(1)
تحتفل
مصر بمرور 100 عام على استقلالها، وسط مطالبات خافتة الصوت بأن يكون يوم 15 آذار/ مارس عيدا للاستقلال. صحيح أن الاحتفال يشبه المناسبة، يعني لا يوجد احتفال حقيقي ولا حاجة، لا على المستوى الرسمي من جانب الدولة ولا على المستوى الشعبي من جانب الأمة المستقلة، ربما لأن الطرفين يدركون الواقع ولا يجدون ما يستدعي الاهتمام بشيء منقوص وغير ملموس، لذلك اقتصرت المناسبة على "شوية أخبار وتقارير" يكررها إعلام أبعد ما يكون هو نفسه عن
الاستقلال.
(2)
موضوع الاستقلال من الموضوعات الكبيرة التي تشغلني.. على المستوى الفردي (سلوك المواطن) وعلى المستوى السياسي العام (سلوك الدولة). وبالطيع فإن الاستقلال لا يعني الانعزال والانفصال عن المحيط الاجتماعي والدولي، لأنه في هذه الحالة سيصبح مرضا يستوجب العلاج، لكن المقصود هو المفهوم السياسي والقانوني لكلمة الاستقلال، بمعنى الاهتمام بكرامة الشخص وسيادة الدولة على أراضيها ومقدراتها، وعدم تبعية الاثنين لجهات أو كيانات خارج الذات الشخصية والوطنية المستقلة.
وهذا يقتضي دائما السؤال عن المرجعية الصحيحة التي تحكم سلوك الفرد أو الدولة: هل هي مرجعية داخلية متفق عليها بالانسجام العادل مع المجتمع الدولي الكبير، أم أنها مرجعية ليست في اليد.. بمعنى أنها مرجعية خارجية تلقينية لا ندركها إلا كتعليمات لا تقبل الرفض؟
الاستقلال لا يعني الانعزال والانفصال عن المحيط الاجتماعي والدولي، لأنه في هذه الحالة سيصبح مرضا يستوجب العلاج، لكن المقصود هو المفهوم السياسي والقانوني لكلمة الاستقلال، بمعنى الاهتمام بكرامة الشخص وسيادة الدولة على أراضيها ومقدراتها
هذا الفهم لكلمة الاستقلال يضعنا مباشرة في قلب الموضوع، وسوف أطرحه من خلال استعراض خفيف لظروف المناسبة محل الاحتفال، وهي تتلخص في موقفين: الأول في 28 شباط/ فبراير 1922 ويخص تصريح إسقاط الحماية البريطانية المفروضة على مصر بذريعة نشوب الحرب العالمية الأولى، والثاني في 15 آذار/ مارس، يوم إعلان تحول مصر من سلطنة إلى مملكة! ولا مانع طبعا أن نطرح الأسئلة ونضع علامات التعجب والاستفهام في نهاية بعض الأسطر، لنحفز عقولنا على التفكير في ما وراء المظاهر السطحية للاحتفال بكلمة هي أساس الحكم على مكانة الدول وإرادتها السياسية وسيادتها الوطنية.
(3)
تقديري الشخصي أن الحديث عن استقلال مصر ينصب على كيان الدولة وارتباطاته الخارجية أولا، ثم على التعامل مع المواطنين في الداخل كانعكاس لاستقلال الدولة وهذا الفهم لا يضع مصر ضمن الدول المستقلة لفترات طويلة جدا من تاريخها بعد انتهاء عصر الأسرات في مصر القديمة.
الحديث عن استقلال مصر ينصب على كيان الدولة وارتباطاته الخارجية أولا، ثم على التعامل مع المواطنين في الداخل كانعكاس لاستقلال الدولة وهذا الفهم لا يضع مصر ضمن الدول المستقلة لفترات طويلة جدا من تاريخها بعد انتهاء عصر الأسرات في مصر القديمة
فقد عاشت مصر تحت مظلة التبعية الخارجية، بحيث كان حكامها ولاة، وبحيث كانت محكومة بدفع الأموال للمركز الذي تتبع له، حتى لو حصل الحكام (وليس البلاد) على قدر نسبي من الاستقلال يسمح لهم بتوريث الحكم لأولادهم بما لا يتعارض مع المركز المتحكم. وحدث هذا في فترات السلالات العائلية التي حكمت مصر مثل البطالمة وأبناء طولون والإخشيدي، وصولا إلى أولاد محمد علي (أما مبارك فقد فشل في الحصول على فرمان بالتوريث).
وحتى عندما صارت مصر سلطنة عظيمة في فترتي حكم المماليك، كانت هناك مرجعية صورية هشة تتمثل في الخليفة الذي تمت استضافته بعد سقوط بغداد ليوافق (شكليا) على تنصيب السلطان الذي جاء إلى البلاد كعبد مملوك، ثم صار حاكما مستبدا في إطار صوري محكوم بلعبة لا يمكن قبولها عقليا إلا بتواطؤ نفسي أو خضوع استسلامي للأمر الواقع.
فمصر المملوكية في ظاهرها ومحيطها الجغرافي والإقليمي كانت سلطنة قوية لها مهابة عسكرية ومكانة تجارية كبيرة، لكنها في حقيقة الحياة المصرية لم تكن إلا بلدا مسلوبا من ناسه، يحكمه جراكسة أو تركمان جاؤوا إلى البلاد كعبيد مملوكين لأمير أو حاكم أراد جلب قوة عسكرية تعينه في الصراع مع غيره من آلات القوة المتنافسة.
باستثناء فترات بسيطة (أطولها فترة الحكم الفاطمي)، كانت مرجعية مصر هناك في عاصمة بعيدة خارج حدودها
وباستثناء فترات بسيطة (أطولها فترة الحكم الفاطمي)، كانت مرجعية مصر هناك في عاصمة بعيدة خارج حدودها. ويمكننا أن نتأمل معا مصير العواصم في فترات التبعية الخارجية، فهناك الإسكندرية التي انتهت كعاصمة منذ الفتح الإسلامي، لكنها احتفظت بمكانتها كمدينة لأسباب كثيرة؛ أهمها موقعها كمدخل بحري رئيسي لمصر في مقابل القوى العالمية الصاعدة القادمة من الشمال الأوروبي، وهناك الفسطاط التي أحرقتها السياسة فانتهى وجودها السياسي والتجاري كما انتهى وجود القطائع والعسكر، فيما استمرت القاهرة لأطول فترة كعاصمة لدول مستقلة مرجعيتها من داخل الحدود. لكن مكانة القاهرة بدأت في التآكل على المستوى السياسي كعاصمة مع ترسيخ نوع جديد من التبعية، فظهرت عواصم غير معترف بها رسميا، لكنها قادرة على منافسة القاهرة في الدور السياسي واهتمام الحاكم واستقطاب الإعلام.
وبرغم الإرهاصات التي أرادها السادات في البحث عن بديل القاهرة، سواء في القناطر الخيرية أو أسوان أو ميت أبو الكوم، إلا أن ظهور
العاصمة المنافسة تأخر إلى عصر مبارك وتمثل في "شرم الشيخ" التي لم تكن "عاصمة صيفية" وفقط كما كانت الإسكندرية في الفترة الخديوية، لكنها كانت عاصمة موازية يحول بينها وبين التسمية الرسمية مشاكل تتعلق بالدستور ووجود مؤسسات الدولة في القاهرة. وهذه هي النقلة التي حققها السيسي بجرأة سافرة في بناء عاصمة إدارية جديدة تطلق على القاهرة رصاصة الرحمة، باعتبارها العاصمة المصرية الوحيدة التي ارتبطت نشأتها واستمرارها باستقلال عن الخارج، وإن كانت القوة التي أسستها قوة قادمة من الخارج أيضا!
وهذه هي النقلة التي حققها السيسي بجرأة سافرة في بناء عاصمة إدارية جديدة تطلق على القاهرة رصاصة الرحمة، باعتبارها العاصمة المصرية الوحيدة التي ارتبطت نشأتها واستمرارها باستقلال عن الخارج، وإن كانت القوة التي أسستها قوة قادمة من الخارج أيضا!
(4)
لدي مثال مبتذل اجتهدت كثيراً في استبعاده من رأسي، ولم أكن أرغب في كتابته، وأعتذر عنه مقدماً، لولا أنني أتفهم أحيانا ضرورة أن يكون المرؤ مبتذلا في بعض المواقف والتعبيرات، كما أتفهم أن يشتم الغاضبون ويلعنون الآخرين في مواقف تعبر عن التركيبة الحية للبشر ككائنات معجونة بالمشاعر والأحاسيس المتناقضة لدرجة العجب. والمثال عن سيدة فاضلة اختطفتها عصابة شريرة، حيث تعرضت للاغتصاب والعمل الإجباري في الدعارة حفاظا على الحياة، لكنها ظلت ناقمة على الوضع وتشعر بالتعاسة وتطالب مختطفها بأن يعتقها من هذا المصير، لأن ضميرها يرهقها وترغب في استعادة حياتها كامرأة شريفة، وطلب منها زعيم العصابة أن تساعده في بعض المهام مقابل طلبها، ولما فعلت كتب لها ورقة بأنها امرأة شريفة مع استمرار عملها ودورها كما هو..
هذا في رأيي ما فعلته بريطانيا في تصريح 28 شباط/ فبراير التي منحت فيه لمصر ورقة بأنها دولة مستقلة، بينما هي دولة محتلة ولكن بأسماء وهمية جديدة، وهو ما كشفت عنه الوثائق المنشورة عن مناقشات مجلس العموم البريطاني ومراسلات مندوب
الاحتلال في مصر عن قناة السويس، وأهمية احتفاظ لندن بالهيمنة على مصر لأسباب استراتيجية واقتصادية. لكن على المستوى الرسمي فرح السلطان فؤاد وكتب مهللا لرئيس وزرائه عبد الخالق ثروت يبارك الاستقلال، ثم كتب بيانا إلى "شعبنا الكريم" (تغيظني جدا كلمات ملكية الشعب التي ينطقها الحكام عن الشعب باعتباره سلعة أو ملك يمين، شعبنا مثل حصاننا وقصرنا وزوجتنا)، المهم نقتطف من بيان فؤاد الآتي:
"لقد من الله علينا أن جعل استقلال البلاد على يدنا.. ونعلن على ملأ العالم أن مصر منذ اليوم دولة متمتعة بالسيادة والاستقلال، ونتخذ لنفسنا لقب صاحب الجلالة ملك مصر، ليكون لبلادنا ما يتفق مع استقلالنا من مظاهر الشخصية الدولية، وأسباب العزة القومية".
فؤاد ابن الجندي الألباني يتحدث عن "القومية" و"الاستقلال" ويفرح بالتنازل عن لقب "سلطان" وحصوله على لقب "ملك"، وهذا يستدعي علامة تعجب واستفهام معاً؟!
(5)
يخبرنا التاريخ عن محاولات محمد علي وأولاده الاستقلال بمصر عن سلطة التبعية للباب العالي في إسطنبول، وتراوحت تلك المحاولات بين الخشونة العسكرية التي انتهت بمعاهدة لندن أو "لندرة" كما يسميها أصحاب الهوى الفرنسي، وبين الممالأة والرشوة والهدايا الباذخة التي حملها الخديو إسماعيل إلى السلطان العثماني، مقابل فرمان يبيح توريث الحكم لأكبر الأولاد بدون استئذان مسبق من الباب العالي، وإن ظلت موافقة الباب العالي جزءا أصيلا من شرعية تنصيب خديو مصر، مع توضيح أن لقب "خديو" نفسه منقوص السيادة لأنه يعني "نائب السلطان" وليس صاحب الحكم المستقل.
وبسبب البذخ الذي ميز فترة إسماعيل في كل مجالات حكمه تم خلعه باتفاق بريطاني فرنسي، وتنصيب ابنه توفيق مكانه، وهو الرجل الضعيف الذي ساعد على حضور الاحتلال البريطاني في أجواء "تمرد الجيش" بقيادة أحمد عرابي؛ للمطالبة بإصلاحات تقلل من سلطة الخديو لصالح القوة الوطنية الصاعدة في مواجهة العناصر الأجنبية في الجيش. ومات توفيق بعد دوره المرسوم لتمكين الإنجليز، وجاء ابنه عباس حلمي (الثاني) محملا بكراهية للإنجليز الذين خلعوا جده ومسخوا شخصية والده.
ودخل عباس في صراع مع الهيمنة الإنجليزية على القصر محاولا تدعيم موقفه بتصنيع قوة وطنية تقترب من الفرنسيين وتهاجم البريطانيين، وهو ما تمثل في ثنائية مصطفى كامل في مقابل لورد كرومر. لكن الصراع انتهى بخلع عباس وإعلان الحماية البريطانية على مصر، وإنهاء السلطة الشرعية للسلطان العثماني على قصر الحكم في القاهرة. وهذا الأمر اقتضى التخلص من لقب "خديو" لأن حاكم مصر لم يعد نائبا للسلطان.
هذا جزء يسير من قصة الاستقلال في مصر، أردت به تنشيط التفكير وفتح باب التأمل والتساؤلات في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، فالتفكير قضية لا يجب أن نتوقف عنها
وكانت المشاورات قد انتهت إلى تنصيب "حسين كامل"، شقيق الخديو توفيق وعم عباس حلمي باعتباره، أكبر أولاد الخديو إسماعيل. وكان الاتجاه يميل إلى إطلاق لقب ملك على حسين كامل الذي رفض لقب صاحب السمو لأنه شائع بين الأمراء، وطلب لقب "ملك"، لكن بريطانيا رفضت أن يتساوى لقب حاكم مصر (التابعة) مع حاكم بريطانيا العظمى، فطلب لقب "صاحب العظمة" بدلا من "صاحب الجلالة". لكن البريطانيين توصلوا إلى حل يكيد السلطان العثماني ويبرز للعالم أن التابع صار مساويا للمتبوع، فتم إطلاق لقب "السلطان" على حسين كامل تأكيدا لأن مصر خرجت من تحت وصاية السلطنة العثمانية، واستمر اللقب حتى عصر فؤاد الذي كان سلطانا ثم صار ملكا، ليس لأنه "ملك فعلي"، لكن لأن المغتصب الأكبر وفّى بوعده وكتب للتابع ورقة بأنه "ملك"..
(6)
هذا جزء يسير من قصة الاستقلال في مصر، أردت به تنشيط التفكير وفتح باب التأمل والتساؤلات في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، فالتفكير قضية لا يجب أن نتوقف عنها.
أعزكم الله بالكرامة والاستقلال الحقيقي.
tamahi@hotmail.com