أسياد الجنس البشري!

أسياد البشر أو أسياد الأمم تعبير قديم استخدمه العالم الاقتصادي الإنجليزي المعروف آدم سميث (1723-1790م) في كتابه الشهير "ثروات الأمم"، وأسياد البشر في عهد آدم سميث (القرن الثامن عشر) كانوا كبار التجار وأصحاب المصانع والبنوك وما يلحق بكل ذلك من ضرورات.. وكان مفهوما بالطبع كيف أصبح هؤلاء أسيادا في زمنهم، إن لم يكن أيضا مبررا بقيم عصرهم والطريقة التي برزوا بها داخل مجتمعاتهم والطريقة التي تعاملت بها مجتمعاتهم مع ما طالبوا به من سيادة، لكن الفكرة بعد الحربين الأولى والثانية تطورت وتقدمت وتوسعت، فلم تعد حالة محصورة في بلد بعينه أو مجتمع بذاته.. إذ أصبح هؤلاء السادة أسيادا للجنس البشري كله، وطبيعة أفكارهم ونشاطاتهم وخطط تحركاتهم وترتيباتهم ونظرتهم للمستقبل ترتكز حول معاني "السيادة والسيطرة والتحكم"..

* * *

والحالة أصلا مغروزة غرزا غريزيا في الطبيعة البشرية، ويعتبرها أهل التزكية من آخر العيوب التي يتطهر منها الصادقون، فما بالنا إذا كانت مصحوبة بقوة وقدرة، ومحرومة من أي قيم ومثل عليا تحكمها وتوجهها. لا بد إذن أن يكون الموضوع جديرا بالحفاظ عليه وإحكام زواياه وأركانه.. وأصلا فكرة أن هناك "عفريتا خفيا" يدير المؤامرات ويحرك الدسائس ويبعث الثورات ويشعل الحروب ويعزل الرؤساء والملوك والوزراء والبرلمانات.. هذه الفكرة موجودة ومعلنة ومنشورة في كتب ودراسات، بعضها جاد ورصين والبعض الآخر تشوبه المبالغة والتهويل المزعج.. وللطرافة موجودة أيضا في ثرثرات المقاهي وأحاديث السمر والتسالي بين عوام الناس الذين يبحثون دائما عن مبرر ومخرج لسلبيتهم وإفراطهم المهين في الكسل والتقاعس.

فكرة أن هناك "عفريتا خفيا" يدير المؤامرات ويحرك الدسائس ويبعث الثورات ويشعل الحروب ويعزل الرؤساء والملوك والوزراء والبرلمانات.. هذه الفكرة موجودة ومعلنة ومنشورة في كتب ودراسات، بعضها جاد ورصين والبعض الآخر تشوبه المبالغة والتهويل المزعج

* * *

ويكفي أن نعلم أن مفكرا وفيلسوفا بحجم نعوم تشومسكي (94 عاما) له كتاب بهذا العنوان "من يدير العالم؟". ونعوم تشومسكي هو من هو، وتصفه الدوائر البحثية والفكرية بأنه أحد أهم المفكرين الأحياء في القرن الحادي والعشرين، لما لأعماله وآرائه من أثر هائل في مجالات البحث العلمي الذي يشمل مجال اللغويات والمنطق والرياضيات وعلم الكمبيوتر وعلم النفس والدراسات الإعلامية والفلسفة والسياسة والعلاقات الدولية. والرجل كتب ما يقرب من مئة وخمسين كتابا، وبالتالي فالنظر لفكرة "العفريت الخفي" ليست دربا من الاستسهال التآمرى البسيط.. حين يكون الكلام موثقا بواقع ومبرهنا بحقائق.

* * *

هناك أيضا كتاب قريب من نفس الموضوع بعنوان "حقائق القادة والأسباب الحقيقية للتوترات في العالم" الذي نشرته مترجما مؤسسة الفكر العربي في 2013م، يتناول نفس الفكرة ولاقى أهمية واهتماما كبيرين، كتبه عالم الاجتماع السياسي المعروف برتران باديه (72 عاما) بالاشتراك مع الصحفي دومينيك فيدال (57 عاما). وبالطبع لا بد هنا من ذكر شبكة فولتير والصحفي الفرنسي المشهور تييرى ميسان (65 عاما).

* * *

في كتابه الأشهر والذي صدر عام 2016م وترجمة المثقف السوري المعروف فؤاد زعرور، يقول تشومسكي إن الفاعلين الأساسيين في شئون العالم، هم الدول العظمى بقراراتها وعلاقاتها المتداخلة هنا وهناك.

وكعالم لغويات ولسانيات فذ، أيضا بطبيعته النافذة الذكاء يقول تشومسكي: "وهذا الكلام ليس خاطئا.. لكن يتخلله كثير من التضليل والخداع، فالدول لها تركيبة داخلية معقدة، وتتحكم في قراراتها واختياراتها.. القيادات السياسية الواقعة تحت تأثير قوى أخرى والتي لها نفوذ داخل تلك الدول..".

وفي هذه الإجابة الجامعة المانعة لغيرها، تبرز لنا نظرة تشومسكي الثاقبة، فما يظهر أمامنا فعلا إلى حد أنه يخيّل إلينا من سحرهم وتضليلهم أنهم فاعلون حقيقيون وقادة نافذون، ليس هو الحق ولا هو الحقيقة.

ويكمل: لا نستطيع أن نعرف من يحكم العالم إلا إذا سلطنا الضوء على التكتلات والشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الضخمة، والتي تقف خلف كثير منها قوى تتعارض أحيانا في أهدافها وتوجهاتها مع المصالح الأمريكية نفسها!.. ويضيف: هناك بالفعل ما يُعرف بـ"حكومة الأمر الواقع العالمية" التي تتكون من قوى الرأسمالية العالمية من شركات ومؤسسات بالغة الضخامة في مجالات الطاقة والدواء والسلاح والإعلام والبنوك، وتوابعها من مؤسسات "العصر الإمبراطوري الجديد".

في الحرب الأخيرة التي تعيشها أوروبا هذه الأيام، يحق لأى إنسان على وجه الأرض وتأثرت حياته الشخصية والمعيشية بأثار هذه الحرب متمثلة في الاقتصاد وحركة التجارة.. من حق هذا الإنسان أن يسأل كيف غابت كل الوسائل الديبلوماسية والتفاوضية عن حل هذه الموضوع، الذي هو بالفعل يتم طرحه على أنه يمثل مشكلة تتعلق بالهيكل الأمني لأوروبا كلها وليس روسيا فقط

* * *

جملة العصر الإمبراطوري الجديد تمثل "جملة مفتاح" كما يقولون، إذ تفسر الكثير وتظهر الأكثر من غوامض الأمور الكبرى والقرارات والسياسات التي تُتخذ على كوكب الأرض.. إلى حد كما ذكرنا شن حروب وتغيير أنظمة..

وفي الحرب الأخيرة التي تعيشها أوروبا هذه الأيام، يحق لأى إنسان على وجه الأرض وتأثرت حياته الشخصية والمعيشية بأثار هذه الحرب متمثلة في الاقتصاد وحركة التجارة.. من حق هذا الإنسان أن يسأل كيف غابت كل الوسائل الديبلوماسية والتفاوضية عن حل هذه الموضوع، الذي هو بالفعل يتم طرحه على أنه يمثل مشكلة تتعلق بالهيكل الأمني لأوروبا كلها وليس روسيا فقط.. وهو الكلام الذي يخص التاريخ وحده.. رائع. ولكن دعنا هنا نقف ونتساءل بهدوء: ما هو آخر وأبعد مدى كان يمكن أن يذهب إليه تهديد الناتو لروسيا؟ أهو نصب منصات صواريخ على حدود روسيا؟ ليكن ذلك.. وماذا بعد؟

* * *

لنمد الخط على استقامته كما يقول أصدقاؤنا اليساريون.. هل ستستخدم هذه الصواريخ في يوم ما لتدمير موسكو؟ وهو الافتراض الذي لا يمكن التعامل معه بجدية في الحقيقة.. بل وسيذهب الخيال إلى ما هو أبعد وأبعد، وانتظار أن روسيا ستفعل مع الناتو ما فعلته مع نابليون بونابرت في بورودينو سنة 1812م.. وهيا بنا جميعا نشاهد التاريخ وهو يمارس نزواته المتكررة في الحاضر المختل.. وكل جنون وله جنون كما يقولون! لن نخوض في تفاصيل ذلك كله، فهي هراء ومخزية وستقرأها الأجيال التالية في أوروبا والعالم بأسف وأسى شديدين.

يكفينا فقط أن نتأكد أن هذه الحرب لم تكن لها أي ضرورة تمليها.. لا من الناحية الأمنية والجيوسياسية ولا من الناحية السياسية، ولا حتى من الناحية التاريخية التي يُنظر فيها إلى الشعب الروسى والأوكراني على أنهما أكثر من شعبين شقيقين

* * *

يكفينا فقط أن نتأكد أن هذه الحرب لم تكن لها أي ضرورة تمليها.. لا من الناحية الأمنية والجيوسياسية ولا من الناحية السياسية، ولا حتى من الناحية التاريخية التي يُنظر فيها إلى الشعب الروسى والأوكراني على أنهما أكثر من شعبين شقيقين.. وإذا كان الأدب هو الذي يكتب التاريخ الخاص للشعوب بالفعل، فلنذكر هنا أن نيقولا جوجول (1809 -1852م) أحد أهم الأساتذة الكبار للرواية الروسية في كل العصور، كان أوكرانياً.. وكان يكتب ما كتبه من روائع رواياته من باطن وأحشاء الشعب الروسي الذي كان ينبض بآلامه ولام فلاحيه ومثقفيه..

هذا الجانب من مقاربة تلك الحرب (سابقة التجهيز) يجعلنا نميل كثيرا لما ذكره اليهودي النبيل تشومسكي في كتابه الهام عن أسياد البشر الجدد الذين لا يعنيهم البشر ولا أرض البشر ولا مستقبل البشر.. ما يعنيهم فقط هو الاستئثار بكل شيء.. كل شيء.

twitter.com/helhamamy