كتاب عربي 21

راسبوتين.. رأس بوتين!

1300x600

"هناك غمامة عاصفة مريعة تسري في سماء روسيا. أرى كارثة، ظلاما، حزنا ولا ضياء. إنه بحر من الدموع والدماء. ماذا أقول؟ لا أجد كلمات تصف ذلك الرعب. جميعهم يريدون منك الاندفاع نحو الحرب، لكنهم لا يعلمون أن الدمار ينتظر".
 
كانت هذه مقتطفات، قيل إن غريغوري يافيموفيتش، المعروف باسم راسبوتين، بعث بها إلى القيصر الروسي نيكولاس الثاني محذرا إياه من دخول رحى الحرب العالمية الأولى. لم يستمع القيصر لنصيحة "مستشاره" وكانت النتيجة ملايين القتلى الروس وسقوط الحكم القيصري على إثر اندلاع الثورة البلشفية ونجاحها في السيطرة على البلاد، التي سميت بعدها بالاتحاد السوفييتي، واتخذت الشيوعية منهجا للدولة والمجتمع. 

فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، يسعى، حسب الاستخبارات والإعلام الغربيين، لاستعادة أمجاد هذا الاتحاد السوفييتي بعد سقوطه المدوي في مواجهة النموذج الغربي وانحلاله وتقسيمه إلى دويلات، بعضها أكبر مساحة وعددا من القوى الغربية المنتصرة كما هو حال الجار الأوكراني، الأقرب لروسيا الاتحادية في حدودها المرسومة بعد سقوط جدار برلين. بوتين بالنسبة لنفس الجهات معزول عن حاشيته، لا يستمع إليها، وإن فعل، فمعلومات مغلوطة خوفا من الإهانة العلنية والقتل والبطش السلطويين. هو إذن صاحب القرار الأوحد، هو القيصر وهو راسبوتين عصره في ذات الآن. لأجل ذلك، فرأسه مطلوبة اغتيالا أو انقلابا، مهما حاول الغرب ومؤسساته التهوين من "زلات" لسان نطقت بالحقيقة، التي لا يقدر كثيرون على الجهر بها، على لسان الرئيس الأمريكي جو بايدن.

وأخييييرا..

وأخيرا، حصلت أجهزة الدعاية الغربية ومعها دوائر صنع القرار على الصور التي طالما انتظرتها ونسجت حولها "أكاذيب" الدعاية الإعلامية لأسابيع طويلة من العملية العسكرية التي أعلنها بوتين على أوكرانيا، وأغلقت لترسيخها قنوات القيصر التلفزيونية الموجهة لجمهورها مقابل تكثيف الحملات المضادة، حد السماح بنشر محتويات تدعو للقتل على الشبكات الاجتماعية التي طالما تغنت بمحاربة المحتوى العنيف. كما أطلقت العنان لألسنة "محلليها" ومسؤوليها في القنوات التلفزية التي ضجت بخطاب أوحد يدين "البوتينية"، وكأن جرائمها اكتشاف جديد لم تتبد ملامحه إلا مع الحرب التي نقلها فلاديمير إلى أبواب الاتحاد الأوروبي.

اليوم، صارت صور الجثث المرمية على قارعة الطرق أو المدفونة في "مقابر جماعية" ملء اليد، وإن اعتبرها الجانب الروسي مجرد "استعراض مسرحي لفقه نظام كييف ورعاتهم الغربيين"، ودعا لأجل فضحها لاجتماع لمجلس الأمن قابله البريطانيون بالرفض الصريح.

 

أما الفرنسيون، فقد سارعوا إلى استدعاء السفير الروسي بباريس احتجاجا على تغريدة اعتبرت ما حدث في بوتشا الأوكرانية مجرد لقطات لـ "موقع تصوير". التغريدة حسب وزير الخارجية الفرنسي "غير لائقة ومستفزة"، ولعلها تخدش مشاعر الرئيس إيمانويل ماكرون، الساعي لولاية ثانية على عرش الإيليزيه، وهو الذي اعتبر المشاهد القادمة من البلدة الأوكرانية صورا "لا تحتمل"، وأمر "عدالة" بلاده بفتح تحقيق فيما يمكن اعتباره "جرائم حرب" ترتكب بأوكرانيا.

 

تاريخ الإجرام الغربي الممتد حتى يوم الناس هذا، لا يسمح لفرنسا ولا أمريكا أو غيرهما بإعطاء الروس دروسا؛ فهم شركاء أصيلون في الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية التي لا تزال البشرية تعاني من ويلاتها.

 



ينسى ماكرون وإيف لودريان أنهما سليلا دولة أدانتها الأمم المتحدة في العام 1955 على إثر صور الإعدامات الميدانية التي قامت بها قوات الاحتلال الفرنسية في الجزائر، ووثقتها بالصور دعما لحملة التخويف والترهيب التي أرادت لها أن تسود البلاد. يومها، خرج الوفد الفرنسي برئاسة وزير الخارجية أنطوان بيناي غاضبا من قاعة الجمعية العامة، ففرنسا حسب ما جاء في خطابه " ما كانت لتقبل التسامح مع من يهينها، ولا مع من يفتري على عملها التمديني". فرنسا كانت تعتبر ولا تزال جرائمها الاستعمارية التي لا تعد ولا تحصى في الجزائر والهند الصينية ودول إفريقيا، نشرا للحضارة والتمدن على وقع هجمات النابالم والمدافع وقصف الطيران، وعلى وقع ما وثقه جنودها وهم يلتقطون الصور مع جثث الضحايا احتفالا، تماما كما فعل الجنود الأمريكان بسجن أبو غريب في العراق وغيره من سجون ومعتقلات منتشرة في كثير من مناطق الحرب "الحضارية" الغربية المستمرة حتى اليوم.

تاريخ الإجرام الغربي الممتد حتى يوم الناس هذا، لا يسمح لفرنسا ولا أمريكا أو غيرهما بإعطاء الروس دروسا؛ فهم شركاء أصيلون في الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية التي لا تزال البشرية تعاني من ويلاتها. ولأن العجز عن المواجهة دون استعداد لتحمل العواقب المحتومة عسكريا واقتصاديا أمر واقع، يلجأ النظام الرسمي الغربي للعقوبات المتدرجة؛ حفاظا على مصالحه الاقتصادية المتشعبة وعلى أمنه الاجتماعي الداخلي. ولتصريف ذلك العجز، يصبح رفع سقف التعليقات والتصريحات ملاذا يصبح معها فلاديمير بوتين "جزارا" و"مجرم حرب" و"ديكتاتورا قاتلا"، بل وصل الأمر بوزير الخارجية الأوكراني إلى اعتبار أن " روسيا أسوأ من داعش"، وهو ما يستدعي حسب القادة الغربيين المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن كان الرئيس الأمريكي قد أسرّ بما يجول في الخواطر بالقول: "بحق الله، يجب ألا يبقى هذا الرجل في السلطة". أمريكا لا تعترف بمحكمة الجنايات الدولية، وكانت تبنت موقفا عدائيا من إنشائها، ثم سعت بالتهديد المباشر لإبرام اتفاقيات ثنائية تضمن عدم قدرة قضاتها على ملاحقة مواطنيها. 

روسيا اعتبرت دعوة بايدن "عظيمة"، لكنها طالبت بأن تبدأ إجراءاتها من يوغوسلافيا والعراق. أما الدعوة لتغيير النظام الروسي، فاعتبرت مجرد "زلة" تحتاج إلى إلزام بايدن بنص مكتوب لا خروج عنه. رأس بوتين ربما ليست مطروحة على الطاولة، لكن الأكيد أن الوصول إليها يبدو من قبيل الأوهام.

"أكتب رسالتي هذه لأتركها برهانا لي في مدينة القسيس بطرسبورغ، وإني لأشعر أنني مفارق هذه الحياة.. إذا ما قتلني إخوتي من فلاحي الشعب الروسي، فلا خوف عليك أيها القيصر، وسيبقى عرشك حاكما.. ولكن إذا اغتالني أفراد العائلة المالكة والنبلاء فستظل أيديهم ملطخة بدمائي.. وسوف يهجرون ويهَجرون من روسيا، تاركين الأخ يقتل أخاه.. يا قيصر روسيا، إذا سمعت مناديا ينبئك بمقتلي، فعليك أن تعرف التالي؛ إن كان قاتلي من أهلك، فلن يبق منك ومن ذريتك أحد حيا، وسيكون قاتلك شعبك الروسي. توخ الحكمة فيما أنت فاعل ومقدم عليه وترقب صدى ذلك في نفوس رعاياك...".

 

راسبوتين لمجايليه كان راهبا لا يمكن قتله، وفلاديمير بوتين لمجايليه محصن ضد الغدر بعد أن بنى نظاما يدين له بالولاء، ورفع من منسوب شعبيته باعتباره الضامن لعودة أمجاد الاتحاد السوفييتي في مواجهة محاولات الإذلال الغربي.

 



كانت هذه كلمات راسبوتين للقيصر نيكولاس الثاني، وهي "نبوءة" تحققت كما خطها بعد اغتياله في عملية اختلطت فيها الحقائق بالأساطير، لكن النتيجة كانت واحدة: سقوط الإمبراطورية القيصرية ودخول العالم في عقود من الحرب الساخنة حينا والباردة أحيانا. بعض المؤرخين اعتبروا الاغتيال خطة لجاسوس بريطاني بالنظر إلى ما كان يشكله المقتول من خطر على مآلات الحرب العالمية الأولى، وهو الساعي والناصح بالتصالح مع الألمان بدل الزج بالجيوش الروسية في الميدان. ألمانيا في نظر كثير من المحللين الغربيين كانت، وربما لا تزال، أداة تمكين لبوتين بالنظر إلى العلاقات الاقتصادية القوية التي تربطهما.

راسبوتين لمجايليه كان راهبا لا يمكن قتله، وفلاديمير بوتين لمجايليه محصن ضد الغدر بعد أن بنى نظاما يدين له بالولاء، ورفع من منسوب شعبيته باعتباره الضامن لعودة أمجاد الاتحاد السوفييتي في مواجهة محاولات الإذلال الغربي. دونالد ترامب كان وصف بشار الأسد بـ"الحيوان". غادر ترامب سدة الحكم وعاد بشار لزيارة العواصم العربية، الأقرب لأمريكا، في عملية تدوير وتبييض صورة لم تقو أمريكا على صدها، أو هكذا تريد الإيحاء.

الحديث عن تسميم الرئيس الروسي أو الدفع إلى الثورة عليه أو الانقلاب، مجرد فقاعات لا قدرة لمعارضيه على تحقيقها. في أمريكا أعلنت حديقة حيوانات مينيسوتا عن وفاة نمر من فصيلة آمور النادرة إثر نوبة قلبية. كان اسم النمر المتوفى بوتين، وربما كان هذا أقصى ما يمكن لأحلام بايدن وغيره أن تحققه واقعا. حديقة الحيوانات أعلنت أن "إرث بوتين لا يزال حيا من خلاله أشباله"، وهنا مكمن الخطورة في كل كلام يتحدث عن الإطاحة برأس فلاديمير بوتين؛ لأن كل سعي في هذا الاتجاه، سيعيد رسالة راسبوتين إلى الواجهة من جديد.