لم يعد ثمة شك في أن موافقة روسيا على الانخراط في مفاوضات مع الجانب الأوكراني نابعة من فشل الجيش الروسي في تحقيق إنجازات عسكرية مهمة تسمح له بفرض شروطه بقوة على أرض الواقع.
شهر ونصف لم تستطع فيهما القوات الروسية تغيير المعادلة العسكرية على أرض أوكرانيا، وإذ نجحت في تحقيق بعض الانتصارات العسكرية، فإنها انتصارات لا يستطيع الكرملين ترجمتها إلى لغة سياسية.
سردية أخرى
لكن هذه السردية، ورغم حقيقتها، تحكي نصف القصة وليس كلها، إذ ثمة سؤال كبير يفرض نفسه هنا، كيف أمكن لجيش لم يستطع تحقيق أهدافه العسكرية الرئيسية (السيطرة على العاصمة كييف وتغيير نظام الحكم) أن ينجح في دفع عدوه (أوكرانيا) إلى الموافقة على تنفيذ مطالبه الاستراتيجية (حياد الدولة وعدم مشاركتها في أية أحلاف عسكرية، دولة غير نووية، الامتناع عن نشر قواعد ووحدات عسكرية أجنبية واستضافة تدريبات عسكرية من دون موافقة الدول الضامنة، بما في ذلك روسيا)، وهي المطالب التي كانت تطالب بها روسيا قبيل غزوها العسكري لأوكرانيا في 24 فبراير الماضي.
لا تتعلق المسألة بمدى ما حققه الجيش الروسي من إنجازات عسكرية داخل أوكرانيا، بقدر ما تتعلق المسألة بالغزو ذاته، ذلك الغزو الذي نُفذ على مرأى ومسمع العالم الغربي الذي لم يستطع منعه.
هنا، تكمن القضية، فالانتصار الروسي باللغة الاستراتيجية لا يكمن في تفاصيل ونتائج المعارك، وإنما في القدرة على غزو بلد غير قادر، لا هو ولا حلفائه في الغرب، على منع وقوعه، وفكرة إمكانية تحويل الغزو من القوة إلى الفعل كافية لجعل الطرف الآخر أن يبني حساباته على هذه المعادلة.
بالنسبة لروسيا، فقد شكل غزوها لأوكرانيا ـ وهي الدولة الأهم من بين الدول التي غزتها روسيا خلال العقدين الماضيين ـ ليس تثبيتا لمعادلتها الأمنية في المحيط الجغرافي فحسب، بل أيضا تثبيت نهجها العسكري في جغرافيتها الأمنية،
نعم، قد تظهر روسيا بمظهر المنهزم في أوكرانيا عسكريا، لكن ذلك غير مهم بلغة السياسية والمصالح الاستراتيجية، فما هو مهم أن يتم تحقيق هذه الأهداف، وهنا تظهر إحدى مفارقات الحرب والسياسية: نتائج الحرب لم تقرر النتائج السياسية، وإنما الحرب ذاتها هي التي حققت النتائج، لماذا؟ لأن ثمة طرفين غير متعادلين في موازين القوة، ولما كان باستطاعة الطرف الأقوى أن يغزو بلدا، دون مانع محلي أو إقليمي أو دولي، فهو منتصر بطبيعة الحال على المستوى السياسي والاستراتيجي، دون العسكري.
ومن المهم هنا الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان بمقدوره تحقيق أهدافه على المدى الطويل باستخدام الأدوات الاقتصادية والحصار البحري لأوكرانيا دون أن يخوض عملية عسكرية، لكنه آثر العملية العسكرية على ما فيها من ردود فعل غربية متوقعة، لأنه يريد أن ينهي موضوع أوكرانيا بشكل لا رجعة فيه، بحيث لا تعود تشكل تهديدا للأمن الحيوي الروسي، وأن يرسل رسائل للولايات المتحدة بأن الدول السوفييتية السابقة، وإن كانت دولا ذات سيادة، فإنها جزء من العباءة الروسية التي لا يسمح بالاقتراب منها.
هذه المقاربة تدفعنا إلى إعادة طرح الأزمة الأوكرانية برمتها، فهل كان الأمر يستحق هذا الغزو؟ ألم يكن بمقدور صناع القرار في أوكرانيا تفاديه بالموافقة على المطالب الروسية، مع الإبقاء على علاقات مميزة مع الغرب، والعمل بجهد في الداخل لتعزيز الديمقراطية الناشئة؟
تصدع جيوسياسي
ما لم يدركه صناع القرار في كييف أن بلدهم يقع في قلب تصدع جيوسياسي في منطقة أوراسيا، بحيث تصبح الجغرافيا عائقا لها في التوجه نحو الغرب ضمن المعادلة العسكرية وإن لا تمنعها من ذلك من الناحية السياسية.
لقد خسرت أوكرانيا الكثير في الغزو الروسي، فقد تعرضت لخسائر اقتصادية كبيرة، وإلى صدع اجتماعي ـ سياسي من شأنه أن يجعل من إقليم دونباس خاصرة رخوة تمنع من تشكل دولة متماسكة ذات سيادة، ناهيك عن خسارتها شبه جزيرة القرم.
المكسب الوحيد النظري هو إمكانية دخول أوكرانيا ضمن الاتحاد الأوروبي، لكنه انضمام قد يتحقق في المستقبل من دون تكاليف الحرب هذه.
بالنسبة لروسيا، فقد شكل غزوها لأوكرانيا ـ وهي الدولة الأهم من بين الدول التي غزتها روسيا خلال العقدين الماضيين ـ ليس تثبيتا لمعادلتها الأمنية في المحيط الجغرافي فحسب، بل أيضا تثبيت نهجها العسكري في جغرافيتها الأمنية، فهي منطقة لا تخضع بالنسبة لها إلى السمسرة السياسية، ومن هنا، فإن ما حدث يشكل درسا مهما للجمهوريات السوفييتية السابقة للتفكير مليا حول سياساتها الاستراتيجية: بين جار قوي غير نافع اقتصاديا ولا سياسيا لكنه مضر إن تمت معاداته، بين قوى بعيدة مفيدة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، لكنها لا تحمي.
*كاتب وإعلامي سوري
أوكرانيا توحد الناتو والنفط يهدد بتمزيقه
دولة الاحتلال وحركات المقاومة في ظل الهزّة الأوكرانية.. تقدير موقف
القارة الأوروبية تواجه الحرب الروسية!