كتاب عربي 21

البرهان وأساليب الفهلوة واللولوة

1300x600

"فهلوة" مأخوذة من الفهلوية وهي اللغة الفارسية القديمة، وكانت تعني بشكل عام عمق الخبرة والمعرفة، ويوصف بها الحاذق البارع، ولكن الكلمة اكتسبت معنى مغايرا لمعناها الأصلي في العامية العربية، إذ صارت الفهلوية هي ادعاء العلم والمعرفة، والتظاهر بأشياء تخالف الحقيقة، وتعني ضمنا افتراض الغباء في الآخرين، بينما اللولوة مشتقة من لوى يلوي فهو ملتوِ، ويوصف قول أو فعل باللولوة إذا جانب النهج السليم المستقيم، بغرض تضليل الآخرين.

كلما اعتلى منبرا، أثبت حاكم السودان العسكري عبد الفتاح البرهان أنه يعتقد ان الجلوس في أعلى كراسي السلطة هو سدرة منتهاه وغاية آماله، فالرجل الذي أنجز انقلابا عسكريا في 25 تشرين أول/ أكتوبر الماضي يمارس ضروبا ممعنة في السذاجة لتبرير فعلته تلك، وبأسلوب من فمك أدينك، تعالوا ننظر في التبريرات التي قدمها في البيان رقم واحد ثم ما تلاه من أقواله.

قال البرهان إنه لم ينقلب على الحكومة التي كان يشغل فيها أعلى منصب دستوري، أي أن الاستيلاء على السلطة باسم الجيش وحل الحكومة واعتقال الوزراء والسياسيين وإعلان الأحكام العرفية ليس انقلابا، بل إن الأمر يتعلق بتصحيح مسار الثورة الشعبية التي أدت إلى سقوط حكومة عمر البشير وحزبه (المؤتمر الوطني)، وذلك بغرض توسيع قاعدة المشاركة في الحكم، ولكن أفعاله تؤكد أنه عازم على التنكيل بكل من أنجز تلك الثورة، وماض في طريق تصفية الثورة، على أمل استقطاب من تضرروا منها، أي عضوية حزب المؤتمر الوطني، ويفوت عليه أنهم كانوا السادة طوال ثلاثين سنة، بينما كان هو مجرد تابع لهم يهلل ويكبر كلما كان في حضرتهم، ولن يقبل السيد أن يتبع المسود.

وانسياقا مع العنتريات التي يتحلى بها العسكر الذين يلغون في حياض الحكم والسياسة، وعد أن ينجز خلال مدة دون الثلاثين يوم من تاريخ الانقلاب تشكيل مجلس للوزراء والمحكمة الدستورية والمجلس التشريعي وتسمية حكام الولايات، بموازاة تصحيح المسار الاقتصادي وتوفير الأمن والأمان للمواطن، ومرت ثلاثة أشهر ونيف على تلك الوعود وما زالت معلقة في الهواء، بل إن البلاد شهدت خلال الأشهر القليلة الماضية حالة غير مسبوقة من انفلات الأمن وأسعار السلع الاستهلاكية الضرورية، علما بأن المؤسسة العسكرية على اختلاف هياكلها وكياناتها ضالعة حتى النخاع في التجارة الخارجية بلا رقيب، سوى من المستفيدين منها من ذوي الرتب الرفيعة، وهي التي بيدها بسط الأمن أو جعله منفلتا، وبهذا يكون البرهان عاكفا على تحوير وتجريف المسار بحيث لا تقوم قائمة لحكم مدني في السودان، وإذا قام يكون هشا متداعيا بما يعطي العسكر المبرر للاستيلاء على الحكم مجددا.
 
يوم السبت الموافق 12 من الشهر الجاري تكرم البرهان مشكورا بالجلوس أمام مدير هيئة الإذاعة والتلفزيون السودانية ليجري معه حوارا حول راهن الأوضاع، وكان واضحا أن هناك توافقا مسبقا بين المحاوِر بكسر الواو والمحاوَر بفتحها حول الأسئلة، وجلس البرهان أمام الكاميرا بالجلباب والعمامة (أي كمواطن بسيط، وليس كبير جنرالات الجيش)، وكانت فرصة ليخاطب عموم الشعب، وهو الذي درج على قصر المخاطبات العامة على العسكريين فقط منذ دخوله المشهد السياسي في نيسان/ أبريل من عام 2019.

 

قال البرهان إنه لم ينقلب على الحكومة التي كان يشغل فيها أعلى منصب دستوري، أي أن الاستيلاء على السلطة باسم الجيش وحل الحكومة واعتقال الوزراء والسياسيين وإعلان الأحكام العرفية ليس انقلابا، بل إن الأمر يتعلق بتصحيح مسار الثورة الشعبية التي أدت إلى سقوط حكومة عمر البشير وحزبه (المؤتمر الوطني)

 



سئل البرهان في ذلك اللقاء عن تقتيل العشرات وجرح المئات خلال المظاهرات التي خرجت رافضة للانقلاب، فقال في هذا كلاما لا يصدر إلا عن فهلوي "مبتدئ": ابحث في وسائل التواصل الاجتماعي عن هذا الأمر!! هذا هو رأس الدولة والقائد الأعلى للجيش والذي يأتمر بأمره مئات الآلاف من رجال الشرطة والمخابرات ويتحالف مع خمسة جيوش "خاصة" من بينها مليشيا الجنجويد ذات السجل الإجرامي الدامي، يتحدث في أمر تقصي حوادث القتل والدم كما مراهق يهيم بممثلة حسناء، ولا يجد سبيلا إليها سوى واتساب وتويتر ومسنجر وتيك توك.

ثم مضى مؤكدا أنه لم يصدر أوامر بقتل المتظاهرين، بل واستنكر ان ينزل رجال الشرطة الى الشوارع خلال التظاهرات حاملين أسلحة نارية، ثم ردد ما ظل عسكريون يقولونه كلما سالت الدماء في الشوارع، بأن هناك طرفا مجهول الهوية ضالع في قتل المتظاهرين، أليس هذا كأن يقول إن جندا من السماء تؤيد انقلابه تقوم بإطلاق النار على رافضي الانقلاب؟ ثم لماذا منحت رجال الأمن والمخابرات والشرطة والجيش كامل الحصانة من المساءلة ما لم يكن ذلك ليمارسوا التقتيل والتنكيل "بقلب جامد وبارد"؟ ولم يسأل المُحاوِر البرهان عن سبب نزول قوات من الجيش النظامي وهم على مركبات تخص الجيش النظامي الى الشوارع لفض الاحتجاجات الشعبية باستخدام أسلحة "ميدانية": هل كان ذلك بغير علمه وهو قائد الجيش؟ (من المضحكات المبكيات ان وزارة الخارجية السودانية ناشدت السودانيين المقيمين في أوكرانيا مغادرتها حرصا على أرواحهم! هل ليعودوا الى وطنهم حيث الموت بنيران "صديقة"؟).

بعد ذلك اللقاء التلفزيوني بثلاثة أيام وقف البرهان أمام تجمع من العسكر، واستعاد ذلك الشق من شخصيته "المزدوجة" الذي يجعل منه فقط شيخ قبيلة الجنود النظاميين والمليشيات، فقد ذكر أن الحكومة مدينة للجيش بأكثر من مليار دولار، ولم يقل كيف تقترض الحكومة من جيش تتولى هي توفير رواتب عسكره وشراء مستلزماته، ولم يقل من أين للجيش ذلك المبلغ الضخم، وعلى كل فقد خانه ذكاءه مجددا، فكشف عن غير قصد أنه ما زال يعمل لدق الأسافين بين الجيش والمجتمع المدني، كي لا تقوم قائمة لحكم مدني، ولم يفت عليه أن ينعى على الساسة تشرذمهم، ولكن فات عليه أن الأصل في السياسة هو التشرذم والاختلاف، وأن المعيب والمريب هو أن يظل البرهان كبير العسكر عاجزا عن منع تشرذم الجيوش العديدة التي تجوس أرجاء البلاد.

ومن قبل تعهد البرهان بعدم المساس بالجماهير التي كانت تعتصم في خيام أمام مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم للمطالبة باستكمال مهام الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم عمر البشير، ثم كانت مجزرة 3 حزيران/ يونيو التي نفذها عسكريون بحق المعتصمين، وبعد تشكيل حكومة انتقالية ظل الرجل يؤكد أن الجيش لن ينقلب عليها فإذا به يقود ذلك الانقلاب، وهكذا يثبت البرهان المرة تلو المرة أنه لا عهد له، وأنه يلجأ إلى الفهلوة واللولوة لـ "تغبيش" الحقائق وتضليل الرأي العام، ولكن لا يرمش له جفن كلما انكشفت أكاذيبه، بل يظل يكابر ويفبرك الحقائق والوقائع يوما بعد يوم، لأنه يعمل بأسلوب "رزق اليوم باليوم"، لأنه بلا خطة أو منهج، ولا يهمه من الأمر سوى أن يبقى كبيرا للقوم في قصر الحكم.