ذات يوم من عام 2010، بينما كنت في عزل معتقل هشارون؛ عاد جاري المقيم في الزنزانة المجاورة والملاصقة لزنزانتي بعد إحدى عطل السبت اليهودية (ولم يكن ذاك السجين، المُصنّف مثلي كسجين أمني، يلبس مثلي ومثل زملائي زيّ السجن البنّي، إلا "يغال عمير"؛ قاتل رئيس حكومتهم إسحاق رابين!).. عاد وقسمات وجهه تعلوها علائم السرور والابتهاج، وعندما استفسرت منه عن سبب حبوره، قال إنه أمضى ليلة جميلة مع زوجته (التي أنجبت له حتى ذلك التاريخ أربعة أولاد، وذلك عقب ارتباطه بها بعد اعتقاله بسنوات، وهي تحمل الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية وتدرّسها في الجامعة العبرية)..
الليلة الجميلة أمضاها في الـ"هيت يحديت"، وهي التسمية العبرية لما يعرف عندنا بغرفة "الخلوة الشرعية" التي تهيئها إدارة السجن للسجناء (اليهود) المتزوجين، أو حتى المرتبطين بعلاقات عاطفية. وعندما تساءل "عمير" متعجبا: لماذا لا تأتون بزوجاتكم إلى الـ"هيت يحديت"؟؛ أفهمته بأنهم (أي إدارة السجون) لا يعترفون بأن لنا زوجات فقط، بل أصلاً لا يعترفون بأن لنا أهلاً (أب، أم، أخوه..) يُسمح لهم بزيارتنا.
والحال أن نظام الخلوة الشرعية هو نظام معمول به في سجون العالم، والاستثناء محصور في بعض أنظمة الحكم الديكتاتورية والقمعية التي لا تعرف ثقافة حقوق الإنسان. وهذا النظام سائد في الدول الغربية وأمريكا، وحتى في كثير من الدول العربية، ومعمول به أيضاً في سجون السلطة الفلسطينية، وكذلك في سجون الكيان الصهيوني، ولكن حصراً على السُّجناء الجنائيين (بمن فيهم العرب) وعلى السجناء اليهود (بمن فيهم الأمنيون)، والاستثناء الوحيد هنا هم الأسرى "الأمنيون" الفلسطينيون والعرب، وهؤلاء يعيشون في حالة انغلاق الأمل وانسداد حلم الحرية، إلا من صفقات تأتي - إذا جاءت - على فترات متباعدة، وقد تترك خلفها رجالا أمضى بعضهم 42 عاما في السجن، وهناك ما يزيد عددهم على المائة ممن أمضوا فترات تتجاوز العشرين عاماً متواصلة، وذلك في ظل احتلال يستطيل ويستطيل.
إذا كان بالإمكان حبس الإنسان جسديا وزمنيا، فبالتأكيد يوجد في داخل الإنسان ما لا يمكن حبسه، إنها الروح والأشواق الإنسانية وعوامل الفطرة والغريزة. ومن هذه العوامل الحاكمة السكون إلى زوجة والتفكير في الذرية، وإنشاء أسرة، وهذه أكثر من مجرد تطلعات جانبية وترفيهية
وإذا كان بالإمكان حبس الإنسان جسديا وزمنيا، فبالتأكيد يوجد في داخل الإنسان ما لا يمكن حبسه، إنها الروح والأشواق الإنسانية وعوامل الفطرة والغريزة. ومن هذه العوامل الحاكمة السكون إلى زوجة والتفكير في الذرية، وإنشاء أسرة، وهذه أكثر من مجرد تطلعات جانبية وترفيهية، بل تأخذ مع مضي السنين المتطاولة في الضغط بثقلها ليصبح لها حكم الضرورة.
حاول بعض الأسرى، من أجل تحقيق هذا الجانب من إنسانيتهم، دقّ أبواب محاكم الاحتلال الظالمة. ومن المفيد هنا ذكر المرافعة الشهيرة التي قام بها الأسير وليد دقة على منصة محاكمهم الظالمة. ووليد هو من سكان "باقة الغربية" (أي بحسب قانونهم يعتبرونه مواطنا "إسرائيليا") اعتُقل عام 1985 وحُكم بالمؤبد، وفي عام 1997 قام من سجنه بخطبة فتاة من قرية "الطيرة" المجاورة (أي هي أيضاً مواطنة "إسرائيلية"، حسب قانونهم) على أمل أن تهبّ رياح الحرية بعد توقيع اتفاق أوسلو، حين حلم بعض الأسرى بإمكانية تحريرهم من خلال عملية التفاوض التي كانت جارية. وعندما استطال الزمن، قام وليد بعد عام 2007 برفع التماس إلى المحكمة لكي يحظى بما يحظى به السجناء الجنائيون (بمن فيهم العرب) واليهود (بمن فيهم الأمنيون) من خلوة شرعية، مساواة بهم. وكان وهو يفعل ذلك يكسر ربما اعتبارات اجتماعية ثقيلة، ولكن ذهبت كل المحاولات القانونية للحصول على هذا الحق عبثاً وأدراج الرياح، وكان رَدُّ المحكمة بالغ الصلف والغطرسة.
ولطالما باح وليد بحلمه ورغبته في أن ينجب الأولاد.. وفعلاً تمكن في عام 2020 وبعد 23 عاما من عقد قرانه، وبعد أكثر من (35) عاما من اعتقاله، من إنجاب ابنته الجميلة، وكان وليد مُقرراً منذ سنوات أن يُسمّي مولوده سواء أكان ذكرا أو أنثى "ميلاد". وتم ذلك من طريق "النطف المهرّبة"؛ في قصة إنسانية حقيقية - غير مُتخيلة - مؤثرة، تستحق أصلاً أن تنتج عنها أهم حكايات الدراما.
فلو قام صانعو الأفلام "المهنيون" بأخذ هذه القصة الحقيقية وعالجوها بأدواتهم الفنيّة، لَهزّت الضمير الإنساني. ومثل قصة وليد، فإن جميع الحالات المسجّلة حتى اليوم هي من طراز القصص الحقيقية التي تصلح كل واحدة منها لتنسج منها دراما كبيرة. وأكثر من ذلك، فإن معظم سير المناضلين الفلسطينيين ممن يمضون أحكاماً عالية، تصلح لو أخذت بحد ذاتها لإنتاج دراما إنسانية وفنية وأدبية جدّ مؤثّرة، فتظل مسألة الاعتقال مشحونة بالمعاني الإنسانية الفنية والوافرة.
إذا كان هناك من إبداع، وبالأخص في جوهره الإنساني، يقدّس الحياة ويحتفي بها، فنعتقد أن من ذرواته نجاح الأسرى الفلسطينيين في تهريب نطفهم والإنجاب الشرعي من زوجاتهم العفيفات الصابرات؛ آخذين بعين الاعتبار الضوابط الاجتماعية وشروط السلامة الصحية
لطالما وصف النضال الفلسطيني تحت الاحتلال، خاصة منذ الانتفاضة الكبرى عام 1987، بأنه نضال مبدع، ينتج إبداعاته الخاصة من معطيات الواقع البسيطة، وكانت هذه الإبداعات محكومة ومرتبطة جدلياً في انسيابها وتدحرجها بطبيعة السياسات الاحتلالية، وقام مؤرخو هذا النضال بتوثيق تلك الإبداعات وتسجيل متوالياتها غير المتوقفة. إذا كان هناك من إبداع، وبالأخص في جوهره الإنساني، يقدّس الحياة ويحتفي بها، فنعتقد أن من ذرواته نجاح الأسرى الفلسطينيين في
تهريب نطفهم والإنجاب الشرعي من زوجاتهم العفيفات الصابرات؛ آخذين بعين الاعتبار الضوابط الاجتماعية وشروط السلامة الصحية، خاصة بعد التطور الذي بلغته العلوم المخبرية والطبية التي تتيح مجال التأكد من الشيفرة الوراثية بكل سلاسة وموثوقية، مع وجود مؤسسات طبية ومجتمعية ترعى وتشرف بالكامل على مثل هذه الحالات. نعتقد أن اجتراح هذا الإبداع هو من أعظم ما أبدعه الفلسطينيون في مسار نضالهم وجهادهم الملحمي والماراثوني الطويل!
نعود بعد هذا لنقول، إن الفنّ لأي شعب من الشعوب، سواء كان شعراً أو مسرحاً أو روايةً أو دراما تلفزيونيةً وسينمائية، إنما هو عاكس مهمٌ لقضاياه وهمومه وأشواقه وحيويته، وإن رُقيّه أو بؤسه هو عاكس كاشف أيضاً، لحجم ذلك الرقي والنهوض أو البؤس والتدهور والانحطاط!
إن ما بلغنا عن
فيلم "أميرة" إنما يعكس في الحقيقة درجة جهل عالية لدى القائمين عليه؛ بالحقائق البسيطة التي يعرفها كل من يريد تبيّن حقيقة الملف ذي العلاقة، وإن الاعتداء على الحقيقة هنا هو من أسوأ البشاعات؛ ليس فقط لمصادمته المنطق السليم، بل أيضاً لأن الحقيقة النضالية الفلسطينية معجونة حتى النخاع بأبعادها الانسانية، وبالتالي فإن الاعتداء عليها هو اعتداء على إنسانية الإنسان، وعلى قضايا الوجود الإنساني.
تظل فلسطين قضية كاشفة، ولطالما ردد بعض مفكري العرب بقوله: "إن فلسطين هي مؤشر الضمير بالنسبة للعرب والمسلمين"، فإذا كان هذا الضمير يقظاً؛ كانت فلسطين حاضرة فيه بقوة، وإن كان نائماً وملوّثاً، كانت فلسطين مُسقطة من كل حساباته!!
إن كانت هناك عقوبة صهيونية جديدة تضاف إلى سلسلة العقوبات الأخرى، فإنما هي هذا الفيلم "أميرة"؛ خاصة بعد أن أَعَيَت طرائق الأسرى في التهريب مؤسسة الأمن الصهيوني بكل سطوتها وجبروتها
لعل هؤلاء المثقفين الجهلة لا يعرفون بأن العدو الصهيوني يقوم بمعاقبة بعض الأسرى الذين
أنجبوا أطفالاً بالنطف المهربة عندما تصل حكايتهم إلى الإعلام، وهذا ما حصل مع الأسير وليد دقة مرتين، الأولى عندما أنجب روايته المؤثرة "حكاية سرّ الزيت" التي دار رحاها حول بطلها ابن الأسير القادم عبر النطف المهربة، والثانية عندما أنجب فعلياً ابنته "ميلاد". كما حدث الأمر مع غيره ممن وصلت حكايتهم للإعلام، حيث عوقب كل منهم بالعزل لعدة شهور، وفوق ذلك فإن إدارة السجون لا تسمح لهؤلاء الأطفال برؤية أو زيارة آبائهم في المعتقل لأنهم لا يعترفون بنسبهم ولا بميلادهم!!
وإن كانت هناك عقوبة صهيونية جديدة تضاف إلى سلسلة العقوبات الأخرى، فإنما هي هذا الفيلم "أميرة"؛ خاصة بعد أن أَعَيَت طرائق الأسرى في التهريب مؤسسة الأمن الصهيوني بكل سطوتها وجبروتها.
لا توجد لدينا معلومات حتى هذه اللحظة حول إمكانية تواطؤ مخرج ومنتج وممثلي هذا الفيلم مع دولة الاحتلال، من الناحية التمويلية والمضامينية، ولكنه في أحسن الأحوال، سيكون شبيهاً بدور المنشور الذي وزعه الحزب الشيوعي الفلسطيني باسم الأحزاب الشيوعية في دول الشرق العربي (لبنان، سوريا، العراق) في صيف 1948 عندما طالب الجيوش العربية بالعودة إلى أقطارهم لمقارعة "الرجعية العربية". وأشار ذلك المنشور إلى المناطق التي وقعت بيد اليهود على أنها مناطق محررة!! وقد اعتبر قادة الصهيونية هذا المنشور كأفضل هدية معنوية قدّمت لهم في تلك الحرب، فقد قام جيش "الهاغاناة" بإعادة طباعته وتوزيعه بكثافة في جبهات القتال، وحفظوا هذا الجميل للشيوعيين الفلسطينيين، فكافأوهم بعد ذلك بالدخول إلى الكنيست، كما أثبت ذلك المؤرخ الأستاذ عادل مناع في كتابه المهم "نكبة وبقاء"!
للخيانة وجوه عديدة، لكن جوهرها واحد.. إنه نزع الضمير.. وموته.