لا يفتأ الخطاب الديني يؤكد على حاجة الإنسان للدين، وأن التدين شيء مركوز في فطرة الإنسان لا يستطيع أن يتخلص منه، ولا أن يعيش بدونه. فالتدين هو اللازمة الطبيعية لتفسير الوجود الإنساني، ولاستقرار النفس، وتوازن المجتمع. إنه بعبارة: المعنى الذي يمنح المعنى للحياة الإنسانية.
غير أن هذا الدين يمكن النظر له من جانبين:
ـ الدين كإجابات على قلق السؤال الإنساني، أي الدين كجواب للأسئلة المقلقة التي تؤرق الذهن الإنساني، الدين كجواب عن سؤال الوجود، وعلته وغايته، الدين كمحدد لماهية الإنسان ودوره ووظيفته ومآله ومصيره، الدين كمحدد للبواعث والغايات، الدين كضابط للنوازع والرغبات، الدين كمنظم للمصالح والمنافع.
الدين بهذا الاعتبار ثابت من الثوابت، تغطي منظومته بتفصيل كل القضايا المثيرة للقلق، ويتسم في تركيبه بالبساطة والبعد عن التجريد والتعقيد. ذلك أن شمولية وعموم خطابه تقتضي أن تتجه أجوبته إلى الوضوح والبساطة. فحيرة السؤال لا يحل عقدتها سوى وضوح الجواب وبساطته، ومن ثمة، فقد عانى العقل الأوروبي كثيرا من قوالب التفكير الكنسي نظرا للتعقيد العقدي والغموض اللفظي في تقرير مجموعة من القضايا، خاصة تلك التي لها تعلق بمفهوم الألوهية والربوبية والتوحيد والخلاص.
ـ الدين ككسب بشري: الدين كثابت لا يبقى ضرورة حبيس الكتب والألواح، بل إنه يختلط ويتلبس بالإنسان، وحيث ما وقع هذا الدمج بين المقدس والبشري، بين المطلق والزمني النسبي لم يعد مسوغا حينها الحديث عن الدين، وإنما عن التدين. فالتدين هو كسب إنساني، أو هو فهم للدين أو تمثل لقيمه، أو تأويل لقناعاته، أو قراءة لمفاهيمه ومحاولة لنقلها وتنزيلها على جميع مناحي الحياة. الدين بهذا الاعتبار يخضع للمساءلة والمراجعة والنقاش. الدين بهذا الاعتبار هو محاولة للإجابة على معضلات العصر من زاوية القراءة للثوابت والمنطلقات العقدية.
الدين حل أم مشكلة؟
يبدو هذا التحديد وهذا التمييز مفيدا، حتى نضع الإطار النظري الذي من خلاله نميز بين نظرتين متقابلتين للدين: نظرة تعتبر الدين مشكلة في الوجود، ونظرة مقابلة تنظر للدين كحل لمشكلة الوجود.
النظرة الأولى تنطلق من معطيين:
المعطى الأول ـ تنطلق هذه النظرة من مسلمة ترى أن انفصال التفكير والتجربة الإنسانية عن معطيات الدين ومفاهيمه قد أنتج "حداثة كونية" حررت الإنسان وحررت الفكر والاقتصاد والسياسة، وجعلت المبادرة عنوان البروز والقوة. فالدين ضمن هذه النظرة لن يقدم شيئا، ولن يكون سوى العائق الذي يعرقل مسار التحديث.
المعطى الثاني ـ ترى هذه النظرة أن التفكير الديني نفسه ظل مرتهنا إلى صور الماضي ومفاهيم الماضي، فهو لم يقدم على أي جهد لاستئناف النظر في قضاياه التاريخية، وتجديد مفاهيمه، حتى تكتسب القدرة على التفاعل مع الواقع وحل مشكلاته.
فهذان المعطيان يمنعان تلك النظرة من أن تنفتح على الدين، وتحاور قضاياه وتناقش مفاهيمه، فالدين ضد الفن، وضد الحرية الإنسانية، وضد الإبداع، وضد القيم الإنتاجية الجديدة التي أفرزنها تحولات ما بعد العولمة. وطبيعي أن ينظر إلى الدين بمنظار مقاوم وممانع، ما دام الدين نفسه لم يستطع أن يفهم طبيعة التحولات التي يعيشها العالم، ولم يستطع أن يواكب الوتيرة التي تتحرك بها.
الدين من هذه الزاوية هو مشكلة وجودية تنضاف إلى قائمة المشاكل التي يسعى العقل الإنساني إلى البحث عن أجوبة وحلول لها.
إذا لم تلتفت نخبنا إلى أهمية هذا الدين في صناعة مستقبل الشعوب وفي تحرير هذا الفاعل التاريخي لأداء وظيفته الاجتماعية فإنها ستحرم نفسها من أهم أدوات التغيير المطلوبة اجتماعيا.
أما النظرة الثانية: فهي تعتبر الدين حلا ليس فقط للمشكلة الوجودية، وإنما هو حل لمشكلات الوجود. الدين يضع مفاهيمه وعقائده وتوجيهاته رهن إشارة الإنسان لفهم ذاته بجميع أبعادها، وفهم الكون، وفهم تناقضات الحياة وصراع الإنسانية الطويل، وهو لا يكتفي بمجرد التفسير، بل إن همه الأول هو تغيير الإنسان وتغيير الحياة وتغيير الواقع. الدين بحسب هذه النظرة ليس فقط لاهوت تحرير اجتماعي، ولا محرضا على ثورة شعبية، الدين هو أداة الفهم وأداة الحركة وأداة التغيير. الدين وهو الفطرة، وهو العمق الإنساني، وهو الأساس في كل مشروع تغييري يكون فيه الإنسان فاعلا تاريخيا.
الدين هو المحرك لكل فعاليات الإنسان، وهو الضابط لجميع غرائزه، وهو المحدد لتوازن المصالح، وهو الراعي للعدل والاعتدال.
الدين بهذا المنظار، هو حل لمشكل الوجود، لكنه لا يكون كذلك حتى يبصر الناس هذه المعاني ويتعاملوا بقدر من الحكمة مع تفاعلات الواقع. لقد قدم التفكير والتجربة الإنسانية نماذج جد مغرية للإنسان، نماذج بها من الإغراء ما يجعل الإنسان غير ملتفت لضررها البالغ، والدين قدم نماذج غاية في تحقيق العدل والإنصاف، غير أن انحباس التفكير في منظومته، وعدم استئناف النظر في مفاهيمه، وعدم تحيين اجتهادات معاصرة لفقهه، جعل تلك النماذج أقل إغراء وجذبا إن لم تكن أكثر مشقة وعنتا بالقياس إلى النماذج الأخرى المقابلة.
في ساحة الواقع، حيث يكون الاختيار في الغالب محكوما بمنطق النفع لا بمنطق المبدأ، لا تنتصر القيم الدينية لأنها لم تستطع أن تجدد ذاتها ولم تستطع أن تقدم نموذجا أكثر إغراء. لا لوم على الناس حينها، فالناس لا يختارون إلا الأيسر، وأهل الاجتهاد هم الذين ينبغي أن يتوجه لهم اللوم لأنهم لم يستطيعوا أن يقدموا هذا الدين بشكل أكثر إغراء ويسرا.
طبيعي أن يتعامل الناس مع البنوك الربوية لاقتناء الدور والمساكن والسيارات وتمويل شركاتهم، وطبيعي أن يعيش المقتنعون بحرمة الربا الداعون لقيم الشريعة في عنت ونصب، لا لأن أحكام الشرع من طبيعتها إلحاق الضرر بالناس، ولكن لأن الاجتهاد البشري لم يستطع أن يؤسس من داخل القناعات الشرعية منهجية مغرية ويسيرة تسعف الناس وتحقق لهم مقصودهم ومطلوبهم.
الناس يلتفتون إلى مصالحهم، ولا ينبغي أن نسعى إلى تغيير قناعاتهم لنجعلها مطابقة لممانعتنا، فالشرع يعتبر المصالح، والمطلوب أن يتحرك العقل المسلم لاستئناف النظر وتجديد الفهم والبحث عن آليات تجعل الناس مقبلين على دينهم، يحققون مصالحهم في ضفافه بيسر أكبر قياسا إلى ما يعرض عليهم من خارج أرضية الدين ومفاهيمه.
ليست المشكلة في الدين، ولكنها قطعا في الذين يعرضونه على الناس ويقدمونه، ومتى ما نجح أهل الاجتهاد في جعل الدين حلا لمشكلة الوجود، فلن يتردد الناس في الدخول إليه أفواجا والتسبيح بحمد ربهم. فلا أحد يدبر عن تحقيق مطالبه، ولا أحد يتنكر لمصالحه، وليس أقدر لرعاية مقاصد الناس وتحقيق مطلوبهم وتحقيق العدل في أمور حياتهم من الدين. لكن القضية ليست في الدين كثابت عقدي وكقيم ضابطة وإنما المشكلة في التدين والكسب البشري.
فالمطلوب أن يتحرر العقل المسلم من الوهم، وأن يجتهد في إغراء الناس بالدين بنفس القدر الذي يجتهد فيه في الدعوة إلى الالتزام بقيمه، وأن يبحث عن الصيغ اليسيرة التي تجذب الناس وتحقق مصالحهم بشكل أفضل مما يرونه خارج أرضية الدين، حينها سيشعر الناس أنهم يحققون مقصدين: مصالحهم التي يحققها يسر الإسلام، ومقصد الطاعة والعبودية لله التي يريدها الدين منهم. وأخطر ما يبتلى به المسلم أن يقع الصراع والمنابذة بين مصالح العيش ومقتضيات العبودية، ولا شك أن الأيسر للناس أن يختاروا ما به تستقيم حياتهم وتمضي على توازن من غير مشقة، فالمطلوب من الخطاب الديني أن يقرب مفهوم العبودية، وأن يجعلها غير منابذة لمصالح الناس وحاجاتهم واعتباراتهم حتى يضمن الدين وجوده وفاعليته، ويشكل بذلك العمق والأساس لكل حركة اجتماعية تقصد تغيير الواقع وحمل الناس على مقتضى خطاب الشرع ومقاصده.
الدين للناس
يتحدث المتدينون عن الدين، ويبشرون بقيمه ومعانيه اللطيفة، ويشعر المؤمنون بعزة الإيمان وحلاوته، ويلمسون ثمار ذلك في سلوكهم ونظام حياتهم. قد يحسون أحيانا أن هذا الدين لا تستقيم معانيه ولا يقوم أساسه إلا بأهل الإيمان، وقد تذهب بهم التصورات فيرون أن هذا الدين لم يأت إلا لأهل الإيمان يدعوهم إلى الفضيلة ومكارم الخلق، والحق أن ذلك هو جزء من الدين ومن رسالته العظيمة، لكن الرسالة الكبرى لهذا الدين تكمن في أنه جاء للناس قبل أن يأتي لأهل الإيمان.
أن يأتي الدين للناس معنى ذلك أن يحرك نواظم الإنسانية المشتركة، أن يخاطب الضمير الجمعي الذي لا تمايز فيه ولا فرز، أن يؤسس للقيم الكونية التي يجتمع عليها بنو الإنسان باختلاف أطيافهم وتوجهاتهم، الدين بهذا الاعتبار جاء أول ما جاء رسالة تحرير للإنسان، رسالة يتحسس فيها الإنسان قيمته الآدمية وكرامته الإنسانية قبل أن يحلي نفسه بمكارم الأخلاق. رسالة العقيدة جاءت تؤكد المعاني الإنسانية وجاءت ترسي القيم العالمية، تؤكد على معنى العدل والحرية والكرامة الإنسانية والمشترك الإنساني؟
أول ما ينبغي أن نؤكد عليه في هذا الدين قبل الشريعة، وقبل الأخلاق ثوابت العيش المشترك، وهي لا تعني سوى ما يمكن أن يتفق عليه الناس من قيم الحق والعدل والجمال.
ليست المشكلة في الدين، ولكنها قطعا في الذين يعرضونه على الناس ويقدمونه، ومتى ما نجح أهل الاجتهاد في جعل الدين حلا لمشكلة الوجود، فلن يتردد الناس في الدخول إليه أفواجا والتسبيح بحمد ربهم.
لهذه القيم نوازع في الفطرة الإنسانية تجعل المتمرد عيها مناقضا لأسس النظام الاجتماعي، فالظلم والقهر يدركان بمحض العقل، وجمال المدينة يقوم بمحض الرؤية والذوق، والتعاون والتضامن مشاعر إنسانية ترق لها القلوب وتدمع لها العين الإنسانية.
قيم إنسانية جامعة تتفق عليها البشرية، وتفتح الباب واسعا لتواصل الناس فيما بينهم وتدبير المدينة على أساس من هذه القيم.
الدين أول ما جاء، جاء يرعى هذه القيم ويزكيها قبل أن يفصل أحكام الجماعة، ودستور الدولة، وأخلاق الأمة. الدين جاء يؤكد معاني الاجتماع الإنساني، ويصلها بأصولها العقدية، فهذه القيم المطلقة متى ما وصلت بغير أصولها دخلها التأويل، وشابها ما ليس منها، وتلبست بنسبية قاتلة تجعل العدل يتكيف بحسب الأحوال وتجعل الحق يختلف بحسب الجنس والمكان، وتجعل الجمال ينزاح من مواقع الطهارة إلى مواقع الرداءة والابتذال.
مهم أن نفهم سبب وصل هذه القيم بأصولها، ومهم أن ندرك أن أسس الاعتقاد لم تنصرف إلى بيان التوحيد والجنة والنار إلا لتؤكد هذه القيم المطلقة التي جعلها الله قاعدة الاجتماع الإنساني.
لا تهم الأحكام، ولا يكون للدستور أي معنى، ولا يكون الأخلاق أي مضمون إن لم تنطلق كلها من ذات القيم وتتأسس عليها.
مناسبة هذا التأمل أن يدرك كثير من العاملين للإسلام أن الذي يجمعهم بغيرهم هو أكبر من أن يستهان به، وأن الخلاف في بعض الأحكام مما تنطلق بصدده معارك هو أقل من أن يفرق بالقياس إلى عناصر الاجتماع.
تدبير المدينة يحتاج إلى هذه القيم العاصمة أكثر مما يحتاج إلى خلافات في بعض الأحكام والفروع.
فلو أن أطياف المجتمع اجتمعت على معاني العدل وكرامة الإنسان وحقه في التعبير والمشاركة في تنمية بلده، ولو أنها تقاسمت معاني الحق وحكمت منطقه ولم تمكن للمفتئتين عليه، ولو أنها تذوقت مراقي الجمال، وتوحدت على بعض صوره لكان ذلك مقدمة لتوافق يعلو بقيمة الإنسان فيحسن محيطه ويرعى حقوقه ويحفظ ضرورته.
الاختلاف واقع في تدبير المدينة في التفاصيل، فيدعو المتدينون إلى الأخلاق والدين ويرون ذلك السبيل الأوفق للحفاظ على القيم الجامعة، ويدعو غيرهم إلى غير ذلك، ويكون النقاش الفكري والتدافع سبيلا لتمحيص المنطلقات وبيان صحتها وقدرتها على الإقناع.
حين يحصل الاختلاف على الأصول، ويقع التعارك في الجزئيات التي تنسي قواعد الاجتماع يتم التضحية بالمدينة، ويصبح منطق الهيمنة هو الحاسم في التدبير، ويتم بذلك الإجهاز على مقاصد الدين.
الدين والوظيفة الاجتماعية
ليس الدين مجرد بواعث أخلاقية تدعو إلى تطهير النفس والسمو بالإنسان، وليس الدين هو الذي يجعل الإنسان منشدا إلى صور المثال مفارقا لحقائق الواقع.
الدين يحمل جزءا من هذه المعاني، فحقائق الواقع هي غير متطلبات الدين، وحركية المجتمع هي غير تطلعات الدين، لكن الدين هنا فكرة قوية تخلق التركيب الضروري بين الهدف أو الحلم وبين الواقع، التركيب الذي يكون فيه الإنسان فاعلا تاريخيا، يمتلك بما أوتي من رصيد القيم، وبما تمثل من معاني الدين، أن يغبر التاريخ.
حين يحصل الاختلاف على الأصول، ويقع التعارك في الجزئيات التي تنسي قواعد الاجتماع يتم التضحية بالمدينة، ويصبح منطق الهيمنة هو الحاسم في التدبير، ويتم بذلك الإجهاز على مقاصد الدين.
الدين بهذا المعنى ليس جوابا على العلاقة بين الله والإنسان فقط، ولكنه منظومة متكاملة تعطي لكل عنصر في المعادلة معنى حقيقيا.
التوحيد يمد الإنسان بطاقة حيوية تحرره من الخضوع للحتميات السياسية والاقتصادية، وتحرره من الارتهان لشروط الواقع، وتحرره من الخضوع لأي اعتبار يصنعه الإنسان أو تصنعه بنى الواقع.
التوحيد هنا يمنح الإنسان قوة للتحرك في اتجاهين:
ـ اتجاه التزود الكامل بكل القيم التي تدفعه وتمكنه من الفعل التاريخي.
ـ اتجاه أداء الوظيفة التاريخية المنوطة به كإنسان.
الله في التصور الإسلامي يحيل على معنيين متقابلين يجسدان التركيب الطبيعي للإنسان: معنى الضعف ومعنى القوة، معنى العبودية ومعنى التحرر. وهما ثابتان مستقران في النفس الإنسانية، ولهذا يركب التوحيد بينهما، فيجعل العبودية متوجهة إلى الله، ويجعل التحرر سمة أساسية للإنسان تمكنه من القيام بوظيفته الاجتماعية كفاعل تاريخي. هذا التركيب النفسي هو نفسه التركيب الطبيعي، فاختلاف الليل والنهار ووظيفة الإنسان فيهما تحيل إلى علاقة التركيب النفسي بالتركيب الطبيعي. فضعف الإنسان يناسبه الليل حيث يكون السكن والخلود إلى النوم والراحة، وقوة الإنسان يناسبها النهار حيث يكون الكدح والعمل.
والجميل في هذا كله، أن يتحول ضعف الليل إلى قوة تاريخية في النهار، حين يتوجه المؤمن في تهجده وبكائه وخشيته إلى الله ليستمد عناصر القوة التي يحتاجها كفاعل تاريخي لأداء وظيفته الاجتماعية. الدين هو المحرك التاريخي والإنسان هو الفاعل التاريخي. ومن ثمة فالحديث عن فصل السياق الديني عن سياق الحراك السياسي يستبطن جهلا حقيقيا بمفهوم الدين ورسالته الاجتماعية.
ليست الحالة في الدين أن يزكي نزوعا فرديا نحو توازن نفسي معزول عن السياق الاجتماعي، ليس الدين بهذا المعنى جوابا للعلاقة بين الله والإنسان، وإنما الدين هو المنظومة الشاملة الني تجيب عن مشكلات الإنسان والكون والتاريخ من منطلق العلاقة بالله المتمحورة أساسا على عقيدة التوحيد.
لاهوت التحرير أو الحركة الماركسية التصحيحية التي تصالحت مع الدين ووظفت بنحو ما قيمه في سياق الحراك السياسي نجحت في إنقاذ الماركسية من بؤسها الأرثوذوكسي ونجحت أيضا من إنقاذ الدين من تمثلاته الرجعية. لاهوت التحرير كان ضربة قوية للمنطق العلماني الذي حاول أن يحيد الدين عن مجاله الحيوي، المجال الذي يملك فيه أن يجعل من الإنسان فاعلا تاريخيا.
يكون من العدل أن نستثمر قيم الدين ومفاهيمه الاجتماعية في إجراء التحولات المطلوبة في المجتمع ما دام هذا المجتمع نفسه يثق بالفكرة الدينية ويتماهى معها، وما دامت الفكرة الدينية نفسها تمتلك أكبر طاقة للتعبئة باعتبار تجدرها في العمق الاجتماعي.
يكون من العدل أيضا أن نصطحب هذه القيم في حراكنا الاجتماعي والسياسي ما دمنا وبشكل فيه كثير من الارتباك نستقبل قيما حقوقية أنتجتها موازين القوى الدولية، وأنتجتها الحتميات السياسية.
وإذا لم تلتفت نخبنا إلى أهمية هذا الدين في صناعة مستقبل الشعوب وفي تحرير هذا الفاعل التاريخي لأداء وظيفته الاجتماعية فإنها ستحرم نفسها من أهم أدوات التغيير المطلوبة اجتماعيا. ستفقد القوة في التجدر، وتفقد الوسيلة في التعبئة والإقناع، وتفقد القدرة على التوجيه والضبط، وتفقد المبادرة والحسم التاريخي.
ليست الإشكالات الناتجة عن قراءة الدين وفهم نصوصه إلا جوانب منهجية ومعرفية يمكن تداول الرأي بشأنها وتسييجها بضوابطها وأصولها.
لكن النظر في الدين لا ينبغي أن يكون محل خلاف داخل نخبنا الفكرية والسياسية حتى يتم وضع التغيير الاجتماعي والانتقال الديمقراطي كأفق لحوار فكري ضروري بين مكونات الطيف السياسي والثقافي.
الحوار على هذا المستوى يقتضي من الجميع مراجعة الرؤى المسطحة والمقاربات المتسرعة المؤطرة بحاجات سياسية. الحوار يتطلب رؤية تتأسس على قاعدة أهمية الدين في إجراء التحول المجتمعي مع فتح نقاش حقيقي أصولي منهجي يطرح قضية التعامل مع النص الديني وآلية تأويله وفهم دلالاته، وضوابط استلهام أحكامه ومقاصده.
بهذا المعنى، يمكن إزالة الاحتراب الفكري والسياسي الذي تبرره بعض الأطراف بمنابذة الآخر للمرجعية الإسلامية، وتبرره الأطراف المقابلة بتوظيف الطرف الآخر للدين واحتكاره الكلام باسم الدين.
حين يتفق الفرقاء على الوظيفة الاجتماعية للدين، وعلى كونه محركا تاريخيا يؤهل الإنسان لإنجاز التغيير المطلوب وتعبئة الشرائح الاجتماعية الواسعة لتحقيق الانتقال الديمقراطي، حينها يتدشن نقاش حقيقي حول فهم النصوص وتأويلها، ولا شك حينها أن الذي يملك القدرة على الإقناع هو الذي يكون أكثر وفاء لمقاصد الشرع، وأقدر في نفس الوقت على ربطها بتحولات الواقع ومتغيراته.
الذي يملك من داخل هذه الرؤية أن يجيب على معضلات الواقع بأسلوب يراعي مصالح الناس وتطلعات الجماهير هو الذي يكون مؤهلا اجتماعيا ومنهجيا لامتلاك شرعية القيادة التاريخية.