ثمة مؤشرات على بدء تحسن العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران بعد أن شهدت حالة من التوتر والعداء مما أسفر عنه تسميم الأجواء بين البلدين وإحداث حالة من الاستقطاب الشديد في منطقة الخليج والعالم العربي. ولكن على الرغم من انعقاد أربعة اجتماعات مؤخراً في بغداد واجتماع آخر في نيويورك، إلا أن من السابق لأوانه القفز نحو الاستنتاج بأن البلدين الخصمين يوشكان على إنهاء عقود من التوتر والتنافس.
أفضل ما يمكن أن ينجم عن ذلك هو وقف التراشق باللغة العدائية، واستئناف الدبلوماسية الرسمية وإبرام اتفاقيات تجارية جديدة يمكن أن تساعد البلدين اقتصادياً في ظروف بالغة الصعوبة.
يجري السعوديون والإيرانيون محادثات منذ شهور، وكلاهما يتأمل في وقف العداء المتبادل. وطبقاً لما صرح به وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان فقد كانت المباحثات خلال الجولة الأخيرة "ودية".
إلا أن المحادثات بقيت محاطة بالسرية، مما يشير إلى بطء التقدم في مسارها، هذا لو كان هناك تقدم بالفعل. بالإضافة إلى ما نشر مؤخراً من تقارير حول استئناف العلاقات التجارية وما ورد من مؤشرات إيجابية فيما يتعلق بالبعثتين الدبلوماسيتين في كل من طهران والرياض، المغلقتين منذ عام 2016، ثمة حاجة للاتفاق على العديد من الملفات ذات العلاقة بالشؤون الإقليمية، والتي استغلها الطرفان لتحقيق غايات داخلية تتعلق بكل واحد منهما.
فقد انهمك الطرفان السعودي والإيراني في التنافس الإقليمي من أجل تهدئة واحتواء واسترضاء جماهيرهما المحلية، وكلاهما سعيا من خلال هذا الصراع لاستعراض القوة إقليميا وإسكات المعارضة داخلياً.
إسكات الناقدين
رفعت المملكة العربية السعودية عقيرتها بالحديث عن التهديد الإيراني الخارجي من أجل إسكات كل من ينتقد القيادة السعودية وقمع المعارضة الداخلية وإشاعة مناخ من الخوف والقلق.
وكان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد هدد قبل عامين بأنه سينقل المعركة إلى داخل إيران، والتي ظلت تتلقى سهام الاتهام بأنها تسلح الحوثيين اليمنيين على امتداد الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية.
أراد محمد بن سلمان تحقيق نصر على إيران في اليمن والخروج من الحرب في صورة المقاتل الذي عمل على وقف التمدد الإيراني في العالم العربي. إلا أن تعهداته تلك لم تترجم على أرض الواقع، وها هو ولي العهد الآن يجد نفسه مجبراً على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، سعياً وراء مساعدة الإيرانيين في إنهاء الحرب التي دمرت اليمن وأهدرت الموارد السعودية، وأخفقت في تتويجه بطلاً عسكرياً لا ينازع.
إذا كان ولي العهد يخوض حرباً أبدية مع "جمهورية إسلامية توسعية" ومع "خصم شيعي" يساند المليشيات التي تعقد العزم على تقويض الأمن السعودي وتنتشر قريباً من الحدود، فبإمكانه حينذاك أن يقنع السعوديين بأنهم يخوضون حرباً أبدية في مواجهة تهديد وجودي. وهذا يبرر إنفاق مليارات الدولارات ثمناً لمشتروات الأسلحة والعتاد في وقت تتراجع فيه أسعار النفط وترتفع الضرائب، وتتمكن صواريخ الحوثيين وطائراتهم المسيرة من الوصول إلى أهم المرافق النفطية في المملكة.
وفي الجانب الإيراني، يناسب القيادة إقناع الإيرانيين بأنهم محاطون من قبل بلدان معادية لديها ثروات نفطية هائلة تمكنها بمساعدة من الولايات المتحدة من شن حرب داخل الأراضي الإيرانية.
ومثلها في ذلك مثل السعوديين، تستخدم إيران التهديد المزعوم الذي تشكله المملكة العربية السعودية عليها لاسترضاء الجمهور الساخط، والذي يعاني من مصاعب اقتصادية ومن شح في البضائع والخدمات إذ يقبع تحت واحد من أشد أنظمة المقاطعة العقابية التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها. رغم أن المملكة العربية السعودية لن تقوى وحدها أبداً على محاربة إيران، فإن علاقاتها العسكرية الوثيقة مع الولايات المتحدة تجعل منها عدواً يسهل توجيه أصابع الاتهام إليه.
تظلمات مشروعة
في الماضي، عملت إيران على استغلال تظلمات السكان الشيعة في المملكة العربية السعودية، وفي النهاية عمدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع المملكة احتجاجاً على إعدامها للشيخ نمر النمر في عام 2016، حيث تقدم نفسها على أنها القيمة على مصالح الشيعة، ولا تتوانى عن التعبير عن تضامنها مع أتباع مذهبها، الأمر الذي يزعج الرياض.
استغلت المملكة العربية السعودية هذا التضامن الإيراني لقمع معارضيها من الشيعة، الذين توجد لديهم تظلمات مشروعة، بحجة أنهم عملاء لإيران – يشكلون طابوراً خامساً بين ظهراني المسلمين السنة في أرض الحرمين الشريفين.
كما انتقدت إيران إدارة المملكة العربية السعودية لموسم الحج، حتى ارتفعت كثير من الأصوات مطالبة بسحب مدينة مكة المقدسة من الوصاية السعودية وتحويلها إلى ما يشبها الفاتيكان الإسلامي، يديره مجلس من المسلمين. من شأن ذلك أن ينزع من المملكة العربية السعودية جوهرة التاج، وهو مطلب لا يمكن أن يخطر ببال ملك سعودي الاستجابة له.
أضفي على هذا التنافس السياسي رداء من الخطاب الطائفي، إذ تم تهويل حجم الانقسام السني الشيعي في الطرفين وبالتالي تغذية الكراهية والعنف الطائفي.
ينبغي أن تبدأ المحادثات الناجحة بين المملكة العربية السعودية وإيران بحل المعضلة الأساسية، بأن يتوقف البلدان عن استغلال التنافس بينهما لاسترضاء الجماهير المحلية، وبأن يوجها اهتمامهما نحو إحداث إصلاحات سياسية حقيقية. لا شيء سوى ذلك يمكن أن يؤدي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين رغم ما بينهما من خلافات وما لديهما من طموحات إقليمية. وبإمكان المملكة العربية السعودية وإيران أن يستمرا كلاهما في السعي لخدمة مصالحهما القومية الخاصة، ولكن ليس من خلال لعبة عبثية.
بإمكان البلدان المتنافسة أن تعيش في سلام بجانب بعضها البعض إذا ما عززت جبهاتها الداخلية. يتوجب على المملكة العربية السعودية وإيران أن تفهما أنهما من الداخل كلاهما لديهما أنظمة هشة، وأن التهديد الأمني الأساسي لكليهما ينبع من الداخل. يمكن لهذا الإدراك أن يجنبهما ويجنب بقية العالم العربي عقداً آخر من التوترات والمكائد السرية والعداوات وحتى الحروب بالوكالة.