يبيِّن القرآن الكريم رسالة الأنبياء والمرسلين أنَّها إخراج الناس من الظلمات إلى النور: "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ"...
فما هي الظلمات؟
هذه المعاني القرآنية يشعر الإنسان بها بالتجربة والمعايشة، والمحروم ينكر هذه المعاني لأنها لا تلامس فيه إحساساً، فيظن أنه يعيش حياةً طبيعيةً ما دام يأكل ويتمتع ويلهو، لكنَّ من ذاق عرف.
وحين أعالج بقلمي معانٍ مثل الظلمات والنور فلن تكون معالجةً كاملةً تامةً، لأن هذه المعاني لا تدرك نظرياً، بل لا بد من تجربة يحظى بها من جاهدوا أنفسهم وارتقوا في معارج التزكية، ولست من هذا الفريق، لذلك هي مجرد ومضات تضيء أحياناً في قلوبنا ليشوِّقنا الله بها إلى العاقبة الحميدة للمجاهدة والتقوى والاستقامة.
الظلمات ربما تكون كلمةً جامعةً لكلّ القوى المثبِّطة للنفس عن إطلاق الروح، من كبرٍ وإعراضٍ وعلوٍّ وظلمٍ وعدوانٍ وخوفٍ وجزعٍ، والإنسان إذا تلبَّسه الكبر حجب عن ربه:
"إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ".
"كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ".
والنتيجة تبدو منطقيةً، فالمتكبر يتضخم شعور الذات فيه فتأنف نفسه عن الإذعان إلى الحق، والله تعالى لا يحب المستكبرين، فيعاقبه بأن يحجبه عن الحق، وقد جعل الله تعالى النار مثوى المتكبرين، وجعل الجنة مأوى الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.
والحجاب يعني الظلمة. حين تسدل ستائر البيت عن ضوء الشمس ستنتشر الظلمة في البيت، وهذا المعنى الحسيُّ مثل للمعنى الروحي الأعمق، فإذا حجبت المستكبرَ نفسُه عن الحقِّ كانت الظلمات، فتخبَّط في الحياة بغيرٍ علمٍ ولا هدىً ولا كتاب منير.
وهناك مصطلح آخر أصيل في القرآن وهو الأغلال، فالنفس البشرية مثقلة بالأغلال التي تثبِّط الروح عن الانطلاق: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ".
فالأسى قيد يحبس النفس في الماضي، والخوف قيد لأنه إقعاد للنفس عن الانطلاق الإيجابي إلى المستقبل. لذلك يحرر الإيمان النفس من قيدي الماضي والمستقبل حتى تبلغ حالة السلام، وهي حرية الروح من أثقالها: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليه ولا هم يحزنون"..
وكما أن الحزن قيد فإن الإفراط في الفرح قيد لأنه يرهن النفس لطارئ من خارجها، وحين يزول هذا الطارئ تنتكس النفس ثانيةً، أما الإنسان القوي الذي يصوغه الإيمان فهو راسخ لا تزعزعه الحوادث: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم".
وطريقة صناعة الإيمان لهذا الإنسان الحر أن يعلم علم يقين أن كل ما يصيبه مقدَّر من عند الله. فالإيمان بالقدر قوة إيجابية تحصِّن النفس من الانهيار أمام مصائب الحياة وتمنحها الطمأنينة في أوقات العسرة، ولا يقصد مطلقاً بالإيمان بالقدر الاتكال والسلبية والعزوف عن العمل.
وفي ذات السياق نفهم المعاني الدينية مثل التوكل والدعاء، فهي ليست بديل العمل، بل هي بديل العجز الإنساني الطبيعي واليأس والقلق، فالإنسان يدعو في الحقل الذي يستنفد فيه قدراته عن العمل، ولا يصح دعاء الإنسان مثلاً أن ينصره الله بينما لا يبذل أسباب النصر، أو أن يرزقه الله بينما لا يسعى باحثاً عن الرزق.
والدعاء حاجة إنسانية لا يلغيها قوة الإنسان وتطور أدواته، فمهما أوتي من إمكانات العلم، فإنه لا يعلم ما سيصيبه غداً، ولا يعلم إن كانت عاقبة اختياره خيراً أم شراً، فيعالج الخوف باللجوء إلى الإله الرحيم العليم.
إن إثقال الذاكرة قيد على الانطلاق، ويظهر القرآن أثرها التثبيطي في لحظات المواجهة الحاسمة: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ".
هؤلاء الذين تولوا ساعة القتال، فإن الشعور الذي خلَّفته في نفوسهم الذنوب السابقة ظلَّ ينمو ويتراكم حتى استغل الشيطان هشاشتهم فجاءهم في اللحظة الحاسمة التي تقتضي إقداماً وقال لهم كيف ستقابلون الله وأنتم مذنبون فكان ذلك سبباً في ذنب أكبر وهو التولّي.
قصة آدم في القرآن ليست مجرد قصة رجل واحد، بل هو رمز للإنسان في جدليَّته، وحين نقرأ قصة آدم فإننا نواجه أنفسنا. كان آدم وزوجه يعيشان في الجنة حالة استقرار: "إنَّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى". لكنَّ الثغرة التي نفذ الشيطان إليهما من خلالها وأخرجهما مما كانا فيه هي حب الخلود والتملُّك المغروس في جبلَّة الإنسان: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى..".
وهنا تظهر القيمة النفسية الإيجابية لصفة العفو والمغفرة الإلهية، فالله تعالى جعل من صفاته في التعامل مع عباده العفو ليحرٍّرهم من أثقال الذنوب وينشط فيهم العزيمة ومواصلة الطريق. وهنا لا بد من فكِّ الالتباس بين مفهوم الندم المحمود الذي يحث الدين عليه، وبين تولد طاقة سلبية من الذنب تقعِد الإنسان وتثبط فيه عوامل الحركة والنشاط.
الندم المحمود هو ما يشكل قوةً دافعةً لتصحيح المسار وسلطة مراقبة أخلاقية تحول دون الاستغراق في الذنب، وهذا الندم مؤشر يقظة روحية وأخلاقية.
أما المشكلة التي تعالجها الآية السابقة فهي أن يتحول الذنب إلى قوة مميتة، فاليأس هو الهدف النهائي الذي يريد الشيطان أن يوقع الإنسان فيه، ومن خطورة اليأس ربطه القرآن بالكفر: "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون".
الندم صحيٌّ بالقدر الذي يوقظ مراقبة النفس ويستفزها إلى فعل الخيرات، فإذا سمع الإنسان هاتفاً من داخله يقول له لقد اقترفت ذنب كذا وكذا، فكيف تقوم الآن بالإصلاح أو الدعوة أو القتال وأنت ملوَّث! فليعلم أن ذلك الهاتف هو الشيطان يستزله ببعض ما كسبه، وفي هذه الحالة يتذكر عفو الله فينشط من عقاله ويقول إن أفضل طريقة للتطهر من التلوث هي الإقدام والنفير وليس الإحجام والقعود..
هكذا يريد الدين للمؤمن دائماً أن يظل في حالة إيجابية يتولَّد منه الخير ويتحرر من الأغلال.
"شجرة الخلد وملك لا يبلى"
قصة آدم في القرآن ليست مجرد قصة رجل واحد، بل هو رمز للإنسان في جدليَّته، وحين نقرأ قصة آدم فإننا نواجه أنفسنا. كان آدم وزوجه يعيشان في الجنة حالة استقرار: "إنَّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى". لكنَّ الثغرة التي نفذ الشيطان إليهما من خلالها وأخرجهما مما كانا فيه هي حب الخلود والتملُّك المغروس في جبلَّة الإنسان: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى..".
ولو فحصنا دوافع الشر في الإنسان كلِّه لوجدنا أنها لا تتجاوز هذين الدافعين! فالإنسان يحب المال حباً شديداً: "وإنه لِحب الخير لشديد".. وفي سبيل المال فإنه يكنز ويسرق ويغش ويظلم ويعتدي بحثاً عن ملك لا يبلى.. والإنسان يقاتل ولا يتورع عن انتهاك المحارم وسفك الدماء في سبيل بلوغ المنصب والسلطة لأنه يبحث عن ملك لا يبلى. والإنسان ينجب الذرية ويعيش حياته في خوف وقلق وطمع لتأمين حياتهم بحثاً عن شجرة الخلد لأنه يراهم امتداداً له.. والإنسان يبحث عن الجاه والسمعة لأنها امتداد لإسمه ففيها نصيب من معنى "شجرة الخلد".
والإنسان يتعصب لمن يشبهونه من قوم أو ملة ويقاتل في سبيل رفع رايتهم لأنه يرى فيهم ذاته ويرى في انتصارهم وبقائهم "شجرة الخلد وملك لا يبلى".
وحتى الذنوب الفردية لو تعمَّقنا في أسرارها سنجد أنها لا تجاوز هذه الدوافع، فالجنس في سره الفلسفي هو الفناء في اللذة المطلقة، وفي ذلك جوهر معنى "شجرة الخلد" أي أن الإنسان يشعر في لحظات اللذة بالخلود.
ويظهر القرآن دافع قوم عادٍ في البنيان: "وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ".
وهو ربط عميق، فما علاقة اتخاذ المصانع بالخلود؟ إن إنتاج الإنسان فرداً وجماعةً من العمران يورِّث في نفسه شعور الخلود، فإذا نظر الإنسان ووجد الصناعات والعمارات والأدوات المحيطة به من صنع يده أغراه ذلك بأنه قهر الموت، لأنه يرى ذاته في هذه الأشياء التي صنعها، فكلما عظمت هذه الأشياء كلما شعر أن الموت ابتعد عنه، لأنها ستبقى أعماراً مديدةً بعده وهذا يعني أن الموت بعيد عنه..
هذه الرغبة العميقة في نفس الإنسان بالخلود والتملك مشروعة لأن الله تعالى قد نفخ في الإنسان من روحه فصار في الإنسان أثر إلهي من البحث عن الخلود والملك، والقرآن لا يدينها، ولكنَّه يدين الكذب والعدوان طريقاً لبلوغها، والشيطان كان كاذباً حين أغرى آدمَ بعصيان ربه طريقاً للخلود والتملك الأبدي.
لذلك لم يكبت الدين توق الإنسان إلى الملك والخلود ولكنَّه وجهه إلى الاتجاه الصحيح لتحقيق ذلك، والجنَّة هي دار المقام والخلود التي يتنعم فيها الإنسان بكل ما تشتهي نفسه ويأمن من الموت وزوال الملك، وحتى يبلغ الإنسان ذلك المقام، فإن امتحانه ألا تغريه هذه الدار المؤقتة التي هبط إليها فلا يستبدلَ الفانية بالباقية، ويجاهد ليبقي روحه متساميةً عن التثاقل والإخلاد إلى الأرض.
يتبع..