"أنت فقير قوي.. إحنا فقرا قوي قويييي".. يتردد أن هذا هو السبب الرئيسي لخروج الممثل الغاضب ومن تبعه من زملائه
الممثلين من قاعة حضور فيلم "ريش" خلال عرضه في أحد المهرجانات في
مصر مؤخرا. وبغض النظر عن دقة ذلك من عدمه، فالجميع يعلمون أن هذا القول هو تصريح شهير للمنقلب
السيسي خلال عام 2017؛ ليعبر من خلاله عن رؤيته لمصر وللمصريين.
وكان الأولى بالممثل "المحموق" نفاقا أن يغضب من صاحب التصريح إن كان ما يهمه هي سمعة مصر، وليس مجرد "تمام يا فندم" أو "وصلة نفاق" رخيصة في ظل ما يحيط بهذا النظام من مؤسسات نفاقية متكاملة تقوم بهذا الدور المشبوه، في سياق المزايدة في مسألة الوطنية، وفي ظل ما تعيشه مصر من مستويات فاضحة من الترخص والإسفاف. ومع ذلك فإنه لا يمنعنا من مناقشة قضية
الفقر والافقار في بر مصر؛ وهي مسألة رغم تجذرها إلا أن البعض اتخذ منها مجالا للدعايات الممجوجة والكذب المتعمد والنفاق الرخيص، وتجاهل أن معدلات الفقر في مصر تتزايد وتتراكم على نحو غير مسبوق.
وفي محاولة لتغيير الصورة بل وتزييفها، لجأت الحكومة المصرية إلى الطريقة المجربة من أنظمة الفساد والاستبداد العتيقة، فالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لا يتورع عن أن يتلاعب بالأرقام المتعلقة بحد الفقر لتحسين الصورة، مع أن ذلك لن يغير الواقع الراهن الذي يشهد تآكلا بل اندثارا مخيفا للطبقة المتوسطة في مصر. وقد رصد أحد أساتذة الاقتصاد النابهين هذه الظاهرة بالإضافة إلى إشارته المهمة بتحيز: "الحكومة في نفقاتها العامة إلي فئة محدودة من المجتمع، على حساب الشريحة الواسعة من المواطنين، وأن ادعاء الفقر والعوز لا يكون إلا في مواجهة احتياجات البسطاء، بينما تبسط الحكومة يدها على اتساعها لتلبية مطالبات فئات أخرى، بما يترتب عليه الكثير من الآثار السلبية اجتماعيا واقتصاديا". الفقير لا يأكل أرقاماً.. فحينما نقول له إننا نصرف على الصحة أضعافاً مضاعفة أو غير ذلك.. فإنه لا يهمه إلا حاله السيئ الذي يزداد سوءاً. فحديث الأرقام التي صار تزييفها احترافا بالنسبة للمواطن لا يُسمن ولا يُغني من جوع.
في محاولة لتغيير الصورة بل وتزييفها، لجأت الحكومة المصرية إلى الطريقة المجربة من أنظمة الفساد والاستبداد العتيقة، فالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لا يتورع عن أن يتلاعب بالأرقام المتعلقة بحد الفقر لتحسين الصورة، مع أن ذلك لن يغير الواقع الراهن الذي يشهد تآكلا بل اندثارا مخيفا للطبقة المتوسطة في مصر
الفقراء في مصر يتخذون أشكالاً متعددة، منها الفقر المورَّث ضمن محدودية "الملك أو المال أو الميراث"، والفقر المكتسب المتعلق بتدهو الحال والمآل بفعل محدودية الدخل المفترسة من غول الغلاء، أو بطالة مفروضة، أو غير ذلك من أمور تؤدي إلى زيادة مساحة الفقر الموروث، تضاف إليها عناصر الفقر المكتسب، فتزيد منافذ "الإفقار في بر مصر". إذ ينضم لنادي الفقراء كل يوم أعضاء جُدد من غير رسوم عضوية أو شروط، ما عليك إلا أن تصل أو تُوصَل لحال "الفقير" العاجز، الذي كانت ثورة يناير محاولة للخروج على ذلك الواقع المتردي، ومن ثم فإن العداء الحقيقي من نظام الثالث من تموز/ يوليو هو لثورة يناير والتي يُحمّلها كل الكوارث التي حلت بمصر؛ رغم أن
الاستبداد وحراسة التخلف من نظام فاشي هو العلّة الأساسية في هذا السياق.
فهم لا يريديون تحسين أوضاع الفقراء في مصر، ولكن يشغلهم في المقام الأول تحسين صورة الفقر نفسه، ومنع من يتحدث عنه، واتهام من يحاول ذلك بأنه يعمل ضد مصر، مع أنه في حقيقة الأمر من يعمل ضد الوطن والمواطن هو من يراكم الفقر وينشره في ربوع البلاد. فالفقر في جوهره إنما يشير إلى أحوال فساد تتفشى في جنبات المؤسسات المختلفة للدولة، كما أنه يشكل انحرافا تغذيه السلطة الراهنة التي تتجاهل الحقيقة الكبرى والتي يتغافل عنها كل سدنة هذا النظام؛ من أن تكلفة ذيوع الظلم والاستبداد أعلى بكثير من تكلفة إقرار العدل والإنصاف.
الفقر هو عملية تنطوي على علاقات قوة غير متكافئة، وتوزيعٍ غير عادل للثروة: "ما جاع من فقير إلا بما متع به غني". ومن ثم كانت حركة الإسلام ورؤيته في التعامل مع الفقر، باعتباره مسألة تتلازم في عمقها وخطورتها مع الكفر؛ ومن هنا يجب أن نفهم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ إني أعوذ بك من الكفر والفقر.." فهل بين الفقر والكفر من صلة؟ وهل تقاعس الدولة عن واجبها في مواجهة الفقر ليس إلا زحفاً على الدين؟ وزحفاً على كيان الإنسان؟ وهل إبقاؤه على حاله ليس إلا إخراجا من حال "التكريم الإنساني" بالفعل البشرى؟ إن أبسط حقوق "إنسان- المواطنة" أن يجد حقوق الحد الأدنى من الكفاف الإنساني للمحافظة على البنيان والكيان؛ فالإنسان بنيان الله، ملعون من هدمه، وهدمه أنواع؛ أخطرها فقرٌ مُذِلّ، وعِوَزُ حَاجةٍ قاهر، وربما يكون مُضِلاًّ، إلا أن أخطر أنواع الإفقار أن تصد الفقير عن نهضته بحاله، وتعيق سعيه لإنهاء حال فقره، وتسد منافذ الحراك في وجهه أو محاولة ارتقائه، فذلك إزهاق لروح الفقير وإيصاله إلى حال من اليأس المفضي للكفر والعياذ بالله.. أليس ذلك زحفاً على المواطنة وزحفاً على الدين؟!!
الفقير واقع بين سندان المستبد وأعوانه ومطرقة الإفقار المتعمد كاستراتيجية لمنظومة الاستبداد، فالمستبد لا يريد أن يحسن أوضاعه أو يوفر له ما يحفظ كرامته، بل يريد منه أن يعاونه على إذلاله وفقره وأن يدفع قوت يومه ومن يعول ليبني المستبد مزيدا من القصور أو يشتري طائرات رئاسية أو يشيّد مباني فارهة، بينما يهمل وجود فصول دراسية في المدارس الحكومية بدون مقاعد
الفقير واقع بين سندان المستبد وأعوانه ومطرقة الإفقار المتعمد كاستراتيجية لمنظومة الاستبداد، فالمستبد لا يريد أن يحسن أوضاعه أو يوفر له ما يحفظ كرامته، بل يريد منه أن يعاونه على إذلاله وفقره وأن يدفع قوت يومه ومن يعول ليبني المستبد مزيدا من القصور أو يشتري طائرات رئاسية أو يشيّد مباني فارهة، بينما يهمل وجود فصول دراسية في المدارس الحكومية بدون مقاعد؛ فإذا ما طالبت بأدنى الحقوق وجدته يصرخ في وجهك: "عايزين تاكلوا مصر؟"، ولا يهتم بتحقيق المطالب أكثر من اهتمامه بالتحقيق والكشف عمن سرب هذه الصور التي تكشف عن الحقائق الدامغة عن فشل هذا النظام في تحقيق أبسط المطالب والضرورات التي تتعلق بحال المواطن العادي، فتكون مشكلته الكبرى في تصوير ذلك الأمر أكثر من القيام بمعالجته ومواجهة تلك المطالب الضرورية والتعليمية الملحة. ونرى أن الأمر لا يختلف كثيرا عن حالة الإنكار التي يتخذها هذا النظام مع زبانيته وجوقته ومنافقيه؛ من مثل هؤلاء الممثلين الذين انسحبوا إبان عرض هذا الفيلم بدعوى الاعتراض على تلك المشاهد الفاضحة حول أوضاع الفقر والعشوائيات في مصر.
إنها معركة الوعي التي تدور رحاها بين فريقين؛ فريق يحاول أن يفضح ويكشف هذه الأحوال التي تتعلق بحقوق المواطنين الأساسية في التعبير عن آلامهم ومشاكلهم، وفي المطالبة بالحد الأدنى من ضروراتهم الأساسية في التعليم والصحة ومختلف الخدمات، وبين فريق آخر احترف النفاق ويروج لإنجازات وهمية كاذبة لا تصب بحال في عيش المواطن الكريم أو الإنصاف في نيل حقوقه الأساسية والتأسيسية.
لعل تنبه النظام الاستبدادي لخطورة هذه المعركة جعله يتحدث عن الوعي، وهو في حقيقة الأمر يطمس كل مسالكه، ويسعى من كل طريق لتزييف وعي الناس، وتشويه قيم المواطنين، وإيجاد قيم يدعي جدتها وهي مسكونة بالزيف، رابطا كل ذلك بمصرهم الجديدة وجمهوريتهم الثانية التي لا مكان فيها للفقراء
ولعل تنبه النظام الاستبدادي لخطورة هذه المعركة جعله يتحدث عن الوعي، وهو في حقيقة الأمر يطمس كل مسالكه، ويسعى من كل طريق لتزييف وعي الناس، وتشويه قيم المواطنين، وإيجاد قيم يدعي جدتها وهي مسكونة بالزيف، رابطا كل ذلك بمصرهم الجديدة وجمهوريتهم الثانية التي لا مكان فيها للفقراء، واعتبار ضروراتهم ومعاشهم، فهي المكان الآمن لسلطانه وطغيانه وزبانيته وأعوانه. ففي الجمهورية الجديدة لا يكفي أن تصمت ولكن يجب أن يكون لديك موقفا تنحاز فيه للسلطة مطلقا، من غير تعقيب، بل إنه قد يجود ويزايد في هذا المقام مستبقا رغبات السلطة؛ ضمن تلمس مطالبها ومحاولة تطبيق استراتيجية "أحلام سعادتك أوامر". وفهم موقف الممثلين وخروجهم من القاعة ربما كان استباقا لموقف النظام بشأن الفيلم ورفض محتواه.
إن عملية التزييف الممنهجة لمسألة الوعي تجعل هذا النظام مدعيا كل يوم بأن رفع الأسعار أو رفع الدعم إنما يصب في النهاية في مصلحة المواطن. هكذا يزيف الحقائق، فالغلاء ليس إلا تحريكاً للأسعار، و"محدودو الدخل" ليس إلا شفرة الفقر والإفقار، و"أطفال بلا مأوى" هو الاسم المهذب لأطفال الشوارع وتشردهم. هكذا يجري تمويه الكلام واغتصاب معانيه وقلبه، ضمن عملية كبرى من الاستيلاء على المواطنة وعلى كل قيمها وفاعلياتها، إلا أن مثل هذا الحال لن يدوم، فـ"مواطنة الفقر" تحدث حالة مستعصية من "فقر المواطنة".
twitter.com/Saif_abdelfatah