في "سُرور" الصادرة عام 2013 عن "الكتب خان"، والحائزةِ جائزةَ ساويرس عام 2017، يهتمّ "فيصل" بشبكة هُمومٍ متمثّلةٍ في كُنه الإبداع، وعلاقة الإبداع بالمرض النفسي، والعبقرية بالجُنون. تحضُرُني رواية "القمر وسِتّة بنسات The Moon & Sixpence" لسومرست موم، بصِفتها مثالاً واضحًا على معالجةٍ سرديّةٍ لسيرة فنانٍ هو "بول ﮔوﮔان Paul Gauguin" الذي قرر في لحظةٍ ما أن يثور على حياته الهادئة وينطلق إلى جزيرة هايتي ليتابع شغفه بالفن التشكيلي ضاربًا بعرض الحائطِ كُلّ شيءٍ تركَه وراءه. والمهمّ أنّ "موم" قد حشرَ نفسَه في متن الرواية، فهو راوٍ غير متعيّن الاسم يروي لنا ما سمعه ورآه عن البطل تشارلز سترِكلاند/ ﮔوﮔان. أمّا في "سُرور" فإننا نجدُ في متن الرواية شخصيةً مهمةً للغاية هي شخصية "طلال فيصل" باسمِه الحقيقي، صحفيًّا على مشارف الأربعين، يقرر أن يستكمل مشروعَ كتابٍ بدأه منذ سنواتٍ وتركَه، عن الشاعر والمسرحي المصريّ المرحوم "نجيب سُرور 1932-1978".
وكعادة الروايات المنتمية إلى تيّار السَّرد المُحِيل إلى ذاتِه، ينقسم متن الرواية إلى شهاداتٍ مفرَّقَةٍ بين شخصيّاتٍ رئيسةٍ في حياة "سُرور"، بعضُها حقيقيٌّ مثلُ "نجيب محفوظ" و"ساشا كورساكوفا" زوجته الروسية، و"مُشيرة مُحسن" زوجته المصرية، وشقيقه "ثروت". وبين هذه الشهادات يُطِلّ كاتبُنا بشخصيّته البديلة كصحفيٍّ يتركز مشروعه على الفترة التي قضاها "سرور" في مستشفى الصحة النفسية بالعباسية. تتضارب الشهادات فيما بينها، فتَرى "ساشا" أنّ الراحل لم يكن مدمن كحول كما يُشاع، وأنّه لم يُقبل على الخمر إلا بعد أن تآمر عليه أذنابُ النظام الناصري وخانته زوجتُه الثانية "مُشيرة". وترى "مُشيرة" أنّه بعد قصة حُبٍّ تُوِّجَت بزواجٍ قصيرٍ دام عشرة أشهُرٍ فقط، سار "سرور" وراءَ أوهام الاضطهاد والخيانة وبدأ يحاسبها على ما لم تقترفه، واتهمها بخيانته مع "نجيب محفوظ"، حتى استحالت الحياة بينهما إلى جحيم. أمّا نجيب محفوظ فقد جاء كلامُه محافظًا موسومًا بأقصى درجات ضبط النفس – كما يليقُ بمحفوظٍ الذي نعرفُه - باديَ الأسف على ما آلَت إليه عبقرية "سرور" الإبداعية، كما يَذكُر أنه كان مُشفِقًا على الراحل من مشروع زواجه بالممثلة الشابّة، ويرى بوضوحٍ أنّ انفتاحَها في التعامُل مع رِجال الوسط الفنّيّ لن يَرُوقَ "سُرورًا" المُخلِص لجذوره الريفيّة المُحافِظة.
إضافةً إلى هؤلاء، هناك شهادات أطبّاء النفس الثلاثة الذين تعامَلوا مع حالة "سرور"، عبد السلام محسن ثم جلال الساعي في العباسية، ثم كمال الفوّال في المعمورة. الأول نموذج للطبيب المتفوق في دراسته الذي لا يعرف إلا المذاكرة ولا يُلقي بالاً للفنّ، و"سرور" بالنسبة له مجرد حالة. والأخير رجل طيّب، يحرص على الاستماع إلى مرضاه وليس التخصص بالنسبة له مجرد معادلاتٍ وعقاقير. أما الثاني "جلال الساعي" فقد مارس الكتابة وأحبّ بطلَنا واعتبر نفسَه من تلاميذِه، وهو يقدّم أطولَ شهادةٍ في الرواية.
هنا لا يسعُنا إلا أن نستحضِر الصورة الواقعية لـطلال فيصل الطبيب النفسي الذي مارسَ الصحافة شطرًا من حياتِه، ثُمّ أخفى عنّا هنا مهنتَه المستقرّة الحاليّة وقدّم لنا صورةً باهتةً لصحفيّ متعثّر في حياته العائليّة، طلّق زوجتَه قبل عِدّة أعوام، مُحبَط في حياتِه المهنيّة بحُكم ضغوط العمل التافهة، ولم ينتعش كمُترجِم إلا حديثًا جِدّا. وفي هذا البند الأخير يقدّم لنا كاتبُنا نفسَه بصِفَتِه مُترجِم رواية "جنون المتاهة The Quickening Maze" للبريطانيّ آدم فولدز، وهي حقيقةٌ واقعة، ويقول إنّ موضوع تلك الرواية الدائرة حول الفترة التي قضاها الشاعران جون كلِار وألفرِد لورد تنيسن في إحدى المصحّات النفسيّة هو ما أوحى إليه بفكرة الكتاب حول "سرور". إلى هذا الحدّ زرع كاتبُنا نفسَه في روايتِه, وأخفاها في ذات الآن؟! سنعودُ إلى هذا الأمر لاحقا.
سرور وأبو العلاء والكتيبة الخرساء
يعرف قُرّاء "نجيب سرور" تأثُّره بأبي العلاء، فاسمُ ديوانِه "لزوم ما يلزم" مثلاً تنويعٌ على "لزوم ما لا يَلزَم". ويقدّم كاتبُنا هنا سيرةَ "سرور" على خلفيّة شِعر أبي العلاء، فالبطل لا يَنِي يقتبسُ من لزوميّاتِه في حوار الرواية، وأحيانًا يخطر ببالِه بيتٌ للمعرّيّ ثُمّ يقرر ألاّ يحرّك به شفتَيه، ففي المشهد الذي يجمعُه بـ"رجاء النّقّاش" في سيارة الأُجرة يقرر ألاّ ينطق بشِعر المعرّيّ لأنّ "النّقّاش" لن يَفهمَ بحُكم انتمائه إلى جِيلٍ مقطوع الصِّلة بتُراثِه.
أمّا أكثرُ أبياتِ المعرّيّ دوَرانًا في الكتاب فهو "يَرتَجِي الناسُ أن يَقومَ إمامٌ .. ناطِقٌ في الكَتيبَةِ الخَرساءِ". ويردد "سرور" أمام الجميع أنّ الكتيبةَ الخرساء كيانٌ حقيقيٌّ ممتدٌّ في التاريخ، ينتمي إليه أصحابُ الرسالات من الأنبياء والشعراء، شيخُهم المتعيّن في لحظةٍ تاريخيّةٍ هو المعرّيّ، وهو عَينُ ما يقولُه كاتبُنا في مقدمة الرواية تحت عنوان "الكتيبة الخرساء".
فهل أرادَ "سرور" أن يكون هو الإمام الناطق في الكتيبة الخرساء؟! إذا كان المسيح شخصيًّا أحد أفراد هذه الكتيبة في تصوُّر "سرور"، فإنّ ذلك الإمام الناطقَ بالضرورة لا يقف عند حَدٍّ في صِدامِه مع الظُّلم والقُبح والشّرّ والخيانة بأنواعها. إنه ثائرٌ ليس مِن سقفٍ لثورتِه ولا يَسكُن. ثائرٌ على مُواضَعات المجتمع، وعلى الخارجين عليها في ذات الآن! هل يبدو ذلك لُغزًا؟ إن بطلَنا يكره الطبيب "عبد السلام" ويعتقد أنه موظف في مباحث أمن الدولة، خاصّةً أنه لا يُقيمُ وزنًا للفنّ. وهو في الوقت ذاتِه يُذيقُ زملاءه في الوسطَين الفنّيّ والأدبيّ أمَرَّ السخرية من مُجونِهم وتجارتهم بمبادئهم. يفخرُ بطلُنا بأنّ له جسدَ رجُلٍ فلاّحٍ خشِنٍ، لكنّ الشهادات تواتَرَت على أنه لم يكن يتّصِل بأهله في قريته الريفيّة إلا قليلاً جِدّا.
اقرأ أيضا: كيف نفهم الأدب وكيف نفسره؟
نقرأ في حوار البطل مع طبيبِه "الساعي" أنّه لا يلزم لتتحقق خيانةُ الزوجةِ أن يكون قد رآها في وضعٍ شائنٍ مع الروائيّ الكبير، وإنما يكفي أن يَلمحَ في عينِها النظرةَ المتمنّية، وأن تُجيبَ عن سؤالِه عمّا إذا كان ممكنًا أن تخونَه في سبيل الشُّهرة بأنها تحتاجُ أن تُوضَع في موقف الاختيار لتعرفَ ما ستختارُه، ولا يلزم أن يجتمع "عبد الناصر" مع أفراد نظامِه ليتآمروا على "سرور"، وإنما يكفي أن يكونَ مسارُ الحياةِ التي يُقِرُّها نظامُ الدولة قامعًا لأصحاب الرسالات ليعتبرَ "سرورٌ" هذا المسارَ تآمُرًا عليه.
من هذه الشواهِد يبدو أننا أمام رجُلٍ أخلاقيٍّ تمامًا على مستوى المبادئ والقَناعات، لكنه في طريقِه إلى إقرار الحَقّ يحاسِب الناس على ما تختلج به أفئدتُهم وما تُحدِّثُهم به أنفسُهم وإن لم تُترجِمه جوارِحُهم إلى أفعالٍ ملموسة!
أمامَنا حِوار "محفوظ" مع "سرور"، حين يتذرّع الأخير بشِعر المعرّيّ، فيرُدّ "محفوظ" بأنّ المعرّيّ عاشَ لفنّه يستودِعُه آراءَه ولم يصطدم بالناس. هكذا يبدو أنّ "محفوظًا" قد تناغَمَ مع إيقاع المعرّيّ أكثرَ ممّا فعلَ "سُرور". ولعلّ الإشارة العارضةَ إلى مفهوم الأديب الذئبِ الذي لا يكُفُّ عن مناوشةِ مَن حولَه مثلَ "سُرور" في مقابل الأديب الثعلب الذي يتخفّى ويمكُر ليُكمِل مشروعَه مثل "محفوظ"، نقولُ لعلّ هذه الإشارةَ تمتدُّ إلى المعرّيّ نفسِه، فهو بالتأكيد أقربُ إلى الثعلب بما فرضَه على نفسِه من عُزلةٍ وبما اختارَه له القدَر من حرمانٍ من نعمة البصر.
الحَقّ أنّ "سرورًا" ظلّ يردّد إيقاعاتِ المعرّي متصوّرًا أنه إمامُه، بينما يُفنى نفسَه في صراعاته مع مُحيطِه الثقافيّ. حتى في تناصّه مع لزوميّات أبي العلاء، اختارَ أن "يلزمَ ما يَلزمُ" متصوّرًا أنه يُحمِّلُ شِعرَه رسالةً مُقدَّسةً ويلصقُه بضروريّات الوجود التي يدافعُ عنها، بينما المعرّيّ ضرب بسُورٍ بينه وبين الناس ليستطيعَ أن يقولَ ما يُريدُ، وحتى في وسط الشعراء أقام سورًا حولَ أثرِه الخالدِ بالتزامِه ما لا يَلزَمُ من رَوِيٍّ صعبٍ ودورَانٍ مُثابرٍ حولَ الحكمة. ولعلّها ليسَت مُصادَفةً أن يُورِدَ كاتبُنا نصًّا نسبَه لقلمِ "سُرور" بعنوان "الزوج والكلاب"، يتخيلُ فيه "سرورٌ" نفسَه بعد فِراقِ "مُشيرة" مكفوفَ البصرِ مُعتزِلَ الناس في رُفقةِ كلب. لعلّها اللحظاتُ التي اقتربَ فيها بشِدّةٍ من نموذج "أبي العلاء"، حققها على الورَق وقد فشل في تحقيقها بلحمه ودمه.
طلال فيصل – المُتخَفِّي
قِيلَ في بعض مُراجَعات الرواية إنها تعرضُ حياةَ "نجيب سرور"الذي كان نبيًّا بينَ الأوغاد، كما تقول إحدى شخصيات الرواية. لكنّي أرى أنّ هذه ليست زاوية الرؤية التي أرادَها كاتبُنا. لقد أخفى الكاتبُ اشتغالَه بالطبّ النفسيّ، وأوقفَنا على ثلاثة نماذج من الأطباء النفسيين. ولعلّ القراءة العَجلَى للرواية تجعلنا نظنّ أنه يتعاطفُ مع "جلال الساعي" الأديب الطبيب المنجذب إلى "سرور"، لكننا نطالع في المقدمة قولَ "فيصل": "وأما من طرقوا الباب ولم يُؤذَن لهم بالدخول فليسوا بالكثير، ولكنّا لا نزال نذكر منهم آحادًا كان سعيُهم مثارًا للتأمُّل، وكانت خطوتُهم واسعةً غيرَ أنها لم تُفضِ إلى شيء. يَلوحُ في الخاطر – ونحن نتذكرُ – منهم جلال الساعي..." إلى أن يقول "جلال" عن نيّته في كتابة مذكّرات لقاءاته مع "سرور": "ربما كان كلُّ ما فات من حياتي من طب نفسي وسفَر وشهادات وادّعاءٍ للكتابة ليس إلا تدريبًا على هذه المهمة المقدّسة."، فتُعلِّق المقدمة في تعجُّبٍ ساخر: "المهمة المقدسة! وتوشِكُ ابتسامةُ مولانا الضرير أن تنقلِبَ ضحكًا صريحا."
إنّ "الساعي" كثيرًا ما يردّد أنه في ممارسته الطب النفسي يقصد إلى الإنسان الذي خلقَه الله بيدَيه ونفخَ فيه من رُوحِه. ولا نَجِدُ مثلَ ذلك عند "عبد السلام محسن" رغم تديُّنه، وإنما الجُملة الأبرز عند الأخير هي اعتقاده أنّ خرفاتِ "فرويد" و"يونج" إلى زوالٍ، وأنّ الطبّ النفسيّ سيَخلُصُ يومًا ما للعقاقير. وبين هذَين الضِّدَّين نجِد مُركَّبًا أهدأ هو "كمال الفوّال" الذي يُعالِج بالعقاقير ولا يتنكّر لـ"تفانين" صديقِه "الساعي" كما يسمّيها، ولا مريضِه "سرور".
هذه الأقطاب الثلاثة – إن جاز التشبيه – تذكّرُنا بالمعتزِلة الذين حاولوا النفاذَ إلى كُنه الألوهيّة بالعقل، ويمثّلهم "الساعي" في سعة خطوتِه وإيمانه بشاعر العقل/ الجنون "سرور"، والمُشبِّهة الذين أخذوا النصوص على ظاهرِها دون محاولةٍ للتأويل ممثَّلِين في "عبد السلام"، والأشاعرة في إيمانِهم المقيَّد بالعقل وبأن له حدودًا لا يتجاوزُها، ممثَّلين في "كمال". أو ربّما يجوز تشبيهُ "عبد السلام" بـ"بافلوف" الذي قرّبّت تجاربُه مفهوم الكائن الحيّ من مفهوم الآلة، ومِن ثَمّ فالعقاقيرُ أنجعُ الحلول معها، و"الساعي" يُرادِف "فرويد" و"يُونج" في طموحِهما إلى النفاذِ إلى كُنه النفس، و"كمال" هو الناتج الطبيعيّ لسيادة كلمة "فتجنشتاين" الذي سفّه مفهوم النفس الكامنة وراء الجسَد وقال إن النفسَ ما هي إلا السُّلوك الظاهر، فجاء أقربَ إلى احترام حدود المعرفة العقلية الممكنة بالنفس!
أمّا "طلال فيصل" الحقيقيّ فقد تخفّى وراء شخصيّته البديلة، وداخل هذا التخفّي جعلَ أنجحَ نشاطٍ للشخصية البديلة هو نشاط الترجمة بما تنطوي عليه من اختفاءٍ للمترجِم وراء نَصّ المؤلّف الأصليّ، ليتطابَق بذلك مع الصورة التي يرسمُها للكتيبة الخرساء في المقدمة: "أما نحنُ فنقفُ هنا على الحافة، ونقولُ، إننا قد نشاهدُ، وقد نفسرُ، وقد نتيقنُ وقد نستخلصُ العبَر، وليس لنا في آخر الأمر غير الانتظار."
خلاصة
في مقابل أدباء كِبارٍ مُعاصِرين ينفون عن الفنّ كونَه رسالةً، ظانِّين أنهم ينزّهونَ الفنّ بذلك عن السقوط في فجاجة الوعظ وفخّ الأخلاق المُعلَّبة، يبدو لي أنّ رسالةً مبطنةً في هذه الرواية تؤكّد أنّ لكلّ نَصٍّ إبداعيٍّ رسالةً أخلاقيّةً لا يمكن أن تنفصِلَ عنه، لكنّ المشكلة تَظهَر حين يظُنّ الفنّان أنّ الفَنّ مُقَدَّسٌ، وهو ليس كذلك، بل هو ساقِطٌ في الدنَس بالضرورة لاختلاطِه بوسائطَ مُدنَّسَة. ولأنّ "سرورًا" وقعَ في هذا الخَلط، اختلط عليه الواقعُ بالوهم، وفشل في التماس الأعذار لغير البُسطاء في سقطاتِهم، ووقع وراءَه "جلال الساعي" فسعى حثيثًا مؤمنًا بطلاقة العقل وقداسة الفنّ، والأمر ليس كذلك! أمّا "طلال فيصل" فقد فهم ماهيّةَ تلك الكيانات المُربكة "العقل – الفنّ – المُقدَّس والمُدنَّس"، أو على الأقلّ أدركَ أنّ الفهمَ الكاملَ خارج طاقة البشر، ولو كان فنانًا مبدعًا كنجيب سرور!