كان لافتا في مقابلة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان مع مجلة "أتلانتيك" الأمريكية تخصيص مساحة واسعة للحديث عن قضايا ومسائل دقيقة تتعلق بالحديث النبوي، عادة ما يقتصر بحثها والخوض فيها على أهل العلم المختصين بالعلوم الشرعية بوجه عام، وبالحديث النبوي وعلومه بوجه خاص.
وبدا ولي العهد كطالب علم له عناية بالغة واهتمام شديد بتلك المسائل والقضايا، وهو ما أثار دهشة محرر المجلة غرايمي وود الذي أجرى معه المقابلة، برفقة رئيس تحريرها غيفري غولدبيرغ ما دفعه إلى توجيه السؤال التالي له: "لقد سمعتك تتحدث عن أهمية الحديث المتواتر، على سبيل المثال، وهذا المستوى من مناقشة الشريعة الإسلامية ليس أمرا نسمعه عادة من ولي عهد أو ملك..".
وبعد إسهاب محمد بن سلمان في بيان أقسام الحديث الثلاثة وشرحها حسب رؤيته، وهي المتواتر، وأحاديث الآحاد، والخبر، سارع الصحفي الأمريكي إلى سؤاله بشيء من الاستغراب "سؤالي إذن، بما أنك قادر على الحديث عن هذا الأمر بمثل هذه السلاسة والمعرفة، فلماذا تحتاج إلى مفتي؟ بإمكانك فعل ذلك بنفسك".
في جوابه عن السؤال الأول، قال ولي العهد: "هذا هو المصدر الأساسي للانقسام في العالم الإسلامي، بين المسلمين المتطرفين وبقية المسلمين، فهنالك عشرات الآلاف من الأحاديث، والغالبية العظمى منها لم تثبت، ويستخدمها العديد من الناس كوسيلة لتبرير أفعالهم، فعلى سبيل المثال، تنظيما القاعدة وداعش يستخدمان الأحاديث النبوية الضعيفة جدا، والتي لم تثبت صحتها، لإثبات وجهة نظرهم".
وعن طريقة استخدام الحديث لفت محمد بن سلمان إلى أن "هذا ما نحاول تحديده ونشره، لتثقيف العالم الإسلامي حول طريقة استخدام الحديث، وهذا سيُحدث فارقا كبيرا، ويحتاج إلى الوقت، ونحن في المراحل النهائية، وأعتقد أنه يمكننا إخراجها ربما بعد عامين من اليوم، إنه مجرد توثيق للحديث بالطريقة الصحيحة؛ لأن الناس عندما يقرأون كتبا مختلفة لا يمتلكون طريقة التفكير أو المعرفة لربطها، ونحن ببساطة نقول: إن هذه مثبتة".
ووفقا لمراقبين فإن حديث ولي العهد السعودي عن الحديث النبوي، وخوضه في مسائله وقضاياه الدقيقة، وكشفه عن مشروع لتوثيق الحديث بالطريقة الصحيحة، وهو ما يجري عليه العمل حاليا، وربما يتم الانتهاء منه، وإخراجه بعد عامين، يشير إلى أن هذا المشروع يتماشى مع التوجهات الجديدة الرامية إلى الانفكاك من النسق الديني (السلفي) المتجذر في الممارسة الدينية السعودية منذ قيام الدولة السعودية إلى تولي محمد بن سلمان ولاية العهد.
فولادة المشروع بظروفه وأبعاده من الواضح أنها سياسية، لذلك ستكون المعايير والأحكام متأثرة بذلك، وضمن قوالب معينة، ومن الجدير بالذكر أن تأثر الحديث بالأبعاد والعوامل السياسية ليس حديثا، ففي كل مرحلة استعان الخلفاء والأمراء بتوظيف أحاديث لخدمتهم، حسب الأكاديمي السوري، المتخصص في النقد الحديثي، الدكتور عمار الحريري.
ووصف الحريري "دعوة ولي العهد السعودي لتهذيب الحديث النبوي، والحذر في الاستدلال به وضبطه بالقرآن" بـ"الكلام الجميل" لكنه استدرك قائلا "لكن على مستوى المعلومة وتقسيم الحديث إلى ثلاثة أقسام بهذه الطريقة وتعريف كل نوع، فليس كلاما علميا، وفيه أخطاء فاحشة".
وتعليقا على ما قاله محمد بن سلمان من أن تنظيمي القاعدة وداعش "يستخدمان الأحاديث النبوية الضعيفة جدا، والتي لم تثبت صحتها، لإثبات وجهة نظرهم"، قال الحريري في حديثه لـ"عربي21": "ليس استدلال القاعدة وداعش دائما بالأحاديث الضعيفة، أو غير الثابتة، بل عمدة أحكامهم أحاديث في الصحيحين مثل حد الردة والرجم".
أما بشأن التعريفات التي ذكرها ولي العهد السعودي لأقسام الحديث (المتواتر، حديث الآحاد، والخبر) فأوضح الحريري أن "تعريف المتواتر هو الذي يرويه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، وليس عديد من الناس ثم قليل عن قليل، وليس العدد مائة كما ذكر في حديثه".
وأضاف: "وبخصوص تعريف حديث الآحاد، فهو قسيم المتواتر، ولكن لا يعني من رواه فقط واحد (كما جاء على لسان الأمير في المقابلة)، فقد يكون إثنين أو أكثر ما لم يبلغ التواتر، وخبر الواحد يشترط فيه خمسة شروط حتى يقبل أو يعد صحيحا، وليس فقط أن يكون الراوي ثقة".
ما قاله ولي العهد السعودي بشأن القسم الثالث من الحديث وهو ما سماه الخبر "لا يوجد في كتب المصطلح لا اصطلاحا ولا مفهوما ولا عددا ولا حكما، ولا وجود له في كتب الحديث كنوع من علوم الحديث، وهو كلام غير علمي، فالخبر هو نفسه خبر الآحاد أي القسم الثاني الذي ذكره سابقا"
وتابع الحريري: "وأوافقه في قوله إنه يحتاج إلى التمحيص والتثبت منه وموافقة القرآن، ولو أنه قال "بدل تماشيه مع مصلحة الناس".. "هل هو من باب التشريع أو لا، والنظر في فقه الحديث ومقاصده لكان أولى".
ولفت الأكاديمي المتخصص في النقد الحديثي، عمار الحريري إلى أن ما قاله ولي العهد السعودي بشأن القسم الثالث من الحديث وهو ما سماه الخبر "لا يوجد في كتب المصطلح لا اصطلاحا ولا مفهوما ولا عددا ولا حكما، ولا وجود له في كتب الحديث كنوع من علوم الحديث، وهو كلام غير علمي، فالخبر هو نفسه خبر الآحاد أي القسم الثاني الذي ذكره سابقا".
وواصل: "وأما تعريفه له بأن ما في سنده أسماء غير معروفة، فهذا كلام غير علمي، وهو يتعلق بعلم الرجال وحكم الراوي هل هو مجهول أو لا، وهذا مدون في كتب الرجال والعلل، فهو خبر واحد ولكن في سنده قدح إذا كان الراوي مجهولا، ولا أعلم كيف جاء بهذ الإحصائية بعشرات الآلاف، بل وألزم عدم استخدامها أي قبولها إطلاقا إلا في حالة واحدة.. لذا فإن القسم الثالث الذي ذكره مشكل جدا، ولا أظنه ناتج عن عمل مؤسساتي، وثمة لبس كبير في الموضوع".
من جهته قال الباحث والمدون المغربي، عبد الباسط الحرشي: "من خلال متابعتي أرى أن مثل هذه التصريحات تأتي في إطار التوجه السعودي نحو ما يسمى بالليبرالية وفق المفهوم السعودي، ويقصدون بها كما يستشف من مختلف السياقات تحديث أفكار وسلوكيات الشعب السعودي بما يجعلها متشابهة مع الشعوب الغربية".
وأضاف: "لكن الدين الإسلامي المتجذر في الحياة السعودية منذ عقود طويلة، يعد من أكبر موانع تحقيق ذلك، ومن المعلوم أن الدين عبارة عن نصوص الكتاب والسنة، ولأن نصوص الكتاب لا يمكن القدح فيها لقطعية ثبوتها، لكن من السهل تأويلها، بعكس السنة التي يسهل التشكيك فيها من جهة الثبوت، لكن عوضا عن الطعن فيها مباشرة، كانت فكرة التهذيب والمراجعة والتحقق من ثبوتها هي المطروحة، وهو ما سيفضي إلى تهميش دور السنة في التشريع والتوجيه".
وردا على سؤال "عربي21" حول مآلات هذا المشروع المتعلق بتوثيق الأحاديث النبوية وتصحيحها، رأى الحرشي أن "هذا المشروع المعلن عنه جزء من التوجهات الجديدة في السعودية، وقد تم التمهيد له باعتقال بعض الرموز التي يستشف منهم معارضته كالشيخ الطريفي وأمثاله، وسيتم تنفيذه وتمريره تدريجيا، وكل من يتوقع منه الإنكار سيتم اعتقاله، وأظن أن اعتقال عبد العزيز الريس كان على خلفية ذلك".
نصوص الكتاب لا يمكن القدح فيها لقطعية ثبوتها، لكن من السهل تأويلها، بعكس السنة التي يسهل التشكيك فيها من جهة الثبوت، لكن عوضا عن الطعن فيها مباشرة، كانت فكرة التهذيب والمراجعة والتحقق من ثبوتها هي المطروحة، وهو ما سيفضي إلى تهميش دور السنة في التشريع والتوجيه
وأبدى الحرشي استغرابه من استفاضة ولي العهد السعودي في مناقشة أصول دينية قطعية، والخوض في بحوث علمية تخصصية، بهذا القدر من التفصيل والإحاطة، وكأنه طالب علم يحفظ دروسه جيدا، مرجحا "وجود مستشار له غير معروف إعلاميا هو من يمده بهذه الأفكار والمعلومات".
ووفقا لباحث شرعي متخصص في الحديث النبوي وعلومه، فضل عدم ذكر اسمه، فإن "هذا المشروع هو جزء من برنامج ولي العهد الإصلاحي المتعلق بالشأن الديني السعودي، وهو الرجوع بالخطاب الديني إلى ما قبل حركة الصحوة التي شنّ عليها هجوما لاذعا في أكثر من مناسبة معتبرا إياها مصدر توليد العنف والتطرف داخل السعودية وخارجها".
وأضاف: "ويرى ابن سلمان أن الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها أدبيات الصحوة في تأسيس خطاب الكراهية والتعصب الطائفي ضد الآخرين؛ هو التمسك بأحاديث الآحاد التي يتعارض كثير منها مع الخطاب القرآني الداعي إلى السلم والعيش المشترك واحترام عقائد الآخرين، وسبق أن أشار إلى ذلك في مقابلته مع الإعلامي السعودي المديفر".
وواصل الباحث الشرعي حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ومن أجل ذلك جاء مشروعه الذي تحدث عنه في المجلة؛ وهو عملية فرز الأحاديث النبوية على أساس موضوعي، وتمييز صحيحها من سقيمها، بيد أنه لم يذكر ما هي معايير التصحيح والتضعيف التي سيبني عليها مشروعه النقدي هذا، وعلى أي منهج من مناهج النقد سيسير؟ وهل سيسلك منهج النقد الحديثي التقليدي أو يُعمل المناهج النقدية الحداثية في الأحاديث"؟
أما عن تأثير ذلك المشروع بعد إنجازه على الحالة الدينية، وانعكاسه على الخطاب الديني ونمط التدين في السعودية، فطبقا للباحث الذي فضل عدم ذكر اسمه فإن "التيارات السلفية بكافة اتجاهاتها ـ والتي تمثل الحالة الدينية السعودية ـ لا تتقبل هذا النوع من المشاريع التي تنطلق من خلفيات حداثية غرضها تطويع الخطاب الديني لموافقة مقررات الثقافة الغربية".
وأردف: "والسلفيون عندهم وعي بهذا الأمر لكن فقههم التقليدي المغالي في طاعة الحاكم يحجزهم عن الإنكار العلني، وإن كان هناك حالات إنكار فردية في أروقة الدروس والمجالس الخاصة تعبر عن السخط السلفي وتخوفه من مآلات هذا العبث في الدين" على حد قوله.
التيارات السلفية بكافة اتجاهاتها ـ والتي تمثل الحالة الدينية السعودية ـ لا تتقبل هذا النوع من المشاريع التي تنطلق من خلفيات حداثية غرضها تطويع الخطاب الديني لموافقة مقررات الثقافة الغربية
وتابع: "وأرى أنه لن يكون لهذا المشروع أثر كبير على الحالة الدينية السعودية، لأن الشعب السعودي متشبع بتقاليد الخطاب السلفي المحافظ، وتقليد كبار علمائها المبرزين كابن باز وابن عيثمين والألباني، وهذا المشروع يصطدم اصطداما كبيرا بنتاج هذا الخطاب المعظم للسنة وللأحكام الفقهية التراثية التي يريد ابن سلمان إفراغها من مضامينها".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن "هذا المشروع الذي بشَّر به ولي العهد السعودي قد يكون مجاملة سياسية للصحيفة الأمريكية، وليس له حقيقة واقعية، ليتزلف إليهم، ويظهر نفسه بمظهر المصلح الديني والسياسي معا".
السعودية تعيد تشكيل دور الوهابية من الشراكة إلى الوظيفية
في عوامل الضعف الذي أصاب حياة المسلمين الدعوية والسياسية