منذ انطلقت جولات الحوار الرسمي بين
تركيا ومصر مطلع أيار/ مايو الماضي، فإنها لم تراوح مساحة التهدئة الإعلامية من الطرفين، حيث طلبت تركيا من القنوات
المصرية التي تبث من أراضيها تهدئة خطابها تجاه النظام المصري، وإيقاف ستة مذيعين بها، في حين أوقفت السلطات المصرية الحملات الإعلامية المناهضة لتركيا.. لم تتحرك المفاوضات التي مضى منها جولتان أكثر من ذلك حتى الآن، في ما بدا أنه تعبير عن استمرار أزمة عدم الثقة بين الطرفين، لكن الأصح هو أن كلا الطرفين دخلا هذه المفاوضات لاستهلاك الوقت حتى مرور الانتخابات الرئاسية في تركيا منتصف العام 2023، والمصرية في العام 2024.
تصريحات الرئيس التركي
أردوغان قبل أيام، والتي أكد فيها عزمه تطوير
العلاقات مع
مصر و"إسرائيل" على شاكلة ما حدث مع الإمارات مؤخرا، لم يواكبها تحرك فعلي لتحديد جولة جديدة للمفاوضات، كما أن الإعلام المصري عاد لسياسته السابقة ضد تركيا. ولا تبدي القاهرة حماسا للمضي بجدية في المفاوضات، عكس أنقرة التي تبدو أكثر حرصا على تطوير العلاقات التي تراها مهمة لإعادة ضبط خارطة التحالفات في الشرق الأوسط بما يعود بالمصلحة على كلا الدولتين.
لا تبدي القاهرة حماسا للمضي بجدية في المفاوضات، عكس أنقرة التي تبدو أكثر حرصا على تطوير العلاقات التي تراها مهمة لإعادة ضبط خارطة التحالفات في الشرق الأوسط بما يعود بالمصلحة على كلا الدولتين
المشكلة أن هذه التحالفات منها ما هو استراتيجي يصعب تغييره، مثل التحالف المصري اليوناني الممتد منذ الستينات وحتى الآن، والذي أضيف إليه مؤخرا قبرص وإسرائيل ضمن تحالف شرق المتوسط، ولا يمكن لمصر الخروج بسهولة من هذا التحالف. وفي المقابل هناك التحالف الاستراتيجي التركي القطري الذي نجح في كسر الحصار الرباعي المفروض على الدوحة، ولا يزال في مرحلة نمو، ومع ذلك فإن تركيا نجحت مؤخرا في تحقيق اختراق مهم على مستوى العلاقة مع الإمارات، والتي كانت تعتبرها أساس كل المصائب، بل اتهمتها بتدبير انقلاب تموز/ يوليو 2016، وأنتجت مسلسلا ضخما (تشكيلات) فضحت فيه الدور التآمري الإماراتي ضدها في مجالات عدة.
كانت زيارة طحنون بن زايد، مسئول الملف الأمني في الإمارات، لتركيا في آب/ أغسطس الماضي هي الفاتحة لصفحة جديدة في العلاقات، حيث تبعها على الفور اتصال هاتفي من شقيقه الحاكم الفعلي للإمارات محمد بن زايد ثم زيارة له إلى أنقرة في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كما نجحت تركيا في تحقيق اختراق جزئي آخر في العلاقة مع السعودية بتبادل زيارات وزراء، وكان من المتوقع ترتيب لقاء لأردوغان خلال
زيارته الأخيرة لقطر مع محمد بن سلمان ولي العهد، لكنه لم يتم.
تبدو تركيا أكثر اهتماما بتطوير العلاقات
مع دول الخليج، فذاك ما يفيدها في مواجهة مشاكلها الاقتصادية الداخلية، خاصة
أزمة الليرة (من نتائج زيارة بن زايد اسثمارات بقيمة 10 مليار دولار كجرعة أولى)، كما أن تطوير هذه العلاقات يوقف أو يحد على الأقل من الفتن والمؤامرات التي تتعرض لها تركيا من الجانب الخليجي.
تبدو تركيا أكثر اهتماما بتطوير العلاقات مع دول الخليج، فذاك ما يفيدها في مواجهة مشاكلها الاقتصادية الداخلية، خاصة أزمة الليرة (من نتائج زيارة بن زايد اسثمارات بقيمة 10 مليار دولار كجرعة أولى)، كما أن تطوير هذه العلاقات يوقف أو يحد على الأقل من الفتن والمؤامرات التي تتعرض لها تركيا
وقد تسببت جريمة قتل خاشقجي في توتير العلاقة مع السعودية، لكن من الواضح أن هناك عزما لدى جميع الأطراف الإقليمية والدولية على طي صفحة خاشقجي، حتى أن فرنسا التي قبضت على أحد المتهمين بقتله
أخلت سبيله بحجة غير مقنعة، ولكن يبقى الإخراج النهائي لطي تلك الصفحة.
العلاقات مع مصر تبدو أكثر تعقيدا لأنها ترتبط بملفات كبرى، وتصطدم بتحالفات كبرى، فهناك ملف شرق المتوسط، وسعي تركيا لترسيم حدود بحري مع مصر يمنحها منافذ بحرية جديدة ويمكّنها من استخراج النفط والغاز الذي اكتشفته، كما يمنح مصر مساحات إضافية من المياه الإقليمية. ولكن هذا الملف يصدم بالتحالف المصري اليوناني القبرصي الإسرائيلي، (وقعت مصر بالفعل اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع قبرص اليونانية في كانون الأول/ ديسمبر 2013، وقد رفضتها تركيا لجورها على حقوقها المائية، كما أن مصر دشنت منتدى غاز شرق المتوسط في 2019 مع هذا التحالف الإقليمي مضافا إليه إيطاليا والأردن، وكان المستهدف منه هو عزل تركيا. كما وقعت مصر اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع اليونان في آب/ أغسطس 2020، وهو ما اعتبرته تركيا إضرارا بها).
وهناك الملف الليبي الأكثر حساسية لمصر ولتركيا أيضا، فهو بالنسبة لمصر أمن قومي، وبالنسبة لتركيا أمن اقتصادي ونفوذ سياسي، ومن الصعب تحقيق ما تطلبه مصر، وهو خروج تركيا تماما من ليبيا التي ارتبطت باتفاقية دفاعية وأخرى لترسيم الحدود البحرية مع الحكومة الليبية الشرعية (حكومة السراج)؛ وهي الاتفاقية التي منحتها شرعية لعمليات التنقيب عن النفط والغاز في مياه شرق المتوسط. وعلى كل حال فإن الطرفين ينتظران تطورات الأوضاع في ليبيا، وما ستسفر عنه الانتخابات المقبلة حال إتمامها.
من الواضح أن النظام المصري يراهن على خسارة الرئيس أردوغان للانتخابات الرئاسية المقبلة؛ مع تصاعد المعارضة السياسية وأزمة الليرة وارتفاع الأسعار، وبالتالي فإن مفاوضيه يطيلون النقاش، ويتوقفون عند الخطوات الأولية
وهناك ملف المعارضين المصريين في تركيا، والذين تطالب مصر بتسليم بعضهم، وهو ما ترفضه تركيا حتى الآن، بل إنها منحت من انتهت جوازات سفرهم جوازات سفر تركية، وهو ما يعني اعتبارهم مواطنين أتراكا يستحيل تسليمهم.
من الواضح أن النظام المصري يراهن على خسارة الرئيس أردوغان للانتخابات الرئاسية المقبلة؛ مع تصاعد المعارضة السياسية وأزمة الليرة وارتفاع الأسعار، وبالتالي فإن مفاوضيه يطيلون النقاش، ويتوقفون عند الخطوات الأولية (بناء الثقة)، واستكشاف مناطق التوافق والتعارض، في انتظار جولة الانتخابات؛ فإن جاءت بأردوغان فسوف تعيد السلطات المصرية تقدير موقفها، لتقرر إمكانية التقدم في المفاوضات أم إبقائها عند حدودها الدنيا، وإن فازت المعارضة فسوف يتم حرق الكثير من المراحل لإعادة العلاقات بشكل فوري.
twitter.com/kotbelaraby