حضرتُ محاضرة في خريف 2017، لأحد أساتذة العلوم السياسية، وكان قد جعل عنوان مقرره الأكاديمي "مدخل إلى العلوم السياسية"، أثناء المحاضرة استوقفه زميل ليسأله، وكان من ضمن جوابه، أنه حضر لقاءً لواحدة من كبار خبراء البيت الأبيض في شأن دولة آسيوية، أظنها كانت الصين، وكان أستاذنا وزملاؤه لا يزالون في بداية تدرّجهم الأكاديمي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، فسألها الحاضرون في شتى القضايا المتعلقة بالنزاعات في العالم، في ذلك الوقت، ولكنها كانت تجيب كثيرا بقولها لا أعرف.
يقول الأستاذ، فاستخففنا بها، كيف لا تتحدث في هذه الأمور وهي في هذا المنصب، بينما هم شباب ويتحدثون فيها بأريحية؟ ثم ذَكَرَ أن مُحدِّثَتَهُم تعلّلت بعدم جوابها لأنها متخصصة في شأن محدد، ولا يمكن للبيت الأبيض أن يقطع فيه دون أخذ رأيها. فكان الدرس الذي لازَمَ أستاذنا وأراد أن يغرسه فينا، هو أن نتواضع للعلم، وألا نتحدث في كل شأن، وأن نحصر تحليلنا في القضايا التي نملك زمامها، ونعرفَ القَدْر الذي يسمح لنا بالتحدث، وهذا القدر يجب أن يكون مصحوبا بالاستدلال المتماسك، لا الهَشِّ، ولا ينبغي أن نعتقد باحتكارنا للحقيقة. هكذا سار أستاذنا إلى أن طَعَنَ الآن في الخمسين من عمره، وهكذا علَّمنا، أو على الأقل تعلَّمتُ.
نجد في مقابل هذا الدرس، الذي يوازي شهادات، سيلا من التحليلات حول الوضع في أفغانستان وبعد سيطرة طالبان، ونجد مدار هذه التحليلات حول أوضاع المرأة الأفغانية عقب سيطرة حركة طالبان على الحكم، وهذه المخاوف محل اعتبار، لكنها في الأغلب تخرج ممن لا ينشغلون، بنفس القدر والشراسة الهجومية، باضطهاد المرأة في مجتمعات "النور والحضارة"، خاصة ما يتعلق بالحريات الدينية للمسلمات في الدول الأوروبية التي تضيّق على اللاتي يسترن رؤوسهن، وهي حالة تضعنا أمام ازدواجية في الحُكم أو انهزامية أمام الثقافة الغربية.
المساهمات التي ظهرت في الفضاء الإلكتروني، لا تكاد تشغل حيزا معرفيا يفيد دولة عانت لعقود من الاحتلال الأجنبي، أو محاولات الاحتلال الأجنبي على وجه الدقة، وهي المحاولات التي أوجزها الصحفي والسياسي آلان غريش في افتتاحية موقع "أوريان 21" فكتب عن المغامرات الخاسرة في أفغانستان: "جرّبت ذلك الإمبراطورية البريطانية بصفة كارثية ثلاث مرات خلال التاريخ الحديث في 1842 و1881 و1919. بالنسبة للأوليين كان الهدف "تفادي" التقدم القيصري في آسيا الذي كان يهدد الهند، الجوهر النفيس للإمبراطورية. أما الثالثة فتعلق الأمر بمواجهة تنامي الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار في هذا البلد. جرّب بعد ذلك الاتحاد السوفييتي حظه "لتفادي.. التخطيطات الإمبريالية". وها هي اليوم الولايات المتحدة التي تنسحب بعد أطول حرب في تاريخها تم خوضها باسم ضرورة سحق الإرهاب".
هناك من يحاول أن يفيد الأفغان للخروج من تيه الاحتلال، أو الاستبداد سواء كان علمانيا أو مستترا وراء النص الديني، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه المجتمع الأفغاني، كيف يتخلص من الأصابع الخارجية القذرة التي تعوّق استقلاله وإرادته الحرة، وكيف يتخلص من الاستبداد الداخلي ليعيش بكرامة وحرية، ويستفيد من ثرواته الاجتماعية والاقتصادية
حاولت الإمبراطوريات أن تحتل البلد الفقير ولم تنجح، رغم أن أغلبها محاولات لغرض آخر لا يتعلق بالدولة نفسها، وهو احتقار ما بعده احتقار لأبناء هذا البلد، أن تقوم بتدمير نظام سياسي واجتماعي، وتعيق النمو الاقتصادي المتدهور أصلا، وفوق كل ذلك تقتل الآلاف من أبناء ذلك الشعب، لأجل غايات لا علاقة لها بهذا البلد المنكوب على مدار تاريخه الحديث، فإذا كان السلوك عنيفا من الدول الكبرى، ويصاحبه احتقار وازدراء، فما المتوقَّع من ردود أفعال بعض أبناء هذا الشعب؟
يعاني الأفغانيون من هذه الويلات وغيرها، وفوق هذا يجدون أنفسهم أمام سيل ممن يحاولون أن يدلوا بدلوهم الفارغ في الشأن الأفغاني، وقطعا هناك من يحاول أن يفيد الأفغان للخروج من تيه الاحتلال، أو الاستبداد سواء كان علمانيا أو مستترا وراء النص الديني، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه المجتمع الأفغاني، كيف يتخلص من الأصابع الخارجية القذرة التي تعوّق استقلاله وإرادته الحرة، وكيف يتخلص من الاستبداد الداخلي ليعيش بكرامة وحرية، ويستفيد من ثرواته الاجتماعية والاقتصادية، وحقوق المرأة الأفغانية جزء من التحدي الذي يواجه نظام طالبان، لكن تداول السلطة، واتساع قاعدة أخذ القرار، والفصل بين المؤسسات، وتعزيز سيادة المجتمع، هي القضايا التي تضبط مسار النظام والمجتمع، وإذا ضيّق نظام على حريات جنس أو جماعة، فإن تداول السلطة سيمنع ديمومة التضييق.
إن تجربة شعوب العالم الثالث مليئة بمحاولات الاحتواء، والتدخلات إذا كان نظام الحكم لا يوافق هوى القوى الكبرى، خاصة المتقاربة جغرافيا مع الدولة المعنيّة، وتجارب وصول التيارات السياسية الدينية للحكم، محكومة بالرفض المبدئي، أيا كانت طريقة الوصول، بالصندوق أو بالسلاح، وهذه دائرة مفرغة يخسر بسببها المعتدلون الذين يسعون إلى إرساء قيم التعايش، وبناء جسور التلاقي مع المختلفين فكريا ودينيا، ونظرا "لإفشال" هذه التجارب يزداد التوتر، وتترسخ قناعات العنف، وتوضع المتاريس أمام خطوط التماس التي كان يمكن الالتقاء عندها.
ما يحتاجه الأفغان اليوم وطالبان أيضا، مد يد العون لأجل إرساء نظام ديمقراطي، وأن يشعر الحكام الجدد أنه يمكن دمجهم في محيطهم وفي المجتمع الدولي، أما التهجّم وقطع المساعدات التي كانت تصل قبلهم لنظام مستبد وفاسد، لن يجدي في رفع معاناة الأفغان، وتجارب حصار الجماعات التي تتبنى قناعات دينية لم تفلح في طول العالم وعرضه، لا في إيران ولا لبنان ولا فلسطين ولا مصر ولا غيرهم، فالجماعات ذات القناعات والتربية الدينية يتغذى متشددوها على المِحَنْ، ويتغذى عقلاؤها على المِنَ، التي تخرج عن المفهوم الاقتصادي لتبلغ الديمقراطية وتداول السلطة.
أما ما يحتاجه كل امرئ لنفسه، أن يعرف قدْره، وقد قيل "العِلْم ثلاثة أشْبار، فمَنْ أدرك الشِّبْرَ الأول تكبَّر، ومن أدرك الشبر الثاني تواضع، ومن أدرك الشبر الثالث عَلِمَ أنه لا يعلَم"، ونحن أمام خَلْقٍ كثيرين ممن وقفوا على أبواب المعرفة وظنوا أنهم أحاطوا بما لم يُحِطْ غيرهم به خُبْرا.
https://twitter.com/Sharifayman86
ما يلزم طالبان.. مكتب لردِّ الشبهات والأكاذيب