ربما يقول قائل: لماذا تكتب الآن وبعد أكثر من عشرة أيام على
فاجعة المخيمات في الشمال السوري؟ لماذا تأخرت؟!
أصدقكم القول أنني كنت أهرب حياء من ضعفي وقلة حيلتي.. كنت أهرب من التغطيات الصحفية وكل ما كتب عن المأساة.. من الصور والفيديوهات ونشرات الأخبار، إلى أن سألتني متابعة لمقالاتي: لماذا لم تكتب عما حدث للنازحين السوريين في
المخيمات؟! فأحسست بالحرج، وقررت التوقف عن الهروب لأكتب مقالتي هذه..
* * *
ويل للعرب.. ويل لساكني القصور، ومربي النوق والخيول والصقور.. ويل لمن رأى ولم يحرك ساكنا.. ويل لمن نام حين استيقظ الصغار يصرخون لخيمة هدمت فوق رؤوسهم وثلج تغلغل بين لحمهم وثيابهم؛ فنخر عظامهم وحطّم ما بقي لديهم من رجاء في حياة كريمة.. رجاء مبلل بدموع قهرهم وسلب إنسانيتهم.. ويل للمنافقين الفاسدين الذين يتبجحون بأنهم حكام هذه الأمة المنكوبة، وما في كراسيهم التي يتسع كرسي واحد منها لهم جميعا ويفيض عنهم؛ فهم بمقياس المروءة والأخلاق أصفار يعجز عنها العد!!
كم واحدٍ ممن لديهم ثروات هائلة لا تأكلها النيران من أصحاب المليارات تحركت فيه نخوة الجاهلية الأولى؛ فقدم من ملياراته مليارا واحدا ليدفئ أطفالا يتضورون بردا وجوعا ووجعا صعبا من أبناء عروبته المبتلاة به وبأمثاله من المترفين، الذين ربما صدحت حناجر بعضهم يوما بشعارات الستينات "شعب واحد لا شعبين من مراكش للبحرين"؟!
ويل للعرب.. ويل لساكني القصور، ومربي النوق والخيول والصقور.. ويل لمن رأى ولم يحرك ساكنا.. ويل لمن نام حين استيقظ الصغار يصرخون لخيمة هدمت فوق رؤوسهم وثلج تغلغل بين لحمهم وثيابهم؛ فنخر عظامهم وحطّم ما بقي لديهم من رجاء في حياة كريمة.. رجاء مبلل بدموع قهرهم وسلب إنسانيتهم
أين المليارات التي يكتنزها حكام ومسؤولون في بنوك الغرب؟ وماذا يستفيدون منها؟ لكأني بهم يظنون أنهم خالدون أو أنهم سيتمتعون بها في قبورهم..!!
ينتفضون حين يمس أحد جلالتهم وفخامتهم بكلمة، وتتعكر أمزجتهم ويتنافخون غضبا حين تتعرض فرس في إسطبلاتهم لعارض صحي، وقد كانوا يعدونها لمعركة الشرف العربي! ويصمتون وهم يرون الموت يدب في أوصال أطفال ونساء وشيوخ أثقلتهم حياة لا تليق بالحيوانات، ما يذكرني بقول الشاعر مظفر النواب:
لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم
لا تهتز لكم قصبة
ماذا سيقول عنكم التاريخ الذي دخلتموه سوادا دامسا وعارا وخيانة وفشلا وفسادا؟! بل ماذا ستقولون لربكم يوم الحساب؟ وكل ما تفعلونه لا يدل على إيمانكم باليوم الآخر.. كأني بكم لا تؤمنون سوى برفاهكم ورفاه أبنائكم وبإذلال شعوبكم.. كأني بكم تستخفون بموت خصومكم الضعفاء من الأطفال، في حين ترتعدون خوفا من كلمة "موت" إذا اقتربت منكم..!!
تساقطت مروءتكم على مسرح العبث، وتساقطت الثلوج بغزارة على خيامهم؛
فهوت المئات منها فوق رؤوس الهاجعين على خوف وقلق.. مخيما اعزاز وعفرين في الشمال السوري تقطعت بهما السبل، وخيم على خيامهما شبح الموت وموت المكان.. فما كان بمقدورهم فعل شيء سوى الاستجداء بالأموات الذين يصدق فيهم قول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
هدمت الثلوج التي تساقطت بغزارة مئات الخيام على رؤوس ساكنيها النازحين في مخيمي اعزاز وعفرين ومخيمات أخرى في الشمال الغربي.. لقد أتلفت العاصفة خيامهم ومتاعهم المتواضع حين تعرضت لوابل الأمطار ثم لتهاطل الثلوج لتصبح خيامهم عبئا عليهم، بعد أن ناءت بالثلوج التي أثقلت ظهورها فانهدمت فوق رؤوسهم؛ ليصبحوا بلا مأوى
هدمت الثلوج التي تساقطت بغزارة مئات الخيام على رؤوس ساكنيها
النازحين في مخيمي اعزاز وعفرين ومخيمات أخرى في الشمال الغربي.. لقد أتلفت العاصفة خيامهم ومتاعهم المتواضع حين تعرضت لوابل الأمطار ثم لتهاطل الثلوج لتصبح خيامهم عبئا عليهم، بعد أن ناءت بالثلوج التي أثقلت ظهورها فانهدمت فوق رؤوسهم؛ ليصبحوا بلا مأوى، وتتقطع بساكنيها السبل، بعد أن أغلقت الطرقات المؤدية للمخيمين.. ناهيك عن وفاة ثلاثة أطفال جراء البرد الشديد. ولك أن تتخيل ماذا يعني أن تفقد أم رضيعها أو ابنها الصغير أمام عينيها بسبب البرد، وهي غير قادرة على فعل شيء له..!!
لم تسلم المخيمات الأخرى التي تبلغ 72 مخيما مما تعرض له مخيما عفرين وعزاز؛ فقد تعرض 47 منها لأضرار نسبية جراء العاصفة الثلجية التي تعرضت لها مناطقهم.. مئات العائلات أصبحت بلا مأوى تحت غطاء ثلجي كثيف بلغ نحو نصف متر، ولك أن تتخيل أطفالا في العراء تحت رحمة الثلج والبرد القارس لم تظهر عشرات الصور واحدا منهم يرتدي معطفا ثقيلا أو حذاء يقي من برد.. لكأنه يوم القيامة.. برد وخوف وعويل؛ ولا بواكي ولا نصير..!
لقد اضطر هؤلاء التائهون الضائعون في غياهب العروبة النائمة - وهم نحو ثلاثة ملايين إنسان - إلى النزوح لمناطق أكثر أمنا في شمال غرب
سوريا بسبب المخاطر التي تسببت فيها الحرب الطاحنة بين بشار الأسد ومعاونيه؛ وبين دم النساء والأطفال وبيوتهم وأرزاقهم. ويعيش أكثر من نصفهم في مخيمات تفتقر إلى أبسط قواعد الإنسانية والآدمية، ولم يلتفت لهم سوى بعض المنظمات الدولية بإغاثات مؤقتة؛ سرعان ما يغيب أثرها لضحالتها وعجزها عن تغطية الحاجات الأساسية لوقت طويل أو بشكل دائم.
طبيب العيون القابع في قصره لا يرى؛ فهو أعمى البصر والبصيرة.. يحكم ولا يحكم بعد أن صار دمية في يد إيران وروسيا..
بماذا يحس الطبيب الذي كان سببا في هذه الكارثة وغيرها من الكوارث؟! ربما هو الآن شامت بأطفال هؤلاء الذين رفضوا عدوانه، ولم يطيقوا ظلمه وعسفه، وطالبوا بأن يعيشوا في ظل دولة ومؤسسات، لا في ظل معسكر إذلال كبير، لا يستطيع فيه الإنسان ممارسة إنسانيته في وطن يسوده العدل والمساواة والحرية والأمان.. ربما هو شامت بمئات الآلاف من الأطفال الأيتام
بماذا يحس الطبيب الذي كان سببا في هذه الكارثة وغيرها من الكوارث؟! ربما هو الآن شامت بأطفال هؤلاء الذين رفضوا عدوانه، ولم يطيقوا ظلمه وعسفه، وطالبوا بأن يعيشوا في ظل دولة ومؤسسات، لا في ظل معسكر إذلال كبير، لا يستطيع فيه الإنسان ممارسة إنسانيته في وطن يسوده العدل والمساواة والحرية والأمان.. ربما هو شامت بمئات الآلاف من الأطفال الأيتام الذين فقدوا آباءهم جراء البراميل المتفجرة التي أسقطها على رؤوسهم.. ربما هو الآن يضحك ببلاهة وتفاهة مع زوجته أسماء الأخرس وأبنائه حافظ وكريم وزين، لما آل إليه حال الرافضين ظلمه وخيانته ونذالته..
وأخيرا أما آن للزيت الطافح في الصحراء العربية أن يدفئ أحرار هذا الوطن وحرائره؟!
إنه زيت كافر، لا يعبأ بالضعفاء، وأثمانه الكافرة قابعة في بنوك الغرب لا تعرف طريقا إلى المصارف الشرعية لأموال الشعب التي يتلاعب بها السلاطين الجلاوزة..!!
بين من يشاهد ندف الثلج ويفرح بالحلة البيضاء على امتداد الرؤيا ويتغنى ببديع ما يرى وهو في قصر دافئ وردي الشرفات، وبين من يتوقف قلبه متأثرا بانقضاض الثلج على روحه الباردة، كما بين الضلالة والهدى، أو كما بين جهنم وفردوس المعذبين في الأرض..
من يعش في وطنه وهو لا يعرف له وجها إلا وجه التشرد والدمار والموت والقهر والعذاب، حري به أن يلعن أمته ويعلن عليها حرب الأرض وحرب السماء..!!
أأمة نحن أم إماء؟! لا مروءة ولا حمية ولا شرف ولا وازع من دين أو خلق..!!