قرية جوار تقع في شمال شرقي باريس على بعد 55 كيلومترا من العاصمة الفرنسية.. وهي أول محطة من محطات منفاي بعد أن غادرت تونس في 24 آب (أغسطس) 1986 مع رفيق المنفى رئيس حكومة تونس الراحل الأستاذ محمد مزالي.. وقد سكنت بهذه القرية بمحض الصدفة لأنها قرية لا تبعد كثيرا عن العاصمة والإيجارات فيها ليست مرتفعة ثم لأنها آمنة من عيون أعوان النظام الاستبدادي لابن علي الذي يلاحقني ويلاحق محمد مزالي صديق السياسة والفكر والمنفى.
استأجرنا بيتا ريفيا صغيرا يقع في ضيعة تفاح وسط حقول شاسعة معرضا للرياح الأربعة ويستحيل تدفئته في شتاء 1986 الذي كان من سوء حظي العاثر أبرد شتاء فرنسي منذ نصف قرن! كان ابني الوحيد آنذاك (الطيب) ينام على فراش دون سرير نحاول تعزيزه بالحشايا والبطاطين التي تجود بها علينا أسرة برتغالية جارة جزاها الله عنا كل خير، والغريب أن أخي كان يبعث لي بالبريد صفحات الصحف الصفراء التي تنشر بعناوين كبيرة ومثيرة "أنباء" ثرائنا الفاحش أنا ورئيس الحكومة والمعارضين المنفيين!
وإني أردت أن أنقل للشباب بعض نوادر هذه المحطة بسبب صدور كتاب مذكرات رفيقنا في المنفى العقيد الأسبق في سلاح الطيران المهندس الصديق رشيد عزوز (الذي ساعد على تهريب مزالي عبر الحدود التونسية الجزائرية يوم 3 سبتمبر 1986).. هذا الكتاب الذي صدر في طبعة ثانية منقحة استعرض فيها رشيد بعض عذاباتنا وحماساتنا المشتركة في مقاومة الطغيان.. ولا تخلو مذكرات رشيد عزوز من الإشارة الضاحكة والمعبرة والمؤثرة إلى بعض ما عانيناه عندما كنا حول محمد مزالي في منفاه لسنوات عديدة.
وإني في ذكر بعض معاناتنا أريد أيضا أن يقرأها أولئك الذين ظلمونا واضطهدونا ولاحقونا ولفقوا لنا التهم المهزلة وهم منذ سنة 2011 مقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم منهم كان في السجن الذي هيأوه لنا باطلا وبهتانا فدخلوه بوجه حق.. وقسم لا يزال خارج السجن لم يكتشف الناس بعد مدى إساءتهم للوطن ومناصرتهم للباطل، وقسم ثالث لا يزال يمارس هواية التدليس على الرأي العام وتمثيل مسرحية الأبرياء وضحايا ابن علي بل وحتى أبطال الثورة!
والجميع رأوهم لمدة عشرين عاما يلتحفون خرقة القماش الأحمر حول أعناقهم ويملأون القاعة البيضاء في قصر قرطاج يصفقون للرئيس بن علي ويبررون الاستبداد ويزغردون له (واصلوا وواصلن الزغردات إلى اليوم!). وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ونعود لكتاب الصديق رشيد عزوز الذي قرأت في صفحته 85 وما بعدها ذكريات تتعلق بي شخصيا وعاشها معي هو نفسه يقول الكاتب: "أما أحمد القديدي أقرب مساعدي رئيس الحكومة محمد مزالي الذي سبق أن تحمل مسؤولية إدارة صحيفة الحزب الحاكم وكان عضوا في البرلمان وعضوا في اللجنة المركزية للحزب الدستوري في تونس فقد كان يتقاضى من مزالي مبلغ 20 فرنكا يوميا (5 دولارات) ليذهب إلى باريس ويشارك في كفاحنا المشترك ثم احتاج إلى عمل يسد به الرمق فاتجه إلى رئيس بلدية (جوار) التي يقيم فيها (وهو طبيب فرنسي من أصول مصرية قبطية إسمه دكتور إيلي بدور) وقدم له شهاداته وسيرته الذاتية وعرفه بنفسه وبعض تاريخه فاعتذر رئيس البلدية رغم تعاطفه الصادق معه وعرض عليه أن يشتغل زبالا أو كناسا ينظف شوارع القرية (لأنها الوظيفة الوحيدة الفاضية) وأعطاه عربة (برويطة) ومكنسة وآلة لجمع ما يتكدس على الرصيف وتوكل القديدي على الله لممارسة هذه المهنة الشريفة لأنها كسب حلال يساعد بأجرها الزهيد عائلته الصغيرة.
الذي لم يذكره الصديق العزيز هو أنني عملت أيضا بعد ذلك يومين أو ثلاثة أيام عامل بناء بسيط في بلدية (سواسون) وهو عمل لا يقل شرفا عن مهنة الزبال، وقد جاد علي بهذا الفضل أحد الإخوة الإسلاميين التوانسة الحاج الطيب عياد فحملت نصيبي من (قردل الأسمنت) ومن الياجور (حجر البناء) ولكن بلطف ولين
ولا أخفي على قرائي الكرام بأن هذه المعلومات صحيحة وأن صديقي العقيد رشيد عزوز أوردها كمؤشر على أننا مع كل أطياف المعارضة التونسية عانينا ما كتبه الله لنا بصبر بل وبابتسامة الرضا والقناعة واثقين من عدالته سبحانه.
أما الذي لم يذكره الصديق العزيز هو أنني عملت أيضا بعد ذلك يومين أو ثلاثة أيام عامل بناء بسيط في بلدية (سواسون) وهو عمل لا يقل شرفا عن مهنة الزبال، وقد جاد علي بهذا الفضل أحد الإخوة الإسلاميين التوانسة الحاج الطيب عياد فحملت نصيبي من (قردل الأسمنت) ومن الياجور (حجر البناء) ولكن بلطف ولين لأن الحاج الطيب كان صديقا حميما لمقاول البناء الفرنسي.
وأذكر اليوم مبتسما شابا فرنسيا اسمه (شارل أندري) يعمل معي في نفس بناء العمارة وهو كثير الشكوى من ضنك الأجر ومشقة العمل، فكان يقول لي بمرارة بأنه حاصل على شهادة "الباكالوريا" (نهاية الثانوية) والبناء ليس عمله ويشتكي لي من سوء الحظ وعبث الأقدار وكنت أضحك في داخلي لأنه لو عرف حقيقة أمري لهان عليه أمره لأني كنت عام 1982 رئيسا منتخبا للمؤتمر الدولي لاتحاد البرلمانات في مقر البندستاغ الألماني بعاصمة ألمانيا (بون) وكان رؤساء البرلمانات يطلبون مني الكلمة بعبارة (سيدي الرئيس مستر تشيرمان) ومنهم حتى رئيس الكونغرس الأمريكي ورؤساء البرلمانات الأوروبية وغيرها!
تصوروا لو كشفت له هذا السر! لاعتبرني مجنونا أو كذابا! سبحان الله إني له من الشاكرين على نعمة المنافي ومحنة الاضطهاد وحسن العاقبة.
عبد المجيد تبون في تونس.. هل جاء الرئيس الجزائري يفك عزلة الانقلاب؟
مصر في مواجهة رياح الديمقراطية الجنوبية والغربية