اندلعت الحرب في أوكرانيا في 24 شباط/ فبراير 2022 بهجوم جويٍّ وبريّ من
روسيا.
الحرب هي تعبير عن اختلال واستعصاء في الاجتماع على كلمة سواء، وسعي فريق أن يكون له العلوُّ والكبرياء في الأرض، وحرب روسيا على أوكرانيا ليست استثناءً.
من أبلغ ما قرأت في تفسير شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه نتاج الجرح السوفييتي العميق.
فقد كان يعمل في جهاز المخابرات السوفييتي في تلك الحقبة، وكان ممتلئاً بمشاعر الفخر والكبرياء والسيادة، ولمَّا انهار الاتحاد السوفييتي شعر بالخذلان وإهانة الكرامة، واختزن في قلبه ووجدانه مرارة الخسارة. ومن البيّن في خطاباته أنه مسكون بالروح السوفييتية، بما في ذلك الخطاب الذي سبق الحرب على أوكرانيا والذي حمَّل فيه قادة الاتحاد السوفييتي المسؤولية عن انهياره.
مثل بوتين كمثل هتلر، فقد كان العامل الرئيس في نمو النازيَّة بقيادة هتلر في الحرب العالمية الثانية هو الشعور بمرارة الإهانة من اتفاقية فرساي التي كبلت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وأذلتها.
لمَّا انهار الاتحاد السوفييتي شعر بالخذلان وإهانة الكرامة، واختزن في قلبه ووجدانه مرارة الخسارة. ومن البيّن في خطاباته أنه مسكون بالروح السوفييتية، بما في ذلك الخطاب الذي سبق الحرب على أوكرانيا والذي حمَّل فيه قادة الاتحاد السوفييتي المسؤولية عن انهياره
كان من بنود اتفاقية فرساي التي فرضها الحلفاء على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى؛ إجبار ألمانيا على التنازل عن ١٠ في المائة من مساحتها ودفع تعويضات هائلة للحلفاء عن خسائرهم.
مثَّلَ هتلر حالة تمرد على الإهانة البليغة التي وجهتها أوروبا إلى بلده عبر بنود اتفاقية فرساي، فكان انتقامه عبر غزو أوروبا وطغى جنونه إلى أن أغراه بغزو الاتحاد السوفييتي.
يمكن فهم حالتي هتلر وبوتين بالاستعانة بمصطلح "انتقام الأفكار المخذولة" الذي أبدعه المفكر الجزائري مالك بن نبي، إذ إن التاريخ سياق متكامل، وأحداث اليوم هي أشجار نمت من بذور الأمس، وما يدفن اليوم بقوة الإكراه ينبت بعد حين حروبا ودمارا.. وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
* * *
هذا لا يعني مطلقاً أن بوتين يمثِّل الشرَّ المطلق بينما الغرب يمثل النزاهة، فالحرب الحاليّة هي نتاج النهج التوسعيّ الإمبرياليّ لأمريكا. ولو فكَّرنا بحسابات الدول الكبرى فإن روسيا محقّة في التخوف من الحضور الأمريكي العسكري بالقرب من حدودها، وترى في تحالف أمريكا مع جيرانها خطراً استراتيجياً عليها.
لقد أنتج انهيار الاتحاد السوفييتي عالماً مفرطاً في أحاديَّة القطب الأمريكي، والسلوك الروسي ليس سوى صرخة احتجاج على اختلال توازن القوى في العالم.
هذا لا يعني مطلقاً أن بوتين يمثِّل الشرَّ المطلق بينما الغرب يمثل النزاهة، فالحرب الحاليّة هي نتاج النهج التوسعيّ الإمبرياليّ لأمريكا. ولو فكَّرنا بحسابات الدول الكبرى فإن روسيا محقّة في التخوف من الحضور الأمريكي العسكري بالقرب من حدودها، وترى في تحالف أمريكا مع جيرانها خطراً استراتيجياً عليها
* * *
كشفت هذه الحرب عن احتراف الغرب الرسميِّ في الكذب وأنه لا توجد قداسة للمبادئ والقانون الدولي إلا بالقدر الذي يخدم مصالحهم وأهواءهم، فقد سارعت أمريكا والحكومات الغربية إلى إدانة الهجوم الروسيِّ بحجة أن هذا الهجوم يعدُّ انتهاكاً لسيادة الدول والقوانين الدولية وحقوق الإنسان.
ولو وضعنا كلمة "العراق" بدل كلمة "أوكرانيا"، وكلمة "أمريكا" بدل كلمة "روسيا"، فهذا يعني أن أمريكا شهدت على نفسها بالإدانة لغزو العراق ونشر الفوضى وقتل مئات الآلاف من الشعب العراقي. لم يختلف شيء في المثالين سوى المصالح الأمريكية.
***
كشفت هذه الحرب عن تجذر العنصرية في الثقافة الغربية، وتفشي شعور "تفوق الجنس الأبيض". إحصائياً ومع كل هذا الضجيج، فإن الضحايا المدنيين في أوكرانيا لا يزال قليلاً مقارنةً مع الهجمات التي شنتها دولة الاحتلال الصهيوني ضد غزة، وحتى هذه اللحظة لم نشهد استهدافاً مباشراً ومقصوداً للمدنيين في أوكرانيا، لكن في هجمات
إسرائيل على غزة فإن قتل المدنيين هو منهج مقصود ومتعمَّد، وهناك عشرات العائلات التي أبيدت بأكملها ومحيت من السجل المدني بسبب القصف الإسرائيلي الذي استهدف البيوت المدنية في منتصف الليل واستهدف الأسواق الشعبية وتجمعات المدنيين.
إن ذروة الانحطاط الأخلاقي أن يستثيرك التعاطف مع الضحية بسبب لونه وعرقه. وروسيا ذاتها التي تقصف المدن الأوكرانية التي يسكنها الشُقر ذوو العيون الزرقاء هي التي اقترفت فظائع في حلب ودمَّرت البنايات على رؤوس ساكنيها وقتلت آلاف السوريين، فلم يغضب العالم عُشر غضبته عليها اليوم، بل كان متوافقاً معها ضمنياً على دورها في سوريا، وهذا لا يفسر إلا أنهم يعتقدون في قرارة أنفسهم أن شعوبنا هي أقل إنسانيةً من شعوبهم.
بل إننا لا نحتاج إلى بذل جهد في محاولة فهم دوافع السلوك الغربي، فقد بدا من أفواههم ما كانوا يكتمون، وعبّر أكثر من متحدث على الإعلام أن أوكرانيا تختلف عن العراق وأفغانستان، وأنه من الصادم أن يُقتل الشُقر ذوو العيون الزرقاء.
لا نحتاج إلى بذل جهد في محاولة فهم دوافع السلوك الغربي، فقد بدا من أفواههم ما كانوا يكتمون، وعبّر أكثر من متحدث على الإعلام أن أوكرانيا تختلف عن العراق وأفغانستان، وأنه من الصادم أن يُقتل الشُقر ذوو العيون الزرقاء
وتجلَّى التمييز العنصري في السماح للأوكرانيين بالمرور إلى أوروبا ومنع الأفارقة والعرب. لقد كنا نظن أن نضال مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس هي قصص من التاريخ، لكن وقائع اليوم تثبت أن المعركة ضد العنصرية القبيحة لا تزال حيَّةً وأن الغرب في المواطن الفاصلة يثبت أنه لم يتحرر من هذا الموروث الجاهليّ.
* * *
وبذات طريقة تفصيل المبادئ لتلائم المصالح، تذكَّر الغرب فجأةً أن المقاومة حقٌّ مشروعٌ للشعب الأوكراني، وأن مشهد حمل السلاح من السياسيين والفتيات الجميلات يمثِّل ذروة البطولة والإلهام، وأغرق الغرب الرسمي أوكرانيا بالسلاح للدفاع عن نفسها، وقدمت البرامج التلفزيونية شرحاً مفصلاً لطريقة إعداد الزجاجات الحارقة، بل وفتح باب التطوع للقتال في أوكرانيا!
لن يتحدث أحد عن التحريض على العنف، ولن يحجب فيسبوك وتويتر المحتوى، وقطعاً لن يسمَّى هذا إرهاباً!
هنا أيضاً نحتاج إلى استبدال طفيف من كلمة "أوكرانيا" إلى كلمة "
فلسطين"، ومن كلمة "العدوان الروسي" إلى كلمة "العدوان الإسرائيلي"، ليشهد الغرب على نفسه بالكذب، فكلُّ ما يفعله الفلسطينيون بكل أشكال المقاومة ليس سوى الرد الطبيعي المشروع على العدوان.
والجانب الذي يتعلق بنا في هذه المسألة، هو ألا نكون مهتزِّين متردِّدين ونحن نخاطب العالم، فليس لدينا ما نخجل منه، كما أنهم لا يخجلون من أنفسهم إذا جدَّ الجد، ونحن نمارس حقَّنا الطبيعيَّ في الدفاع عن أنفسنا دون انتظار منح الشرعية لنا من النظام الغربيِّ المتعجرف.
نحتاج إلى استبدال طفيف من كلمة "أوكرانيا" إلى كلمة "فلسطين"، ومن كلمة "العدوان الروسي" إلى كلمة "العدوان الإسرائيلي"، ليشهد الغرب على نفسه بالكذب
* * *
تمثل الحرب الحاليَّة صراعاً بين طريقتين مختلفتين من القوة، وهما
القوة التقليدية والقوة الناعمة، وإن من سوء حظ بوتين أنه رجل يعيش في التاريخ أكثر مما يعيش في الحاضر، لذلك استعان بأشد التكتيكات العسكرية تقليديةً، وحسب معطيات اللحظة فإنه يبدو أنه لم يدرس الواقع والعقبات جيِّداً.
في المقابل، استعان الغرب الخبيث بأدوات القوة الناعمة (نظام سويفت المصرفي، جوجل، فيسبوك، تويتر، خرائط جوجل، الضغط الاقتصادي، حظر الطيران..).
يؤكد هذا التفاوت تحوّل مفهوم القوة، وأن من يريد أن ينتصر في عالم اليوم، فلن يكون ذلك بتكديس السلاح وحده، بل بالقدرة على إنشاء منظومة اقتصادية وتقنيَّة فاعلة.
* * *
تعلِّمنا هذه الحرب ضرورة التكتلات الكبرى وعبثية الدولة القُطرية الصغيرة التي أنشأتها سايكس بيكو لتفتيت وطننا العربي.
لو توحَّد الوطن العربي كله في كتلة واحدة (١٣ مليون كيلومتر مربع) فسيظل أصغر من مساحة روسيا وحدها (١٧ مليون كيلومتر مربع)..
في المقابل، استعان الغرب الخبيث بأدوات القوة الناعمة (نظام سويفت المصرفي، جوجل، فيسبوك، تويتر، خرائط جوجل، الضغط الاقتصادي، حظر الطيران..).
يؤكد هذا التفاوت تحوّل مفهوم القوة، وأن من يريد أن ينتصر في عالم اليوم، فلن يكون ذلك بتكديس السلاح وحده، بل بالقدرة على إنشاء منظومة اقتصادية وتقنيَّة فاعلة
في هذه المواجهة كادت الفروق أن تذوب بين مواقف الدول الغربية، ورأينا عزفاً على وتر واحد وتنسيقاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً يرسم مشهداً جمالياً في التوافق والانسجام.
هذا ما يفترض أن تكون عليه أحوال العرب، وهم الذين تجمعهم وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والدين والمصير. لا مكان للكيانات الصغيرة المفتتة في عالم الكبار، ولن ينتصر الضعف والتفرق على الوحدة والاجتماع.
* * *
إن كل ما يجري من أحداث ينطق بآيات الله، فمن شاء تذكر، وأكثر الناس عنها غافلون. لقد كان اسم روسيا قبل سنوات قليلة يلقي الرعب في النفوس، وهم يرون طغيانها وفتكها في روسيا، حتى ظنَّ كثير من الناس أن لن يقدر على روسيا أحد! ثم دارت الأيام دورتها بسرعة فرأينا المعدَّات والجنود الروس وقد أثخن فيهم القتل والدمار.
هذه سنة الله أن يولي الظالمين بعضهم بعضاً: "وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون"، فالله تعالى لا يهلك الظالم بالعادل بالضرورة، بل يهلكه بظالمٍ آخر. سنوات قليلة فاصلة بين المشهدين تثير الخشوع في القلب.. كيف أن لكل ظالم حسابه وأن الله ليس غافلاً عما يعمل الظالمون!
* * *
من السابق لأوانه توقُّع نهايات الحرب، قد يندفع بوتين تحت ضغط اليأس إلى الجنون، وقد يُهزم فتزداد أمريكا طغياناً، وما نرجوه نحن المستضعفين في الأرض، أن يصفي الظالمون حساباتهم مع بعضهم البعض، وأن يولد عالم متوازن تتعدّد أقطابه على أساس العدل وحقوق الإنسان وكلمة السواء.
twitter.com/aburtema