ضمن ما تحدثنا عنه آنفا في مقال سابق حول الاحتيال التشريعي كآلية من آليات استخفاف النظام بالمواطن والمواطنة والحقوق الإنسانية الأساسية، وكذا الاستهانة بكل ما يرتبط بعقول الناس ووعيهم، يقدم مسوغات وتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان، حتى يبدو ذلك النظام وكأنه أنجز وليثبت أن له جوانب للتعامل الإنساني يقوم بمتابعته ومراعاته؛ وهو في حقيقة الأمر يخنق الإنسان ويئد حرياته ويستخف بحقوقه ويستهين بحياته وكيانه وكرامته، ثم بعد ذلك يدعي الإنجاز بعد أن مارس سياسة إذلال ممنهجة في حق المواطن والإنسان وأهالي المسجونين والمعتقلين وأذاقهم كل ألوان الاستعباد والمَّن عليهم بأمور تعتبر من بداهات الحقوق الأساسية للإنسان، إلا أنه من خلال سياساته الفاجرة وسلوكياته المتجبرة يرى أن هؤلاء لا وزن لهم ولا حقوق تخصهم، وأنه يتحكم فيهم ويستعبدهم ويتصرف في حياتهم كيفما شاء وبأي شيء أراد.
وهو بذلك لم يعد يقوم بتدريب المواطن على حالة الإذعان التي كنا نشير إليها ضمن تمرينات الإذعان الصباحية (إبان استبداد مبارك المخلوع) التي يتحكم بها في المواطن، ضمن تعاملاته في أداء بعض الخدمات في الدوائر الرسمية. الأمور في الوقت الراهن قد تخطت ذلك بكثير؛ وتحولت إلى استراتيجيات للاستعباد خطيرة وحقيرة يقوم عليها النظام من خلال أجهزته الأمنية تحكما وإذلالا وقهرا واستعبادا، يفعل كل ذلك ويسميه إنجازا.
ضمن استراتيجيته الممنهجة تلك يحرص على تأزيم الأمور ومخالفة الأعراف والقوانين والدستور، بل ويقرها باعتبار أنها باتت سياسة واقعية لا تخضع لأي قانون أو دستور، وعندما يتخذ قرارا بالتراجع عن بعض التفاصيل الصغيرة في حالة التأزيم التي اصطنعها على عينه وبممارسة سياساته الظالمة يعتبر ذلك إنجازا. إلا أن الوصف الصحيح له هو الاحتيال المركب، إذ يتوسع في فعل الانتهاك ويقتّر بالمن المؤذي؛ بل ربما يتغافل في التراجع عنه.
وهناك مشاهد أساسية تؤكد على هذا الطرح نتناولها لبيان الاحتيال المركب للنظام واصطناعه الإنجاز، مما يشكل متوالية الاستخفاف التي يتبناها في التعامل مع الوطن والمواطنين وحقوق الإنسان المتعلقة بكيانه وكرامته والتكريم الإلهي له؛ ومن ذلك إلغاء الأسلاك والحواجز خلال زيارات المسجونين، والحبس الاحتياطي والتدوير، وأساليب المن الممنهجة. وتوضح هذه القضايا الثلاث كيف يحرص النظام على صناعة الأزمة وتضخيمها، ثم عندما يتدخل بدرجة أقل كثيرا مما صنعه يعد ذلك إنجازا يحتفل ويحتفي به.
حرص النظام الانقلابي مؤخرا على الإعلان عن استعداده للبدء في إزالة الأسلاك والحواجز من بعض
السجون خلال زيارات أهالي السجناء لأبنائهم، وقد اعتبر ذلك إنجازا، وهو أمر جيد وربما يكون من المفروض، ولكن يظل هذا التساؤل مشروعا بل وضروريا: لماذا كان هذا الإجراء محل تطبيق من البداية ضمن السياسات العقابية لتحقيق الإذلال والانكسار؟
فقد توسع النظام في الاعتقال والاشتباه والإخفاء القسري، وشملت هذه السياسات المحامين الذين يمثلون الضحايا، إضافة إلى اعتقال الأهالي الذين يبحثون عن أبنائهم. ثم لجأ النظام إلى حيلة بناء أقفاص زجاجية تمنع الأهالي من اللقاء بأبنائهم السجناء خلال المحاكمات، وكذلك تعسف في تحديد مواعيد جلسات المحاكمات إما بعدم الإعلام، أو التجديد من خلال الهاتف، وصولا إلى نقل المساجين في زنازين متنقلة (عربة الترحيلات) والوقوف بها في جراج المحاكم، ثم العودة بهم مرة أخرى إلى السجون والأقفاص الأسمنتية.
فلك أن تتخيل أن يقضي المسجون ما يقرب من 15 ساعة من اليوم في سيارة الترحيلات بدون أي حق من
حقوق الإنسان أو احترام كرامته؛ في ظل حالة من التكدس لا يمكن تصورها، دون أي اعتبار لأمور إنسانية أو صحية، وبعد ذلك يحتفي النظام بإزالة الأسلاك والحواجز! من الذي صنعها بالأساس؟ وهل لوائح السجون
المصرية على سبيل المثال تقر مثل هذه المعاملة؟ أما عن هؤلاء الذين يقبعون في زنازين انفرادية دون ساعة تريض، أو رؤية الشمس فلا يحلمون بزيارات أو لقاءات لا من وراء الحواجز أو أمامها، ومن ثم كان من الأولى بالإضافة لإزالة الأسلاك أن يسمح للأهالي برؤية أبنائهم المغيبين في السجون دون لقاء أو زيارة لسنوات طويلة.
أما عن جريمة الحبس الاحتياطي والتدوير فهي جريمة لن تسقط بالتقادم من سجل هذا النظام الانقلابي، فسياساته الإجرامية في هذا الملف لا يمكن تصورها أو الفكاك منها، كما أن الإفراج عن بعض المسجونين بين الحين والآخر بات يصنف على أنه انفراجة أو تغيير في السياسات أو تحقيق لاستراتيجية حقوق الإنسان، بل يبالغ البعض ويعتبره مصالحة بين النظام والقوى المعارضة؛ إلا أنه مع قليل من التأمل تكتشف أن بعض سياسة النظام في هذا الملف مدروسة بعناية ولم يطرأ عليها أي تغيير سوى في إطار الاحتيال المركب السابق الإشارة إليه. فالنظام يتوسع في الاعتقالات والقبض العشوائي على المواطنين، وبعد ذلك تبدأ رحلة العذاب من إخفاء قسري وصولا إلى عقد المحاكمات الشكلية وصدور الأحكام الجماعية، بل وتنفيذ بعض أحكام الإعدام، ثم يتم استنزاف المواطنين وأهاليهم في عملية التدوير، ثم يصطنع أو على أقل تقدير يسمح بوجود جهود تسعى للإفراج عن السجناء ويتم الاحتفاء بها وتلميعها في الداخل والخارج، ولا تسفر في النهاية إلا عن الإفراج عن أعداد محدودة للغاية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بل يتم استغلال هذه الحالات للإفراج عن عدد من المجرمين المتهمين بالبلطجة أو القتل، والذين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع النظام.
ويمعن النظام في سياسة التدوير هذه رغم حالة الاستنكار المحلي والدولي لها، فالنظام يصر عليها ويحرص على تنفيذها بصورة مستمرة، حتى أنه بات من المعروف أن قرار النيابة بالإفراج عن السجناء لا يعني تنفيذه فعليا، وإنما يعني أن هناك قضية جديدة ستفتح بناء على تحريات عبثية من الأجهزة الأمنية.
فالتدوير كما تعرفه المنظمات الحقوقية يتم بطريقتين؛ الأولى إخلاء سبيل النشطاء والسياسيين لأسابيع أو شهور، ثم اعتقالهم مجددا في قضايا جديدة ولكن بنفس الاتهامات القديمة، والطريقة الثانية تتم من خلال صدور قرارت إخلاء السبيل دون أن يتم ذلك الإخلاء فعليا، حيث يختفي المتهم فترة داخل مقرات جهاز الأمن الوطني أو أحد أقسام الشرطة، ثم يظهر مجددا في قضية جديدة بذات الاتهامات تقريبا. وإمعانا في التعسف فإن القضايا الجديدة لا تستند إلى قرائن أو أدلة، ولكن في كثير منها تفتقد للمنطق خصوصا وأن التُهم المنسوبة إليهم تكون قد وقعت خلال قضاء فترة الحبس ما قبل صدور قرار الإفراج الشكلي والمؤقت. ولا ينشغل النظام بمنطقية أو عدم منطقية ذلك، ثم إذا ما قرر التوقف عن هذه الجزئية فقط أمام إحدى الحالات نعتبر ذلك إنجازا، وإصلاحا وفتحا مبينا.
ولعل الحالة التي تمر بها إحدى العائلات المصرية من سجن الابن والأب، ووفاة الأم/ الزوجة، والتعسف في الإجراءات ما بين السجن ومنع الزيارات والمنع من الكلام أو الشكوى، والتهديد بالحبس ووضعه رهن التنفيذ الفعلي بصدور قرار إخلاء سبيل من مقر النيابة بكفالة مالية، ويتوج ذلك بمنع مجلس العزاء، ما يؤكد أنه ليس هناك أي أبعاد فيها شبهة مراعاة الحالة الإنسانية عند هذا النظام، وإنما يريد أن يتجمل من شدة قبح أفعاله وحقارة ممارسته وسياساته المهينة والمستهينة. فالثابت الأساسي في كل هذه الأمور هو ممارساته الاحتيالية كآلية من آليات هذا النظام الفاشي التي تُراكم متوالية الاستخفاف بالإنسان والمواطن في مصر المحبوسة.
twitter.com/Saif_abdelfatah