إن السودان بالرغم من إطلالته على البحر الأحمر، إلا أنه
ليس من صناع القرار فيه، بل تابع دون نظرة استراتيجية واضحة. وربما تتضرر مصالحه
الاستراتيجية إذا لم يتم تدارك الأمر وفهم طبيعة صراعات القرن الأفريقي وتقاطعات
المصالح الاقتصادية والاجتماعية.
تأتي مبادرة دولة إرتريا بخصوص أزمة شرق السودان عقب انتهاء
القتال المدمر في إثيوبيا بين إقليم التيغراي من جهة، وحكومة آبي أحمد وحليفه الرئيس
أسياس أفورقي من جهة أخرى.
تأتي المبادرة الإرترية في ظروف معقدة يعيشها السودان في
صراع الانتقال المؤلم، حيث تقدمت الحكومة الإرترية بمبادرة للتدخل في قضية شرق
السودان باعتبارات استراتيجية؛ أن أي تفكك فيه ينعكس سلبا على الأوضاع في إرتريا.
وصل الوفد الإرتري وقابل أطراف الأزمة في الشرق، من مؤيدي
مسار الشرق ومعارضيه وبعض قيادات الإدارة الأهلية في الخرطوم، وبعلم ومعرفة تامة
من الدولة السودانية على مستوى رؤسائها وقيادتها العليا.
وقد أبدت كل الأطراف موافقتها للمبادرة الإرترية، وإذا
كانت المبادرة الإرترية الغامضة سياسية فليس في ذلك ضير أو ما يمنع وللحكومة الإرترية
تجربة في رعايتها لاتفاق اسمرا 2005م سيئ الصيت، الموقع بين حكومة السودان وجبهة
الشرق رغم إخفاقاته وإجحافه بحقوق المناطق المتأثرة بالحرب في محليات طوكر وعقيق
وريفي كسلا وريفي همشكوريب وتوقان واللانقيب.
وعبر اتفاقية 2005م وصل حليف أفورقي؛ موسى محمد أحمد إلى
قصر الحكَم في الخرطوم، ولا زال يسعى ليلعب دورا آخر عبر فتنة القبائل، ولكن الأمر
في المبادرة الإرترية يشوبه الكثير من الغموض، حيث دعت إرتريا في مبادرتها نظار
وشيوخ وعُمد المكونات القبلية إضافة إلى مؤتمر البجا- جناح موسى وجناح شيبة ضرار
الذي يعرف نفسه بالفريق، وهو أحد الضالعين في الفتنة القبلية، يضاف إلى تلك
المجموعات تنظيم الجبهة الشعبية المتحدة وهو تنظيم ظهر مع اتفاقية جوبا، وما يسمى
مسار الشرق بقيادة الأمين داؤدو شاويش وشريكهما مؤتمر البجا المعارض بقيادة أسامة
سعيد، ومجموعة مسار شرق السودان وهي مجموعة لا تملك أي خبرة سياسية وباحثة عن
مناصب تنفيذية ومتدثرة بتحالفها مع الجبهة الثورية.
وكذلك قدمت الدعوة لمجموعة من النشطاء الذين ظهروا عبر
وسائل التواصل الاجتماعي والذين كان لهم الضلع الأكبر في بث خطابات الكراهية
المجتمعية، أمثال سيد أبو امنة وكرار عسكر اللذين ما فتئا يسيئان لقبائل البني
عامر والحباب في كل سانحة إعلامية، وربما كان الأمر بتوجيه من جهات خارجية، وهم اليوم
أول المهرولين نحو إرتريا ومعهم الوزير السابق في حكومة إيلا، الصادق المليك،
ولفيف من النشطاء السياسيين من عناصر المؤتمر الوطني.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شمل قادة المكونات
القبلية ومنهم الناظر سيد محمد محمد الأمين ترك، ناظر قبائل الهدندوة ورئيس مجلس
البجا وهو أول الواصلين إلى معبر اللفة الحدودي، والناظر محمد طاهر حسين، ناظر
قبيلة الجميلاب والكورياتي، وهي إحدى بطون الهدندوة المنفصلة من نظارة ترك، وصاحب
سجادة همشكوريب الشيخ سليمان علي بيتاي، الصديق المقرب من أسياس أفورقي ومك
البوادرة (زعيم قبيلة البوادرة) وقيادات من النوبة والهوسا، وناظر قبيلة الحباب
كنتيباي حامد محمود، ووكيله العام ورئيس مجلس شورى الحباب؛ عبد الله حسين اياسو.
تم توجيه الدعوة لناظر البني عامر علي إبراهيم دقلل،
والذي رفض قبول الدعوة واعتبر أن هنالك خلطا في المسألة بين ما هو سياسي وما هو أهلي
واعتذر رسميا عن حضور المؤتمر. وتحفظات الناظر دقلل تتمثل في أن الحكومة الإرترية
لم توضح أجندة وأهداف المؤتمر وأوراقه، ودعوة جهات تدعي بأنها نظارات أهلية وجهات أخرى
تسببت في خطاب الكراهية المجتمعية التي أدت إلى إزهاق أرواح الأبرياء.
ويبدو أن دقلل له مآخذ على الحكومتين؛ حكومة إرتريا
بتطلعاتها للتدخل وحكومة السودان بتباطؤها واهتزاز موقفها من قضية الشرق وتماهيها
مع خطاب الكراهية.
توافد الوفود نحو معبر "اللفة" الحدودي
لتتفاجأ القوات الأمنية في المعبر الحدودي بهذا العدد الكبير وهي لا تعلم بما يجري،
واتصلت بحكومة الولاية في كسلا والتي لا تعلم كذلك ولم يتم إخطارها رسميا بأن
هنالك وفدا سوف يغادر إلى إرتريا. ويبدو أن هنالك خطأ أو خللا برتوكوليا
ودبلوماسيا حدث نتيجة لاستعجال الدبلوماسية الإرترية لعقد المؤتمر دون التنسيق
الجيد مع أجهزة الدولة السودانية، مما أغضب قيادات كبيرة في السودان من هذا العمل.
إن الحدود بين البلدين مغلقة منذ عام 2018 ولم يصدر أي
قرار رسمي بفتحها، ناهيك عن أن تعبر وفود وسيارات وباصات، والمحزن أن معظم أعضاء
تلك الوفود لا يملكون جوازات سفر أو تصاريح عبور.
تواصلت الاتصالات مع الخرطوم للسماح بعبور هذه الهيصة لإرتريا،
ولكن يبدو أن الخرطوم صحت متأخرة كالعادة واتخذت قرارها وأوقفت هذا العبث الذي
يحدث في حدودها الشرقية، مع العلم أن الخرطوم لها تجارب مع حاكم إرتريا (أفورقي) الذي
سبق له أن دخل الأراضي السودانية عبر الحدود البرية بجنوب طوكر حتى وصل إلى ميناء عقيق،
ليتفاجأ أفراد القوة العاملة في عقيق بوصول وفد متجه إلى بورتسودان بدعوة من حاكم
الولاية حينها محمد طاهر ايلا، عراب أفورقي في المنطقة.
تم توقيف الوفد الأهلي المتجه إلى أسمرا لحضور المؤتمر
المزمع عقده بخصوص أزمة شرق السودان في معبر اللفة الحدودي لأكثر من خمس ساعات،
لحين وصول قرار المركز من الخرطوم.
وأصدرت الحكومة السودانية قرارها بإعادة الوفود الأهلية
ورفضها عبور تلك المجموعات لحين صدور قرار بفتح المعابر بين الدولتين. على الجانب الآخر
من الحدود كان سفير إرتريا في السودان، رجل المخابرات المخضرم، في انتظار عبور
الوفد لمعبر اللفة الحدودي، وعندما علم بعدم عبور الوفد إلى النقطة 13 والتي تبعد أمتارا
قليلة وأن الحكومة السودانية أصدرت قرارا بإعادة الوفد إلى كسلا، تدخل وطلب استضافة
الوفد لتناول وجبة الغداء في المعبر 13 الإرتري فوافقت الجهات الأمنية لجبر خاطر
السفير، والذي أكرم أعضاء الوفد واعتذر لهم وخاطبهم، وصفقوا له وبعضهم هاجم
الحكومة السودانية ووصفها بأنها التي تزرع الفتن بين القبائل للاقتتال.
ليت الحكومة السودانية أدركت ما يراه ناظر البني عامر،
الحكيم علي إبراهيم دقلل، من مخاطر الانزلاق الإقليمي في الشؤون الداخلية وما بين
الشأن الأهلي المجتمعي وصراعات الجماعات السياسية غير الراشدة والمهددة للأمن
القومي السوداني، وضعف تعاطي الحكومة مع قضايا الشرق وتعاملها بانتقائية.
استشاط غضبا وفد مؤتمر البجا لعرقلة الحكومة السودانية
للمبادرة، وهو من حلفاء أفورقي في شرق السودان وتغلب عليه الرؤية الانفصالية التي
يشجعها أفورقي، لذا يقربه أكثر من المجتمعات والتنظيمات الأخرى التي تختلف جذريا
مع رؤية الانفصال خاصة نظارة البني عامر التي تسعى إلى الوحدة أكثر من غيرها، على
الرغم من دفع الحكومة السودانية البني عامر نحو التطرف بالتضييق عليها وتماهيها مع
الجماعات الانفصالية.
يبدو أن صراعات شرق السودان والتدخلات الإقليمية الباحثة
عن الموانئ وساحل البحر الأحمر الاستراتيجي الذي دخل محور الصراع الدولي؛ بين
النفوذ الأمريكي الذي يرفض التفريط فيه والتطلعات الروسية والصينية والإسرائيلية
عبر وكلائها في المنطقة العربية.. أمر يحتاج إلى وقفة جادة.
تجربة انقلابيّة عراقيّة صدريّة لساعات!
اغتيال الصدر ومحاكمة المالكي وهجوم دهوك!
إعادة بناء الدولة ما بين المعوقات والتحديات