شغل الترشح للأدوار النهائية لكأس العالم حيزا هاما من حديث الشارع العربي بين احتفال المتأهلين وحسرة المنسحبين من أهم حدث رياضي عالمي. فقد ترشحت منتخبات تونس والسعودية والمغرب بعد خوض التصفيات الترشيحية النهائية كما تأهلت قطر باعتبارها البلد المنظم لكأس العالم التي تنظم على أرضها خلال الأشهر الأخيرة من هذه السنة.
يستقي هذا الحدث أهميته من عوامل عديدة جعلت منه حدثا تاريخيا بامتياز فهو من جهة أولى أول كأس عالم ينظّم في بلد عربي وهو من جهة ثانية شاهد على واحدة من أدق الأزمات الإقليمية التي رافقت فوز البلد المنظّم بتنظيم المناسبة الرياضة الأهم عالميا. من جهة أخرى عاد الحديث عبر فضاءات التواصل الاجتماعي متباينا عن الدور الذي تلعبه كرة القدم في المنطقة العربية بشكل خاص وتحوّلها من أداة للترفيه إلى وسيلة سياسية للتحكم والتنويم وتوجيه والربح.
العرب وكأس العالم
لا يجادل إثنان في أنّ أعظم ما يمكن أن تحققه المنتخبات العربية هو المرور إلى الدور الثاني من تصفيات المونديال وهو الأمر الذي لم يتحقق لأغلب الفرق العربية التي تكتفي بالهزيمة في الدور الأول ثم العودة إلى الديار كما حدث خلال كأس العالم الأخيرة التي نظمتها روسيا. فالمنتخبات العربية لكرة القدم لا تملك المؤهلات البدنية ولا الفنية ولا التسييرية لمنافسة أعتى الأندية العالمية رغم كل الإمكانيات المرصودة والتي تفوق في أغلب الأحيان ميزانيات وزارة الصحة أو وزارة التعليم.
مشاركة العرب إذن مشاركة صورية شكلية لا تختلف عن مشاركاتهم في كل المحافل والمناسبات الدولية إذ يكتفون بالتقاط الصور دون أية قدرة على المنافسة وعلى الفوز وفرض الذات. وهو الأمر الذي ينسحب تقريبا على كل مجالات المنافسة العالمية لأنّ النصر والإبداع لا يمكن أن يتحقق إلا في فضاءات الحرية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
في المقابل تعتبر الجماهير العربية من أكثر الجماهير شغفا بكرة القدم التي تجاوزت كونها منافسة رياضية إلى أن أصبحت مقياسا للنصر أو الهزيمة ومحددا للفشل أو النجاح. لقد نجحت السلطة السياسية على مدار العقود الأخيرة في تحويل ميادين كرة القدم إلى مجال للتنفيس السلبي عن المكبوتات الجماعية والفردية وفضاء لتفريغ الطاقات الكامنة، حيث لم تعد الرياضة الأشهر في العالم ميدانا للمتعة والمنافسة والاحتفال بالنصر كما هو الحال في الملاعب الأوروبية مثلا بل تحولت إلى مجال موجّه للجماهير نحو تفريغ المكبوتات الاجتماعية والنفسية الكامنة.
لم تختر قطر تنظيم كأس العالم للفوز بها أو للحصول على موارد مالية من تنظيم التظاهرة العالمية كما تفعل دول أخرى فعندها من الثروات من يكفيها عن ذلك. لقد اختارت الدوحة تنظيم المناسبة الرياضية العالمية الأبرز من أجل وضع اسمها على خريطة العالم عبر القوة الناعمة لا عبر غيرها من الوسائل الصلبة عسكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية.
لكنّ أخطر ما في هذه اللعبة الشعبية هو وقوعها في مجال التوظيف السياسي لصالح السلطة الحاكمة كما وقعت في ذلك بقية الأنشطة والفعاليات من فنّ ورياضة وثقافة وكل أشكال الفضاء الرمزي للمجتمع والدولة. صار المنتخب الوطني أقرب إلى الكتلة المحاربة التي تستوجب الولاء والاصطفاف وراءها وكأنها فصيل مقاتل يحارب على جبهات التحرير. صار انتصار الفريق أشبه بالانتصار العسكري وتحوّل الانتماء إلى هذا الفريق أو ذاك محددا للوطنية وحب الوطن ومقياسا للولاء له فصار الوطن هو الفريق الوطني.
لن نخوض هنا في المكاسب المالية التي تجمعها تكتلات المصلحة القريبة من السلطة والدائرة في فلكها من هذه اللعبة خاصة ما تعلّق منها بالأندية المحلية وتكفي نظرة سريعة على أسماء رؤساء الجمعيات وعلاقتهم بالسلطة السياسية حتى نفهم دور الهيمنة وتوجيه الجماهير الذي تلعبه هذه الأندية الرياضية داخل فضاء السلطة والدولة.
لن نخوض أيضا في تحوّل الرياضة الأكثر شعبية إلى مجال لتصفية الحسابات السياسية وإلى تفجير التوتر بين الأشقاء كما حدث مثلا بين منتخب مصر والجزائر في السودان وما عُرف لاحقا بموقعة أم الدرمان. كرة القدم في البلاد العربية أداة للإلهاء والتنفيس مثلها مثل المسلسلات الهابطة والفن الرخيص وثقافة التفاهة التي تخنق الوعي العربي فتُصرف عليها مليارات الدولارات من عرق الشعوب وثرواتهم.
قطر وكأس العالم
قطر هي البلد المنظّم وقد فازت بشرف التنظيم كأوّل دولة عربية وإسلامية تُقام النهائيات على أرضها بعد معركة طويلة وشاقّة اتخذت أبعادا سياسية وضعتها خارج المجال الرياضي نفسه. فازت قطر الدولة العربية الصغيرة جغرافيا والضعيفة ديمغرافيا بالتنظيم بعد أن برهنت عن قدرات تنظيمية عالية فاقت بها قدرة دول كبيرة على ذلك فضلا عمّا برهنت عليه خلال مناسبات رياضية أخرى من مستوى متقدّم في احتضان المنافسات الرياضية التي كان آخرها كأس العرب لكرة القدم.
لم يكن السعي القطري الحثيث والمكلِف للفوز بالتنظيم مسألة رياضية فحسب بل إنه يندرج في إطار بحث الدولة عن أسباب القوّة الناعمة التي تجعلها حاضرة على الساحة الدولية مهما كان الإطار الذي تندرج فيه. وهو توجّه يندرج ضمن شروط تحقيق الطور الثالث من أطوار الصعود الخليجي للقوى الصغيرة متمثلة أساسا في دولتي قطر والإمارات التي تجاوزت طوري البقاء والاستقلال وذلك إلى حدود بداية الألفية الثالثة ودخول طور الانتشار والإشعاع انطلاقا من 2010 تقريبا.
المونديال القطري قصةُ نجاح عربي في كسر قيود الاحتكار الرياضي العالمي وانتصارٌ لبصيرة ثاقبة تُحسن انتقاء أسلحة المعركة وفوزٌ خليجي على عصابات قطّاع الطرق محليا ودوليا وهي في الختام إعلان عن اكتمال أهمّ وأخطر القلاع ضد التحديات التي تواجه أية قوة صاعدة.
صحيح أن الدولتين الخليجيتين اختارتا مسلكين مختلفين للانتشار والإشعاع فقد فضّلت الإمارات الدفع بكل ثروتها ومواردها في اتجاه محاربة أحلام الشعوب في الحرية والتغيير وقطع طريقها نحو مجتمعات أكثر عدلا واحتراما لحقوق الإنسان. وليست احتفالات التطبيع مع الكيان المحتل وتمويل الانقلابات العسكرية في كامل المنطقة العربية إلا خير دليل على هذا التوجّه. أما الدوحة فقد تأسس مشروعها الإقليمي على السير نحو مجتمعات أكثر عدلا وأكثر انفتاحا على الآخر وأقل قمعا واستبدادا وفي هذا الإطار تتنزل مواقفها من ثورات الشعوب ومن دعم القضية الفلسطينية والتنديد بكل أشكال الاستبداد.
لم تختر قطر تنظيم كأس العالم للفوز بها أو للحصول على موارد مالية من تنظيم التظاهرة العالمية كما تفعل دول أخرى فعندها من الثروات من يكفيها عن ذلك. لقد اختارت الدوحة تنظيم المناسبة الرياضية العالمية الأبرز من أجل وضع اسمها على خريطة العالم عبر القوة الناعمة لا عبر غيرها من الوسائل الصلبة عسكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية.
في هذا الإطار وتحت هذا السقف يمكن فهم الحرب الإعلامية والسياسية الشرسة التي كانت الدوحة ضحيتها خلال السنوات الأخيرة وخاصة بعد فوزها بشرف تنظيم المونديال وما رافق ذلك من عمليات القرصنة والتشويش والتشويه التي لم يسلم منها أحد هناك قيادة وشعبا. كان السعي إلى منع الدوحة من تنظيم المونديال هدفا أساسيا لقوى خليجية وعربية متحالفة مع مجاميع دولية من أجل حرمنها من تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي الذي يتجاوز في أبعاده الإطار الرياضيّ الصرف ليتنزّل ضمن دائرة تحقيق شروط القدرة على تفعيل الطور الثالث من أطوار الصعود الخليجي والعربي بل وحتى العالمي.
بناء على ما تقدّم فإن موقع قطر من المونديال يختلف اختلافا جذريا عن موقع غيرها من الدول العربية منه لأنه يقعُ ضمن إطار أكبر من إطار المنافسة الرياضية الصرفة بل ويتجاوز حتى دائرة القدرة التنظيمية التي يركّز عليها كثير من المراقبين. معركة قطر ومشروعها يختلف تماما عن باقي المشاريع العربية لأنها جعلت من الثروة رافعة في خدمة الإنسان العربي وقضاياه لا في خدمة السلطة الحاكمة وأوهامها بالسيطرة والنفوذ ولو كان ذلك على حساب الأمة وقضايا المصيرية. أما داخليا فقد كان تنظيم المونديال إعلانا عن نجاح البلاد في بلوغ أهداف رؤيتها التنموية التي وضعت أسسها سنة 1996 وأكدتها سنة 2000 والتي رسمت معالم بنية الدولة التحتية لثلاثة عقود تُتوَّج باحتفال رياضي عالمي.
المونديال القطري قصةُ نجاح عربي في كسر قيود الاحتكار الرياضي العالمي وانتصارٌ لبصيرة ثاقبة تُحسن انتقاء أسلحة المعركة وفوزٌ خليجي على عصابات قطّاع الطرق محليا ودوليا وهي في الختام إعلان عن اكتمال أهمّ وأخطر القلاع ضد التحديات التي تواجه أية قوة صاعدة.
مواطن بلا ذاكرة.. المواطنة من جديد (97)
الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي.. هل يستعيد دوره التجديدي؟