتواصلون معي من داخل البلد، لأن حياتهم قد تتعرض للخطر.
من التهم التي وجهت للناشط في مجال حقوق الإنسان محمد العتيبي، أنه يحتفظ بكتبي ومقالاتي في جهاز الحاسوب التابع له. ما زال رهن الاعتقال في السجن؛ لذلك فإن من مسؤوليتي حماية أولئك الذين يثقون بي ويرغبون في أن يسمع العالم أصواتهم.
تصادفت جريمة قتل جمال خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 مع تشديد الرقابة السعودية على من يعيشون في المنفى في بريطانيا وكندا وغيرهما. ضاعف من الصدمة الناجمة عن تفاصيل قتل وبتر أعضاء الصحفي المسالم المخاوف من حدوث عمليات اختراق؛ فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها المنفيون عن أن شركة إن إس أو تساعد السعوديين في اختراق هاتف شاب منفي يعيش في كندا اسمه عمر الزهراني، الذي كان قد تواصل مع خاشقجي، وتحدث معه حول مشروع إقامة منصة إعلامية لتفنيد الدعاية السعودية.
كانت تكاليف تأمين هاتفي هائلة، ولكن كان الأمر يستحق ذلك. في حين لم تنجح محاولة الاعتداء على هاتفي في أبريل/ نيسان 2019، ليس لدي شك في أن محاولات أخرى قد تجري في المستقبل.
كنت في عام 2019 قد شاركت في حوارات مع عدد من المنفيين في ثلاثة بلدان حول تأسيس حزب سياسي، وهذا ما يفسر محاولة اختراق هاتفي في ذلك الوقت. كان النظام يبحث عن مزيد من التفاصيل حول من يدعم مثل ذلك المشروع، ومن هم الذين يشاركون فيه. تحقق المشروع في الثالث والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2020، وهو اليوم ذاته الذي تحتفل فيه المملكة بعيدها الوطني، حينما أعلنت مجموعة صغيرة من النشطاء، بمن فيهم أنا شخصياً، تأسيس المجلس الوطني السعودي. تم اختراق هاتف يحيى العسيري، الأمين العام للحزب، وظهر اسمه في ملفات بيغاسوس.
الوقوف في وجه القهر
انتقلت من المجال الأكاديمي إلى النشاط السياسي؛ لأن النظام السعودي ارتكب جرائم بشعة، ولأن حياة المنفيين، بما فيهم حياتي، باتت في خطر. لقد استهدفني النظام السعودي عندما كنت أكاديمية، ثم بعد أن صرت ناشطة سياسية. من المؤكد أن مثل هذه الهجمات سوف تستمر في الشهور والأعوام القادمة.
كما كنت في أبريل/ نيسان 2019 أكتب كتاباً عن علاقات الدولة والمجتمع، لم يكن ثمة شرير سوى محمد بن سلمان، الذي اعتقل مئات السعوديين، ودفع العشرات إلى اللجوء إلى المنافي.
حيرني تصوير وسائل الإعلام الغربية للأمير على أنه مصلح عصري، بينما السجون السعودية تضيق بمن يزج فيها من سجناء الضمير الأبرياء، ومن النساء اللواتي يطالبن بإنهاء التمييز ضدهن. في الوقت ذاته بدأ السعوديون في الشتات يتجمعون؛ لذا من المؤكد أن كتابي "الملك الابن" غدا مصدر إحراج كبير.
في عام 2019، بدأت تتشكل معارضة سعودية حقيقية في المنفى، تقف في وجه القهر والدكتاتورية. يعتمد حزب المجلس الوطني السعودي على مواقع التواصل الاجتماعي للاتصال وتبادل الآراء، ما يجعله عرضة للأخطار، كما تبين فعلاً من جريمة قتل خاشقجي ومن اختراق هواتف النشطاء. ولكن بعد ما تم الكشف عنه من خلال مشروع بيغاسوس، لا مفر من أن يعود حزب المجلس الوطني السعودي إلى الأساليب التقليدية في التعبئة وفي اللقاءات وممارسة النشاطات.
بفضل برامج التجسس الإسرائيلية والتواطؤ الإماراتي والاختراقات السعودية، سوف يتوجب على المنفيين البحث عن أساليب آمنة لتبادل المعلومات وللقيام بالتعبئة. ولما كان الكثيرون منهم قد لجأوا إلى الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وعدد آخر من الأقطار الأوروبية، فإن تلك الدول تتحمل مسؤولية حمايتهم من المراقبة السعودية، وإلا فإن ثمة خطر حقيقي من تكرار مأساة جمال خاشقجي.
ينبغي تنشيط الدبلوماسية لوقف محور الشر من نشر مزيد من الرعب والخوف، وربما حتى القتل، وإذا لم يفلح ذلك، فينبغي انتهاج أسلوب فرض العقوبات، على الأقل في بريطانيا، حيث يقيم اثنان من مؤسسي حزب المجلس الوطني السعودي.