اشتهرت سلّة أنيس منصور "الأرواحية" في مصر، وتجاوزت طبعات كتابه "حول العالم في 200 يوم" أربعين طبعة، ووردت فيها قصة سلّة تحضير الأرواح، وبنى عليها مجدًا كبيرًا، وأحسب أن الكاتب أحمد خالد توفيق مشى على آثار خطوات أنيس منصور قصصا، فكتب في علوم ما وراء الطبيعة المثيرة، فانتشرت كتاباته أكثر من كتب نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، بل إن البوطي أشار في كتابه "كبرى اليقينيات الكونية" إلى سلّة أنيس منصور، وتحدّث عن قعر السلّة، لكن ليس عند منصور شهود، وهو كاتب وروائي وسياسي متلوّن وصاحب خيال، وليس رجلًا عدلًا، ولديه أكاذيب كثيرة، منها كذبته على محمد علي كلاي، وقصته مع المقرئ الشيخ مصطفى إسماعيل معروفة، وفيها طلب منه قبل لقاء تلفزيوني أن يشكو من نواقص في الحياة، لكن مصطفى أصرّ على أنه سعيد ولا يشكو شيئًا، فهو رجل يحبُّ "الشو" والدراما في القصص.
وغرض تحضير الروح هو إقامة الاتصال بين أقارب الميت الأحياء ومحبيه وروحه والسؤال عن حاله و"صحته" في العالم الآخر، أما كيفية تأمين التغطية من شبكة الاتصالات الروحية من عالم البرزخ، فتتم عن طريق السلّة، أو عن طريق وسيط روحي، ويمكن الاستعانة بفلم روائي حاز نجاحًا كبيرًا هو فلم الشبح لفهم طريقة الوسيط الروحي، وهناك طريقة لوحة الأرقام والحروف التي تشبه اليانصيب، وطريقة المرأة الوسيط، ويزعم العارفون بفنِّ تحضير الأرواح أن المرأة ناقلة جيدة للأرواح، والوسيط في فلم الشبح سيدة أفريقية.
وزعم أنيس منصور أنه استحضر عدة أرواح، هي روح السيدة روز اليوسف، وروح بيتوفهن، كما استحضر روحًا لشهيد مصري تلبست بسيدة مصرية، وعلقت فيها وأبت مغادرتها ربما بسبب أزمة السكن في عالم الأجساد، حتى إنَّ الجسد الذي لصقت به عانى منه، وقد اجتهد وقتًا حتى فرّق بين الروح والجسد وهو يجوب البلاد بحثًا لها عمن يفكّها، كانت الروح قد سكنت في الجسد وترفض إخلاءه، وبينما أنيس منصور يحدثنا عن تحضير روح أو روحين، كان النظام المصري يحصد أرواح أشرف أبناء مصر في الهزائم من اليمن إلى مصر حروبًا ومعتقلات، ويذكر منصور بعض أضرار تحضير الأرواح التي انطلقت في قرية بوجود قرب العاصمة الأندونيسية، التي انشغل بها الطلاب، فمنعتها الحكومة وحظرتها، وتسببت في جرائم وجنايات.
وبلغ الانشغال بتحضير الأرواح في مصر أن كتب محمد حسنين هيكل عن جلسات تحضير الأرواح التي يجتمع فيها كبار رجال السياسة المصريين ومعاونو الرئيس جمال عبد الناصر، ومنهم الفريق أول محمد فوزي، وسامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات، وشعراوي جمعة وزير الداخلية، ففي جريدة الأهرام سنة 1971، وقد أنكر مصطفى محمود قصة تحضير الأرواح، وكشف الساحر الأمريكي هاري هوديني عن الكثير من حيل تحضير الأرواح في واقعة حدثت سنة 1922 ونشرتها صحيفة الجارديان، فقد كان ساحرًا محترفًا يقدّم عروض خفة اليد أمام الجميع بطرق ذكية جدًا، ولا يدّعي أنه ساحر خارق القدرات.
لقد برع المسلمون في تحضر الأرواح من غير سلّة أو وسيط أو أرقام أو حروف، ومن غير أثمان، فالوسيط الروحي يطلب أجورًا لتحضير الروح، وكان أحدهم إذا أراد الاتصال بروح فكّر في مصيره، فرآه في الرؤيا فسأله: ما فعل الله بك، أو ما صنع الله بك، فيعرف هل هو في الجنة أو النار، أما الروحانيون المعاصرون، فيتصلون بالروح المسلكية لغايات أخرى، وتحفل كتب التراث برؤى الصالحين، والرؤيا بالحديث النبوي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، ونجد كثيرًا من هذه المنامات في مصنفات أمثال "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام"، وكتاب "الفرج بعد الشدة"، وهو عنوان لمؤلفين مختلفين، و"جامع كرامات الأولياء" و"المنامات لابن أبي الدنيا، وسواه كثير، بل لا تخلو كتب السيرة والتراجم من الرؤى التي يتصل فيها الأحياء بالراحلين، وكانوا يرون الصالحين والظالمين، ومن ذلك، عن الأصمعي أنه قال: أقبل رجل إلى يزيد بن أبي مسلم فقال له: إني كنت أرى الحجاج في المنام، فكنت أقول له: ما فعل الله بك؟ قال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة، وأنا منتظر ما ينتظره الموحدون.
ثم قال: رأيته بعد الحول، فقلت: ما صنع الله بك؟ فقال يا ابن الفاعلة! أما سألتني عن هذا عام أوّل فأخبرتك؟ فقال يزيد بن أبي مسلم: أشهد أنك رأيت أبا محمد حقًا.
بل إن المسلمين الصالحين كانوا يرون البهائم في الرؤى، ورد في كتاب "نثر المحاضرات" لمنصور بن الحسين الرازي أنه َحدث مُحَمَّد بن الْحجَّاج قَالَ جَاءَنَا بشار يَوْمًا وَهُوَ مُغْتَم فَقُلْنَا لَهُ مَا لَك مغتمًا فَقَالَ مَاتَ حماري فرأيته فِي النّوم فَقلت لَهُ لمَ مت ألم أكن أحسن إِلَيْك فَقَالَ:
(سَيِّدي خُذ بِي أَتَانَا.. عِنْد بابِ الأصبهاني)
(تَيَّمتني ببنانٍ.. وبِدَلٍّ قد شجعاني)
(تَيَّمتني يَوْم رحنا.. بثناياها الحسان)
(وبِغَنْجٍ وَدلالٍ.. سلَّ جسمي وبراني)
(وَلها خدٌّ أَسيلٌ.. مثلُ خدِّ الشن فراني)
(فَلِذَا مُتُّ وَلَو عِشْت إِذاً طَال هواني..)
والمسلمون يجدون الرؤى صادقة ويحملونها على الصحة ويتفاءلون بها، وليس فيها أذى لأحد، وهي مجانية ليس فيها أثمان وأسعار وتجارة وشعوذة، فهي رؤى ترد على الصالحين، وهم ثقات وعدول، ولا وسطاء بها، لا تستطيع الحكومات أن تحظرها، لأنه ليس فيها ضرر ولا طاقة لها بمنعها، وقد جعل أبو العلاء المعري الرؤى واقعًا في رسالة الغفران، والغالب على الظنِّ أنها مقتبسة من الإسراء والمعراج، ومنها اقتبس دانتي الجحيم.
وهناك رؤى تربوية تحضُّ على الحق والخير والصلاح، فهي ثمر الدنيا وحصاد العمل الصالح أو الطالح، بل إن "تحضير الأرواح" يجري بتوفيق من الله، قد يخبرنا عن المستقبل ويدلنا على إصلاح الأعطال في رؤى كثيرة، وكشف المغاليق وإغاثة الملهوف.
أمس رأت سيدة سعودية رؤية عرفت فيه مكان سعودي ضاع وتوفي في الصحراء، فكان كما وصَفتْ.
من خبراتي وذكرياتي أن ابنة صديق لي، وكانت في الخامسة من عمرها، توفي لها قريب ملحد، كان يدعو إلى الإلحاد في كل مجلس، وبعد وفاته، قالت لأبويها أنها رأته وهو يحترق في النار، ولم يكن قد ذكر أمامها شيئًا عنه.