تمهيد
إنّ المعركة التي تدور اليوم في مدينة القدس وحول المسجد الأقصى المبارك، ليست مجرد احتكاك بين مواطن مقدسي يدافع عن أرضه ومقدّساته، وآخر صهيوني دفعته نزعاته العنصرية على الاحتلال والاستيطان، وإنما هي معركة بين تاريخين وهويتين مختلفتين تماماً: بين تاريخ وهوية لمواطن الأصالة الإسلامية، وآخر صهيوني دخيل أتى إلى القدس وفلسطين وراح يعمل على إلغاء السمات الحضارية المتميّزة للمدينة المقدسة، ساعياً إلى أن يعيد تشكيل المدينة كيهودية خالصة، بعد محو هويتها التاريخية التي تمتد إلى آلاف السنين، وعلى أن يقطع بين جغرافيا المكان وهوية الإنسان أي بين الأرض وأصحابها الأصليين، وبالتالي تصدير هذا الإنسان إلى الفراغ ورميه في المجهول.
لذلك فإن المراقب للأحداث المحتدمة اليوم في مدينة القدس والدائرة على مسجدها المبارك وأحيائها، يدرك بأنها ليست أحداثاً طارئة معزولة عن استراتيجية صهيونية، اعتمدت سياسة المراحل المتدرّجة وصولاً إلى هدفها المركزي بتهويد المكان وتغير هوية الأرض والسكان.
وقد تجلَّت هذه العملية عبر مسارين اثنين:
المسار الأول: الاستيلاء على الأرض بهدف إضفاء الطابع اليهودي على جغرافية المدينة، وذلك من خلال أساليب متعدِّدة من الاستيلاء والمصادرة، بدأت بعد حرب 1948 واستكملت بعد احتلال الشطر الشرقي من المدينة عام 1967.
المسار الثاني: يتمثل بالتغيير الديموغرافي، والذي تسعى عبره حكومات الاحتلال المتعاقبة للوصول ب مدينة القدس إلى مجتمع يهودي خالص. لتحقيق ذلك فقد اعتمدت سلطات الاحتلال سياسة تقوم على اتجاهين متعاكسين:
- تعزيز العنصر اليهودي كوجود اجتماعي اقتصادي وسياسي في المدينة.
- طرد وتهجير قسري للعنصر العربي الفلسطيني من المدينة.
وقد نجحت حكومات الاحتلال المتعاقبة بعد احتلال الشطر الشرقي من المدينة إلى زيادة التعداد السكاني اليهودي من 195 ألفاً في عام 1967، إلى 330 ألفاً العام 1997.
من جانب آخر، ومنذ الأحداث العارمة التي شهدتها مدينة القدس منتصف العقد السابق، وبالتحديد إثر الهبة الشعبية التي اندلعت بعد خطف وقتل وحرق الفتى المقدسي الشهيد محمد أبو خضير في تموز/ يوليو 2014، واندلاع انتفاضة القدس في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2015، وما لحقتها من هبات جماهيرية، أصبحت الزيادة السكانية تنمو لصالح السكان العرب المقدسيين على حساب الازدياد السكاني للصهاينة، حيث سجلت الإحصائيات الصهيونية الرسمية في الأعوام 2019-2015، على سبيل المثال، ازدياداً سكانياً واضحاً لصالح المقدسيين العرب، وذلك بنسبة 2.7-2.5 في المائة (أي بمقدار 9200 نسمة)، بينما أشارت هذه الإحصائيات إلى ازدياد ضئيل بلغت نسبته 1.8-1.5 في المائة لدى السكان الصهاينة (أي بمقدار 7800 نسمة).
كما شكلت الأحداث العارمة التي شهدتها مدينة القدس خلال هذه الفترة، عامل طرد عن المدينة لدى بعض السكان الصهاينة، فساهمت في هجرة معاكسة من داخل مدينة القدس إلى خارجها، مما عزّز من نسبة سكان المدينة العرب ليصلوا إلى قرابة 40 في المائة.
الأحزمة الاستيطانية
لمعالجة هذه المعضلة فقد سارعت الحكومة الصهيونية إلى رفع وتيرة الاستيطان، وخاصة في فترات الهدوء النسبية في مدينة القدس والأراضي الفلسطينية، عبر المسارعة في إقامة أحزمة استيطانية إضافية لتحاصر الأحياء العربية في المدينة، وتحويلها إلى كانتونات معزولة عن جاراتها من الأحياء المقدسية أولاً، وعن محيط البلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك ثانياً، وفرض تضييقات على السكان المقدسيين، بغرض نقل عامل الطرد عن المدينة من الجانب الصهيوني إلى الجانب الفلسطيني، لتصبح حياة المقدسيين لا تُطاق، فيُجبروا على الرحيل طوعاً والسكن خارج المدينة. وقد امتدت هذه الأحزامة الاستيطانية في مدينة القدس لتشمل جميع الأحياء والقرى.
وبما أن الحكومات الصهيونية السابقة كانت قد أحكمت سيطرتها على الشطر الغربي من المدينة، وصولاً إلى جدار الغربي للبلدة القديمة من مدينة القدس وبواباتها (باب الخليل، باب النبي داوود، الباب الجديد، باب المغاربة)، فقد ركّزت الحكومة الصهيونية منذ الأعوام القليلة الماضية على الأحياء الملاصقة للبلدة القديمة (الشيخ جراح، الطور، سلوان)، والتي شكلت درعاً وحامياً للبلدة القديمة ومسجدها المبارك. وفي هذا السياق فقد برز من جديد الإستهداف الصهيوني لحي الشيخ جراح، والذي تعرض منذ احتلال الشطر الشرقي للمدينة عام 1967 لسلسلة من المشاريع الاستيطانية، وهي:
1- رامات أشكول: أقيم في العام 1968 على أرض صودرت من المواطنين العرب زادت مساحتها عن 600 دونم. يقع الحي في منطقة الشيخ جرّاح شمال البلدة القديمة من مدينة القدس (عدد وحداته السكنية 20200 وحدة سكنية يستوعب أكثر من 7500 نسمة).
2- معلومات دفنا: هو امتداد لحي رامات أشكول، أقيم أيضاً العام 1968 على أراضٍ في الشيخ جرّاح تعود ملكيتها لعدد من الأسر العربية، ووقف أمينة الخالدي وعارف العارف (تقدر مساحة الحي بحوالي 270 دونماً أقيمت عليها 2400 وحدة سكنية بلغ عدد مستوطنيها 4500 نسمة).
3- سانهدريا: وهو امتداد آخر لحي رامات أشكول، أقيم العام 1973 على أراضٍ عربية مصادرة (استوعب حوالي 1000 وحدة سكنية بعدد مستوطنين وصل إلى 3200 نسمة).
4- جبعات همفتار: امتداد لرامات أشكول من الناحية الشمالية الغربية، أقيم في منطقة "تل الذخيرة" على أراضٍ عربية مصادرة ومستملكة، (تم فيه إنشاء 500 وحدة سكنية يُقدر عدد سكانها بنحو 1500 نسمة).
5- التلة الفرنسية: أقيم في العام 1969 شرق جبل المشارف على طريق القدس/ رام الله. بلغت مساحة الأراضي العربية التي صودرت لإقامته أكثر من 15 ألف دونم (عدد وحداته 5000 وحدة سكنية يزيد عدد مستوطنيها على 12500 مستوطن).
6- الجامعة العبرية: كانت بداية إقامته في العام 1969 على جبل المشارف، بهدف توسيع الجامعة العبرية، وقد أقيم فيه سكن للأساتذة والطلاب ومكاتب جديدة وقاعة للمحاضرات ومشفى للجامعة (يستوعب هذا الحي حوالي 31500 طالباً وموظفاً جامعياً، يقيمون في 109 وحدات سكنية شُيِّدت على مساحات من الأرضي العربية المصادرة).
ومن خلال مشروعها الممنهج حول المنطقة الشمالية للبلدة القديمة لمدينة القدس وعلى وجه الخصوص حي الشيخ جراح، لم تكتفِ الحكومة الصهيونية بتطويقه من جهة الشمال (ببناء المستوطنات المذكورة أعلاه)، بل سعت وما زالت في زرع بؤر استيطانية ضيقة عن يمينه وعن يساره، لتتوسع مع مرور الزمان كبعقة زيت داخل الحي نفسه، لذلك قامت:
- شرقاً: بالاستيلاء على قصر المفتي بهدف تحويله إلى كنيس يهودي وبناء 56 وحدة استيطانية على أراضيه، وتحويل أراض الكرم التابع له والتي تبلغ 32 دونماً إلى حديقة توراتية، تجاورها 500 وحدة سكنية، بهدف تطويق كرم الجاعوني المأهول بالسكان المقدسيين. وليتحقق لها ذلك فقد قامت قوات الاحتلال (في السابق بمصادرة أراضي وممتلكات عائلة الكرد في عام 2008 وعائلتي الغاوي وحنون في عام 2009)، بينما أقدمت في الشهر الماضي على الاعتداء على مشتل ومنزل عائلة صالحية، الذي يقع على أرض مساحتها ستة دونمات، ومصادرتها بهدف تحويلها إلى مرافق عامة تابعة لبلدية الاحتلال وتأسيس مدارس لذوي الاحتياجات الخاصة عليها.
- وفي الجهة الغربية من الحي: تمارس بلدية الاحتلال ومعها المحاكم الصهيونية ضغطاً ممنهجاً ضد التجمعات المقدسية، وخاصة في منطقة أرض النقاع والتي تقطنها عائلة سالم، التي تعرضت خلال الأسبوع الماضي لمحاولة المصادرة والتهجير (وما زالت قرابة 30 عائلة مقدسية منها: عائلة البشيتي، الغزاوي، أبو دولة، الخطيب، الحبابي، وعشرات العائلات الأخرى تحت طائلة التهديد).
(انظر الملحق: ضحايا التطهير العرقي في حي الشيخ جراح. وانظر الملحق: ضحايا التطهير العرقي في حي الشيخ جراح).
أدوات الفعل الصهيونية
بينما تستعر خطط التوسع الاستيطاني التي تستهدف مدينة القدس في عام 2022، ضمن محاولات محمومة لفرض أمر واقع جديد يغير طابع المدينة وهويتها الحضارية العربية الإسلامية، فقد أصبح واضحاً بأن الحكومة الصهيونية تقوم بتوزيع الأدوار بين خمسة فواعل مركزية لتحقيق أفضل توسع استيطاني ممكن، وهي:
1- بلدية الاحتلال: إقرار خطط للببناء والتوسع الاستيطاني، كان آخرها في الأسبوع الماضي بعد إعلانها عن إقرار مخطط استيطاني جديد، حول حي الشيخ جراح يقضي ببناء 2,092 وحدة استيطانية في مستوطنة "التلة الفرنسية" المقامة على جبل المشارف، بمساحة إجمالية تبلغ حوالي 150 دونماً.
2- قوات الأمن والمخابرات الصهيونية: وتعمل على ردع الشباب المقدسي والضغط عليهم للحيلولة دون تفاقم الأحداث لتشمل الأحياء الأخرى من مدينة القدس، ولتحقيق ذلك تلجأ إلى نصب الحواجز العسكرية مدعمة بكاميرات للمراقبة، والتهديد والاعتقال (حيث بلغ عدد المعتلقين منذ بداية الشهر الجاري 51 معتقلا)، وإطلاق النار على النشطاء المقدسيين (تم تسجيل 45 حالة إصابة بنيران قوات الأمن)، والإبعاد عن مدينة القدس، ومداهمة المنازل والتضييق على الرموز ومنعهم من السفر.
3- المحاكم الصهيونية: وتعمل على تشريع عملية إجلاء العائلات الفلسطينية عن منازلها، بدعوى أنّ ملكيتها تعود إلى الصهاينة، إضافة إلى تنفيذ القوانين العنصرية ضد المقدسيين والسطو على أملاكهم وتسليمها للجمعيات الاستيطانية (أهم هذه القوانين هو قانون أملاك الغائبين).
4- الجمعيات الاستيطانية (مثل عطيريت كوهنيم وإلعاد): وقّعت هذه الجمعيات عدة اتفاقيات مع ما تسمى "سلطة أراضي إسرائيل" و"سلطة الطبيعة" من أجل استملاك العقارات المقدسية والعمل بكافة الوسائل (عبر الابتزاز والتهديد بالتعاون مع جهاز المخابرات الصهيوني لشراء العقارات)، وتنشط هذه الجمعيات في أحياء سلوان ورأس العامود وباب المغاربة والبلدة القديمة.
5- زعران المستوطنين: تترك الحكومة الصهيونية وقوات الأمن المجال لزعران المستوطنين أن يقوموا ببعض الأعمال الاستفزازية في الأحياء المقدسية، بهدف رصد يقظة المقدسيين ودراسة ردة فعلهم. في هذا السياق، سمحت قوات الأمن الصهيونية لعضو الكنيست المتطرف إيتمار بن غفير بإقامة مكتب ميداني له على أرض عائلة سالم المهددة بالمصادرة من قبل المحكمة الصهيونية.
احتواء الموقف
تخشى حكومة الاحتلال الصهيونية من تفاقم الأوضاع الأمنية في مدينة القدس خلال الشهرين المقبلين، وخروجها عن السيطرة كما حدث في العام الماضي واندلاع معركة القدس، وذلك على ضوء ما يراه المراقبون بأن:
- أحداث حيّ الشيخ جرّاح الأخيرة قد زادت من حالة الاحتقان الشعبي لدى المقدسيين بشكل خاص، وحالة الترصد لدى حركات المقاومة الفلسطينة. استمرار هذه الحالة ستزيد من أجواء التسخين بشكل تصاعدي، وستؤدي إلى دخول شهر رمضان المقبل بصواعق جاهزة للتفجير.
- تزامن المناسبات الإسلامية بالمناسبات والأعياد الصهيونية (الثامن من رمضان/ السبت العظيم، العاشر من رمضان/ يوم الهجرة الصهيوني، 14 رمضان/ يوم صيام البكر، 15 رمضان/عيد الفصح، 27 رمضان/ ذكرى المحرقة).
- الشعور بالعجز الكبير أمام مواجهة روح التحدي المتصاعدة في أوساط الشباب المقدسيين، الذين يتنافسون فيما بينهم وعلى صفحاتهم الاجتماعية (فيسبوك وتيك توك)، في إبداء السخرية من جنود الاحتلال وقواته، الأمر الذي انعكس بشكل يدعو للقلق لدى أجهزة الأمن الصهيونية، وأثار تساؤلات حول مدى قدرتها على تحقيق الردع المطلوب.
على ضوء ذلك ترى الحكومة الصهونية وعلى رأسها رئيس الوزراء بينيت بأن الأوضاع الميدانية في حي الشيخ جراح مؤهلة للخروج عن السيطرة، فأبدى بينت خشيته في العاصمة البحرين من أن تؤدي التوترات في الجارية في حي الشيخ جراح إلى تصعيد في قطاع غزة، ودعا إلى منع التصعيد. في ذات السياق جاء قرار المحكمة الصهيونية القاضي بتجميد قرار إخلاء بيت عائلة سالم في حي الشيخ جراح، من أجل تبريد الميدان المتهب واحتواء الأحداث المتصاعدة.
توصيات
- المحافظة على ديمومة الرواية الفلسطينية، ودحض سردية الاحتلال وأكاذيبه في وسائل مواقع التواصل الاجتماعي، وإطلاق حملات إعلامية حول تعزيز الرواية الفلسطينية.
- تكثيف الوجود الفلسطيني في محيط حي الشيخ جراح، ومواصلة حالة التسخين الميداني في حي الشيخ جراح خاصة وكافة الأحياء المقدسية عامة، لمواجهة قوات الاحتلال ومستوطنيه.
- التركيز على مفاعيل معركة سيف القدس وما آلت اليه من إدخال مدينة القدس في معادلات الاشتباك العسكري مع العدو الصهيوني.
- توظيف طاقات الأمة الشعبية والقانونية والإعلامية والثقافية حول فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك.
- التركيز في خطاب الرأي العام العالمي على اتهام حكومة الاحتلال بالعنصرية والسادية، وتجاوزها للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
ملاحق: