كتاب عربي 21

كيف ننقذ تونس من نخبها؟

1300x600

يدور هذا السؤال في ذهن كثير من أهل تونس كما هو الحال في كل بلاد العرب المنكوبة بالاستبداد والانقلاب والظلم والفوضى والحروب. صحيح أنّ ادعاء الإجابة الكافية الشافية عنه ضرب من الغرور التحليلي لأننا لا نملك من عناصر الأزمة إلا ما طفا منها على السطح وظهر للعيان أمّا أسرارها وخباياها فلا يعرفها إلا قليل من صانعيها. لكنّ ذلك لا يُلغي محاولة القراءة والإجابة ولو في المجال المسموح به على ضآلته بشكل يحاول البناء على ما سبق من أطوار المسار السياسي والاجتماعي الذي عرفته مسارات تونس أو غيرها من السياقات العربية الاقليمية.
 
الثابت تحليليا أنّ المسار الانقلابي في تونس هو جزء من مسار إقليمي أكبر تكفّل بتصفية ثورات الشعوب وإغراقها في الفوضى والدماء نيابة عن الكفيل الخارجي من مصر إلى سوريا مرورا باليمن وليبيا وصولا إلى تونس. تونس اليوم قد أعلنت إفلاسها السياسي قبل الاقتصادي والمالي بعد أن شارك الجميع دون استثناء في الإطاحة بالمكاسب التي حققتها جماهير الشعب الفقير من تضحيات الشهداء. 

أعاد الانقلاب البلاد إلى المربّع الأوّل أو يكاد لكنّه أعادها بشكل أبشع مما سبق إذْ رسّخ في ذهن العوامّ أن الثورة مجلبة للخراب وأن هذه البلاد عاجزة عن حكم نفسها بنفسها وأنّ الاستبداد وحكم الفرد المطلق هو قدرها الذي لا خلاص منه. ليس حلّ المجلس الأعلى للقضاء مؤخرا إلا الحلقة الأخيرة في استفراد فرد واحد بكل السلطات في البلاد وإعادتها إلى حظيرة الاستبداد من جديد بعد أن أُلغي العدل الذي هو أساس العمران وصار أداة في يد الحاكم بأمره.

الجريمة والمجرمون 

ليس أبشع من جريمة وأد مسارات التغيير نحو الحرية بما هي فعل تراكمي نادر في مسارات الأمم فما حدث منذ انفجار ثورات الربيع يعدّ جريمة لا ككل الجرائم دفع الملايين ثمنها قتلا وتهجيرا وتعذيبا. فالجماهير لم تكن عاجزة عن إنجاز الفعل الثوري وإسقاط واجهة النظام لكنها قوبلت بالخيانة والتآمر والعجز من قبل الداخل قبل الخارج مما أفشل كل النجاحات التي حققتها. شاركت النخب التونسية بقوّة وعن علم مسبق في إجهاض المحمول الثوري وفي منع التجربة من بلوغ غايتها سواء عن قصد وهذا حال الأغلبية أو عن غفلة وهذا حال الأقلية القليلة.
 
منذ هروب رأس النظام ظهرت أولى بوادر العجز عن إدارة ما بعده. فقد انقسمت النخب السياسية خاصة إلى تكتلات حزبية مصلحيّة ضيقة وهي تحاول كسب الجزء الأكبر من غنيمة السلطة يوم كانت ملقاة على قارعة الطريق. لا نقصد بهذا التوصيف عصابات النظام القديم والحزام الدائر في فلكه من حراسه وجنوده خاصة من التيار القومي واليساري باستثناءات نادرة لكنّ الضرر الأكبر كان قادما من "المناضلين القدامى" ومن "القيادات التاريخية". اشترك هؤلاء في قناعة مزيفة مضمونها أنّ الاستبداد قد رحل إلى غير رجعة وأنّ العودة إليه أمر مستحيل الحدوث رغم كل المؤشرات السياقية التي كانت تؤشّر على غير ذلك.
 
قد لا يتجادل اثنان في الدور التخريبي الذي قاده الفريق الأوّل وهو يحاول إحياء الاستبداد لأنّ وجوده مرتبط به وقد نشؤوا في فلكله وهم لا يتحملون مسؤولية الجريمة لأنها كانت الهدف الذي صُنعوا من أجله. 

فحزب التيار الديمقراطي ذو الجذور المشبوهة تمويلا وحركة وأهدافا قد نجح في اختراق الثورة متصدرا مشهدها وساهم بقوّة في تأجيج الفرقة وتدمير الكتل الحزبية وتعفين النشاط البرلماني وصولا إلى مطالبة قائد الانقلاب بحلّ البرلمان والانقلاب على الثورة. لا يقلّ بشاعة عن جريمة الديمقراطيين ما اقترفته الكتلة القومية ممثلة في " حزب حركة الشعب " ذات الأصول الفاشية وهي التي دافعت بشراسة إلى اليوم عن الانقلاب كما فعلت عبر تاريخها الدموي في خدمة الاستبداد. إنها الحركة التي نجحت في إفشال عمل البرلمان وفي شيطنة الثورة والخصوم السياسيين بعد أن كان أعضاؤها خدما ومخبرين عند الهارب بن علي.

 

إنّ أخطر انزلاقات الثورة التونسية إنما يتمثّل في سطوة جيل قديم لا علاقة له بالثورة على مُنجز ثوري حققه شباب متحررون من إرث الصراعات الايديولوجية والأحقاد الشخصية.

 


في نفس الإطار يندرج فعل بقية المكونات السياسية الديمقراطية مثل الحزب الجمهوري الذي رغم معارضته اليوم للانقلاب إلا أنه غلّب منذ فجر الثورة مصلحته الحزبية وتحالفه مع الدولة العميقة على المشاركة في إنجاح المسار الانتقالي ووضع الخصومات الايديولوجية جانبا خاصة بعد وفاة المناضلة " مية الجريبي ". أما الأحزاب اليسارية باستثناء قلة قليلة من الشخصيات المبدئية الصادقة التي رأت في الثورة فرصة تاريخية للتحول نحو منوال اجتماعي وسياسي أكثر عدلا وتمثيلا فإنها قد اختارت التمترس خلف الدولة العميقة الحاكم الحقيقي للبلاد وفاء لتاريخها في خدمة السلطة القائمة.
 
لم تكن القوى العميقة الحاكمة ممثلة في رجال الأعمال وقوى مفاصل الإدارة والإعلام والأمن والقضاء والتي تأتمر مباشرة بأوامر السفارات الأجنبية لتقاوم مطلب القضاء على المسار الانتقالي لأنها لا تخوض معركة لأجل الدولة العميقة فحسب بل هي في الحقيقة تخوض معركة وجودها هي نفسها.
 
ساهمت بقية القوى الاجتماعية بقوة في هذه الجريمة وعلى رأسها القوى النقابية ممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أدمى خاصرة الدولة والمجتمع بآلاف الاضرابات والاعتصامات التي أنهكت الاقتصاد ودمرت القدرة الشرائية وجعلت نجاح الثورة أمرا مستحيلا. 

المناضلون القدامى وصراع الأجيال 

لعلّ أعظم جزء من الجريمة أو من مسؤولية الفشل إنما تتحمله القوى الثورية أو تلك التي تتحدث باسم الثورة وترفع شعاراتها وتنطق باسمها وعلى رأسهم طبعا الإسلاميون ممثلون في حزب حركة النهضة بقيادة الغنوشي وبقية القوى الوطنية مثل حزب المؤتمر بقيادة المرزوقي. 

فشل هؤلاء فشلا ذريعا في إدارة المرحلة الانتقالية فرغم التحالف الظاهر في الواجهة فإن النيران الصديقة لم تتوقف يوما بين القوى الثورية حيث كان أغلب قياداتها مسكونة بالسلطة مهووسة بنصيبها من الكعكة الكبيرة وهي تعتقد أنها أحقّ من غيرها بالغنيمة. عادت القيادات التاريخية من المهجر وهي التي بقية هناك منفصلة عن الواقع الجديد انفصالا تاما ولم تشارك في الثورة إلا عبر صفحات الواقع الافتراضي. 

حدث في هذه اللحظة خلل خطير حكم على المسار كله بالفشل وزرع أولى بوادر الانشقاق والعجز: كيف لثورة أوقدها جيل الشباب ودفع ثمنها من الشهداء ونجح في إسقاط الاستبداد أن يتولى أمرها شيوخ وعجائز من جيل آخر؟ كيف لجيل المناضلين القدامي الذي عقد الصفقة وراء الصفقة في السر والعلن مع النظام القديم أن يقود مرحلة الخلاص منه؟ كيف لجيل مُثقل بالصراعات الأيديولوجية والأحقاد الشخصية والثارات الفردية أن يبني مجتمع التعدد وفضاء الاختلاف والتنوّع؟ 

 

اليوم وبعد أن ثبت عجز النخب التونسية بوجوهها المعروفة عن صيانة المنجز الثوري وبعد أن ظهر المشروع الانقلابي سافرا لا يُخفي نواياه ولا أهدافه بات على جيل الشباب أن يقود معركة الحرية الأخيرة من أجل الحسم مع الانقلاب من جهة ومع النخب الانتهازية العاجزة من جهة ثانية.

 



لم يكن الوعي الجمعي القاعدي غافلا عن هذه الانزلاقات وعن عملية السطو هذه وهو الأمر الذي تدعمه أدلة كثيرة على اختلاف مستوياتها. فمن جهة أولى سرعان ما عزف التونسيون عن الحياة السياسية باستثناء قلة من المنتفعين وهو الأمر الذي ظهر جليا في انتخابات 2019 عندما صوّت أغلب التونسيين لمجهول قادم من خارج منظومة الأحزاب قبل أن ينقلب على الدستور وعلى الثورة. 

المؤشر الثاني هو الاكتساح الكبير الذي حققه حزب "ائتلاف الكرامة" الذي يضم مجموعة من الشباب على مستوى القيادات وهي وجوه شابة لم تلوّثها المعارك الإيديولوجية معلنا بذلك عن تحوّل كبير في المشهد السياسي. وهو الأمر الذي يؤكده ما تعرّضت له قيادات هذا الحزب من التنكيل والتشويه ثم السجن والمحاكمات بعد أن رأت فيهم الدولة العميقة خطرا حقيقيا يتجاوز خطر الحزب الإسلامي العجوز.
 
إنّ أخطر انزلاقات الثورة التونسية إنما يتمثّل في سطوة جيل قديم لا علاقة له بالثورة على مُنجز ثوري حققه شباب متحررون من إرث الصراعات الأيديولوجية والأحقاد الشخصية. وهو الأمر الذي يتطلّب اليوم إعادة النظر بعمق في الجرائم التي ارتكبها هذا الجيل المتلحف برداء النضال والشرعية التاريخية وهو الجيل الذي يرفض زعماؤه كل قراءة نقدية أو محاسبة لأنه يرى نفسه فوق النقد والمحاسبة. بل لن تتحرر تونس من الاستبداد الجديد ما لم يتم كنس هذه الرؤوس التي كانت سببا في فشل المسار الانتقالي برمته وهو الفعل الذي سيفتح المواجهة المباشرة بين جيل شاب ليس لديه ما يخسره وبين دولة عميقة بالغت في الإجرام والتوحش.
 
اليوم وبعد أن ثبت عجز النخب التونسية بوجوهها المعروفة عن صيانة المنجز الثوري وبعد أن ظهر المشروع الانقلابي سافرا لا يُخفي نواياه ولا أهدافه بات على جيل الشباب أن يقود معركة الحرية الأخيرة من أجل الحسم مع الانقلاب من جهة ومع النخب الانتهازية العاجزة من جهة ثانية. لن تكون المعركة قصيرة بل ستتطلب تضحيات جسام تصحح أخطاء الماضي وتضع في المشهد جيلا جديدا متحررا من أحقاد الأيديولوجيا وأمراض السلطة ووهم الزعامة والفكر والحكمة والتكتيك وحقوق الإنسان.