سواء أسمّيناه "تصحيحا للمسار" بتفويض شعبي (تصحيح مسار الثورة والانتقال الديمقراطي) أم سمّيناه "انقلابا" على الدستور وعلى التجربة الديمقراطية كلها برعاية "محور الثورات المضادة"، جاءت "إجراءات 25 تموز (يوليو) لتعيد هندسة المشهد السياسي التونسي بصورة جذرية، ولكنها صورة تتأسس على قراءة متنازع فيها للدستور، خاصة الفصل الثمانين منه.
فقد اتخذ الرئيس قيس سعيد قرار حل الحكومة وتجميد عمل البرلمان والجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو قرار لا يوجد له أي سند في صريح النص الدستوري. فالفصل الثمانون من الدستور يقضي ـ لإقرار حالة الاستثناء ـ بمشاورة رئيسي الحكومة والبرلمان والمحكمة الدستورية، وعدم حل الحكومة أو توجيه لائحة لوم لها، كما يقضي ببقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم. ولا يوجد في هذا الفصل ما يمكن أن يُمثل سندا دستوريا لتجميد البرلمان أو رفع الحصانة عن النواب، أو استئثار الرئيس بإدارة حالة الاستثناء وفرض "خارطة طريق" سياسية للخروج منها.
بصرف النظر عن مدى الدعم الشعبي لإجراءات الرئيس، استطاع هذا الأخير أن يفرض قراءته للفصل الثمانين من الدستور، مستغلا تشتت الأحزاب ومستثمرا استراتيجيات الترذيل الممنهج للبرلمان وهيمنة الصراعات الهوياتية على السجال العمومي منذ الأيام الأولى للثورة.
وقد تحوّل الرئيس بعد صدور المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول (سبتمبر) إلى سلطة مطلقة. فبعد صدور هذا المرسوم، لم تعد مراسيم الرئيس وأوامره تقبل الطعن بحكم حل "الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين" التي كانت تقوم بمهام المحكمة الدستورية العليا. ثم زاد الرئيس في توسيع سلطاته بعد ذلك، عندما قام بحل المجلس الأعلى للقضاء وتنصيب مجلس جديد يمنحه سلطات لم تكن للمخلوع نفسه.
ورغم اختلاف مجمل الفاعلين الجماعيين في توصيف مسار 25 تموز (يوليو) وتفرد الرئيس بإدارة حالة الاستثناء عبر تجميع كل السلطات بين يديه، فإنهم قد أجمعوا على رفض أن يتحول الرئيس إلى "سلطة تأسيسية" تتحكم بمفردها ـ أي بعيدا عن التشاركية والحوار الوطني ـ في هندسة المشهد السياسي القادم و"التمكين" لمشروعه السياسي الشخصي بتوظيف أجهزة الدولة ومواردها.
لقد أوضح مسار 25 تموز (يوليو) الفارط أن الرئيس التونسي لا يعتبر "حالة الاستثناء" مرحلة مؤقتة تنتهي بزوال الخطر الداهم وعودة السير الطبيعي لدواليب الدولة، بل يعتبرها "مرحلة انتقالية" لن تنتهيَ إلا بـ "تأسيس جديد" يقضي على الديمقراطية التمثيلية وعلى أجسامها الوسيطة (باعتبارها "خطرا جاثما" أعظم من أي خطر داهم).
إنه "تأسيس جديد" يعيد هندسة المشهد السياسي بصورة مختلفة جذريا عن المرحلة السابقة التي "زيفت" ـ حسب رأيه ـ الإرادة الشعبية، وانقلبت على الثورة واستحقاقاتها وأفقرت المواطنين وسلطت عليهم نخبا حزبية، هي أقرب إلى المافيات والخونة والمتآمرين منها إلى أي صفات أخرى. ولا شك في أن رفض الرئيس لمحاورة حتى أولئك الذين ساندوا 25 يوليو/ تموز في المنتظمات السياسية والحزبية والمدنية، يؤكد أن موقف الرئيس السلبي من مختلف الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية، هو موقف عام ولا يقبل التخصيص.
بعد رفضه كل الدعوات الداخلية والخارجية إلى الحوار الوطني، وبعد تتفيهه لدعوات أنصار "الإجراءات" إلى الإدارة التشاركية لحالة الاستثناء تحت سقف 25 تموز (يوليو)، كان من الواضح أن الرئيس التونسي مازال مصرّا على التحرك بمنطق "البديل" لا بمنطق "الشريك". وقد اقتضى هذا المنطق عدم القطع مع الدستور الحالي، ولكن اقتضى أيضا تأويلَه بصورة تضمن تمرير "خارطة الطريق" الرئاسية باحتكار تأويل الدستور من جهة أولى، واحتكار تمثيل الإرادة الشعبية من جهة ثانية.
فرغم إصرار الرئيس على أنه يتحرك من داخل الدستور، فإنه قد جمّد العمل بكل فصوله ـ ماعدا التوطئة والفصلين الأول والثاني ـ وهو ما يجعل من الأوامر والمراسيم في رتبة أعلى من الدستور والقوانين التي انبنت عليه. وبحكم غياب أية جهة "تحكيمية" محايدة عند التنازع في تأويل الدستور، فإن الرئيس قد أصبح هو المرجع الأعلى والأوحد في "صراع التأويلات"، وهي مكانة لا يمكن أن يفرضها الرئيس واقعيا، إلا بمنطق القوة التي تحاول إخفاء جوهرها "القهري" بادعاء تمثيل "الإرادة الشعبية".
الخطير في كلمة الرئيس ليس فقط ما تتضمنه من رفض للدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة بعيدا عن التسقيف الزمني الذي وضعه للانتخابات القادمة، بل إن الأخطر هو التهديد بإخراج الخصوم من الحقل السياسي القانوني (بتتبع المشاركين أمام القضاء أو حتى حل أحزابهم)، مع ما يعنيه ذلك من دفع بالأزمة السياسية إلى سيناريوهات كارثية.
رغم فشل الاستشارة الوطنية الإلكترونية التي اعتبرها الرئيس جزءا من "الحوار الوطني" بالمعنى الحقيقي للحوار (على خلاف الحوارات الوطنية السابقة التي لم تكن حسب رأيه "حوارات" ولم تكن "وطنية")، ورغم أن هذا الفشل كان مناسبة ليراجع الرئيس مشروعه للتأسيس الجديد، فإن ذلك الفشل قد تحوّل إلى مناسبة للهروب إلى الأمام ومواصلة الاستهداف الممنهج للخصوم والطعن في وطنيتهم وشعبيتهم. وبصرف النظر عن علاقة قرار عقد الجلسة العامة للبرلمان باستراتيجيات استثمار هذا الفشل السياسي للرئيس، فإنه كان قرارا حاسما في الدفع بهذا الأخير إلى حل البرلمان بعد أشهر من قرار تجميده.
لقد كان الاجتماع البرلماني الذي أقر قانونا يلغي الإجراءات الاستثنائية مؤشرا على وجود تحولات جذرية في موازين القوى بين الرئيس وخصومه، كما كان إيذانا بميلاد خارطة طريق برلمانية تنازع خارطة الطريق الرئاسية، بل إيذانا بعودة شرعية ستلغي شرعية قرارات حالة الاستثناء وتهدد بنسف المشروع السياسي للرئيس والسلطة التأسيسية التي تشرعنه. ولعل السؤال الذي يُطرح هنا لاستشراف المشهد السياسي التونسي في المرحلة القادمة هو التالي: لماذا لم يقم الرئيس –بمنطق القوة الذي حكم كل إجراءاته- بحل المجلس قبل انعقاده، أو لماذا كان يعتبر حل المجلس قبل أيام قرارا غير ذستوري، ثم التجأ إليه بتوظيف الفصل 72 من الدستور؟
يعلم الرئيس جيدا أن قرار حل البرلمان سيجعله مضطرا إلى الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة في أجل لا يتجاوز التسعين يوما، وهو ما حاول تجنبه بقرار "التجميد"، ذلك القرار "اللادستوري" الذي يسلب البرلمان أية سلطة تشريعية أو رقابية على عمل الحكومة، ولكنه يجعل الرئيس في حل من الدعوة إلي انتخابات برلمانية قبل اكتمال خارطة الطريق الخاصة به. ولكنّ نجاح البرلمان في الاجتماع بنصاب قانوني (وبإشراف عدل تنفيذ)، خلط كل الأوراق، وأجبر الرئيس على حله لكن دون التنازل ـ كما يبدو في كلمته الأخيرة ـ عن مشروعه السياسي. فقد ذكّر الرئيس بأنّ مبدأ "السيادة للشعب" هو مبدأ "أعلى مرتبة من الدستور".
ولمّا كان الرئيس هو الممثل الأحد والحصري للإرادة الشعبية، فإنه قد حرّك الدعوة القضائية ضد المشاركين في الاجتماع بتهمة التآمر على أمن الدولة ومحاولة الانقلاب. وبذلك يخرج الرئيس الصراع مع مجلس النواب من دائرة الاختلاف في تأويل الفصل 80 من الدستور إلى دائرة الانقلاب على الإرادة الشعبية، وعلى مبدأ الشعبية الذي هو –حسب تأويله- مبدأ "ما فوق دستوري".
في كلمته التي أعلن فيها حل البرلمان، أكد الرئيس التونسي مرة أخرى أنه ليس ضد العودة إلى الشعب (أي ليس ضد الانتخابات)، ولكنه ضد الدعوة إلى الانتخابات خارج خارطة الطريق التي يعتبرها الخارطة الوحيدة المتماهية مع الإرادة الشعبية والمعترفة بالسيادة الشعبية.
ولعل الخطير في كلمة الرئيس ليس فقط ما تتضمنه من رفض للدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة بعيدا عن التسقيف الزمني الذي وضعه للانتخابات القادمة، بل إن الأخطر هو التهديد بإخراج الخصوم من الحقل السياسي القانوني (بتتبع المشاركين أمام القضاء أو حتى حل أحزابهم)، مع ما يعنيه ذلك من دفع بالأزمة السياسية إلى سيناريوهات كارثية.
إذا ما نجح الرئيس في فرض منطق الأمر الواقع باستثمار الخلافات الإيديولوجية وضعف الضغط الخارجي وغياب أية جبهة معارضة قوية، فإنه سيفرض مشروعه السياسي وخارطة الطريق التي تقود إليه.
فالعودة إلى الشعب ستتم بعد استثناء "من يحاول الانقلاب ومن يحاول العبث بمؤسسات الدولة"، أي بعد تحييد كل الخصوم السياسيين بمقاربة أمنية-فضائية لا ضمن حدود اللعبة السياسية. وهو ما يعني في أفضل الأحوال أن الرئيس سيقبل ـ بعد الخروج من حالة الاستثناء وفق خارطة الطريق التي مازال مصرا عليها ـ باقتسام السلطة مع حلفائه الموضوعيين (مثل الحزب الدستوري الحر أو حركة الشعب وبعض مكونات اليسار والأحزاب النيو ـ تجمعية)، ولكنه يعني ـ عندما نتذكر معنى "التأسيس الجديد" عند الرئيس ـ أن هؤلاء الحلفاء الموضوعيين سيكونون الهدف القادم للرئيس في صورة نجاحه في فرض الأمر الواقع على الجميع.
ختاما، فإن المنتصر في الأزمة السياسية الحالية سيكون هو المتحكم الأساسي في هندسة المشهد التونسي في المرحلة المقبلة. فإذا ما نجح مجلس النواب في توفير الدعم الشعبي والحزام النخبوي والضغط الدولي اللازمين لثني الرئيس عن الذهاب بالصراع السياسي إلى المقاربة الأمنية القضائية والتراجع عن مشروعه السياسي، فإنه سيكون فاعلا أساسيا في الخروج من المأزق الحالي المرتبط بـ"صراع الشرعيات"، أما إذا ما نجح الرئيس في فرض منطق الأمر الواقع باستثمار الخلافات الإيديولوجية وضعف الضغط الخارجي وغياب أية جبهة معارضة قوية، فإنه سيفرض مشروعه السياسي وخارطة الطريق التي تقود إليه.
إننا أمام فرضيتين لا يحددهما المعطى السياسي المحض، بل تحددهما معطيات محلية معقدة، ومعطيات جيو ـ استراتيجية ترتبط بسياسات القوى الدولية، وما ترسمه لتونس في مستوى الخيارات السياسية والاقتصادية والأمنية الكبرى.
تحولات جديدة في المشهد التونسي
هل تتجه تونس نحو الحوار الوطني؟
تونس.. الاستشارة الإلكترونية بين الوهم وخيبة الأمل..
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية