اندلعت
الصراعات الدموية في
القرن الأفريقي بعد هدوء واستقرار لم يدم طويلا، وهذا نتيجة طبيعية لصراع النفوذ في المنطقة بين القوى الاستعمارية الحديثة، وبسط النفوذ الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، يُضاف إلى ذلك الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به دول القرن الأفريقي المطلة على منفذ باب المندب وبحر العرب، وهو المدخل الرئيسي للبحر الأحمر وطريق التجارة البحرية العالمية. وفي هذه الفترة تطوف أساطيل القوى الكبرى في هذه البحار، في منافسة شرسة للاستيلاء على طرق التجارة البحرية والموانئ البحرية لتأمين مشروعاتها المستقبلية.
فالصين صاحبة الأسهم الاستثمارية العليا في شركات الإنشاءات والمقاولات والشركات الفنية في مشروع سد النهضة الإثيوبي، تتضمن الشركات مجموعة "Gezhouba" الصينية المحدودة للإنشاءات والمقاولات، وشركة "Voith Hydro Shanghai" الصينية التي تعمل في استكمال بناء محطة التوليد بالسد.
وبحسب وسائل إعلام إثيوبية وعالمية، فإن الشركات الدولية العاملة في المشروع تتضمن "ساليني إمبريجيلو" الإيطالية، التي تتولى دور المقاول الرئيسي.
كما تتضمن تلك الشركات "ألستوم" الفرنسية التي تقوم على أعمال التوربينات والمولدات والمعدات الكهروميكانيكية، وكذلك مجموعة الهندسة الميكانيكية الألمانية "فويث" التي تم الاتفاق معها على توريد توربينات.
وهنالك بصمة أمريكية في المشروع "إكس" السري. والسد الذي عملت الحكومة الإثيوبية على تخطيطه وتصميماته سرا تحت اسم "المشروع إكس"، اعتمد في اختيار الموقع على دراسات قام بها مكتب الاستصلاح الأمريكي (تابع لوزارة الداخلية الأمريكية)، في الفترة بين عامي 1956 و1964.
وأجرت إثيوبيا مسحين آخرين لموقع التنفيذ في تشرين الأول/ أكتوبر 2009 ثم في الفترة بين تموز/ يوليو وآب/ أغسطس 2010 قبل أن تنتهي من التصميم في تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، بينما لم تعلن إثيوبيا عن تصميم "المشروع إكس" سوى قبل شهر واحد من وضع حجر الأساس، ليتغير اسم المشروع لاحقا إلى "سد الألفية" ثم "سد النهضة".
في ظل هذه الظروف المحيطة تندلع حروب المياه بين دول المنطقة، خاصة عدم اتفاق دول حوض النيل على آلية ملء سد النهضة وتعنت إثيوبيا في إشراك دول حوض النيل خاصة، مصر والسودان في عمليات الإشراف والمتابعة، وفشل تلك الدول في التوصل إلى اتفاق مرض للمصالح المشتركة للاستفادة من مياه النيل.
شهدت إثيوبيا اندلاع أشرس الحروب المناطقية والجهوية بين شعوب إثيوبيا منذ تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وأدى ذلك إلى تحرك كرة اللهب نحو أقاليم العفر والاورومو والصومال (أوغادين)، فضلا عن الحرب الشرسة التي تورط فيها آبي أحمد مع إقليم تيغراي، الذي يمتلك أشرس المقاتلين وأقوى الجيوش التي لها خبراتها العسكرية، والتي تتحرك تحت قيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي دخلت في حروب طاحنة مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي المدعوم من إريتريا، ودخول القوات الإريترية إلى مناطق التيغراي والأمهرا، يضاف إلى ذلك الادعاء الإثيوبي بملكية منطقة الفشقة على الحدود الشرقية وحالة التعبئة العامة هناك.
كما أن هناك مخططات إقليمية ودولية لتأجيج الصراعات الإثنية والقبلية، حتى تتمكن تلك الدول الاستعمارية من رسم خرط جديدة وتعديلات في التقسيم الاستعماري الذي مضى عليه أكثر من مائة عام. فالجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لها طموحاتها وتسعى عبر قوتها العسكرية إلى فرض واقع جديد على المنطقة، وبعد تمكنها من تحطيم الجيش الفيدرالي الإثيوبي تحت قيادة الأمهرا انطلقت نحو إقليم العفر، ودمرت الفرقة الإثيوبية المرابطة هناك وأسرت قائدها، لقطع طرق الإمداد البرية والسكك الحديدية وخنق أديس أبابا، فضلا عن تحركات جبهة الأورومو لدخول المعترك والفوضى القتالية بين كل الأطراف المعنية في دول القرن الأفريقي وإثيوبيا على وجه الخصوص.
أيضا تقوم جبهة التيغراي بتهيئة المنطقة لفرض واقع جديد بعد تصفية حساباتها مع الجيش الإريتري، ومن المتوقع جليا أن منطقة المرتفعات الإريترية سوف تكون مسرح القتال القادم في عملية كسر العظم بين أفورقي وجبهة التيغراي، الطامحين إلى صناعة واقع جديد وفق مخططات مدعومة دوليا أو من أحد المحاور.
إن اندلاع الحروب الإقليمية والمناطقية والعرقية والإثنية بين شعوب القرن الأفريقي يقع ضررها على تلك الأمم، وإنه بات من المؤكد انعكاس تلك التقاطعات على مناطق شرق
السودان، لتلتهما نيران الحروب الدموية الزاحفة نحو السودان، الذي يقع في مأزق عدم الإدراك الجيوستراتيجي للتداخل والتشابه بين شعوب القرن الأفريقي. ولن تدفع أديس أبابا وحدها فاتورة الانهيار الأمني، بل ستدفع كل من أسمرا والخرطوم فواتير قاسية؛ نتيجة للهشاشة الأمنية واتساع رقعة المعركة وامتدادها.
إن التعامل السطحي وغير الاستراتيجي بمخاطر الصراع في القرن الأفريقي، ربما يؤدي إلى كوارث لا تحمد عقباها، والمتابع للأوضاع في شرق السودان يستشف أن هنالك مخططات كبيرة ذات أجندة مخابراتية تعمل على تغذية الفتن وتأجيج الصراعات القبلية الهامشية، لتنشغل تلك المجموعات القبلية بصراعاتها الداخلية وتفاجأ بأن هنالك أمرا قد دبر بليل، وتجد نفسها خارج الإطار العام للتقسيم الجديد في القرن الأفريقي.
إن السودان بالرغم من إطلالته على البحر الأحمر، إلا أنه ليس من صناع القرار فيه، بل تابع دون نظرة استراتيجية واضحة. وربما تتضرر مصالحه الاستراتيجية إذا لم يتم تدارك الأمر، وعلى الدولة السودانية وصانعي القرار فهم طبيعة صراعات القرن الأفريقي وتقاطعات المصالح الاقتصادية والاجتماعية، والسعي نحو وضع خطط وبرامج لفرض هيبة الدولة.