ما زال الجدل محتدما في الأوساط الثقافية والدينية في مصر، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي حول مسلسل فاتن أمل حربي، لكاتبه المثير للجدل إبراهيم عيسى، الذي تضمن مشاهد شوهت صورة علماء الدين، وأظهرتهم بمظهر السطحية وضحالة الفهم، بشأن احتفاظ الأم بحضانة الأطفال بعد زواجها، ومشاكل المرأة بعد الطلاق.
وبحسب مراقبين، فإن الرسالة التي يريد كاتب المسلسل إيصالها للمشاهد، تتمثل بضرورة التحرر من سلطة الفقهاء، وإشاعة مقولة نسبية الحق، ما يعني ضرب المرجعية الدينية التقليدية المتمثلة بمؤسسات الفتوى الرسمية، وعلماء الأزهر، وهو ما يشير إلى أن الأمر تعدى مهاجمة حركات الإسلام السياسي، إلى استهداف التدين بصيغته الرسمية والشعبية التقليدية.
وقد تعرض المسلسل لانتقادات شديدة، كان آخرها البيان الصادر عن مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، من غير أن يذكر اسم المسلسل، الذي انتقد فيه بشدة "تعمد تقديم عالم الدين الإسلامي بعمامته الأزهرية البيضاء في صورة الجاهل، الإمّعة، معدوم المروءة، دنيء النفس، عيِي اللسان، في بعض الأعمال الفنية"، واصفا ذلك بأنه "تنمُّر مستنكر، وتشويه مقصود مرفوض، ولا ينال من العلماء بقدر ما ينال من منتقصيهم، ولا يتناسب وتوقير شعب مصر العظيم لعلماء الدين ورجاله".
وجاء في البيان: "لا كهنوتية في الإسلام، ولم يدَّعِ أحد من الأئمة والفقهاء العصمة لنفسه على مر العصور، بل كلهم بيَّن ما رآه حقا وفق أدوات العلم ومعايير التخصص على وجه الإيضاح، لا الإلزام، ونسبة هذه الأوصاف الشائنة للعلماء تدليس، ووصاية، وخلط متعمد، يهدف إلى تشويههم، وإسقاط مكانتهم ومقامهم، كما يهدف إلى تشويه مفاهيم الدين الحنيف، وتفريغه من محتواه".
وأضاف: "الاستهزاء بآيات القرآن الكريم، وتحريف معانيها عما وضُعِت له عمدا، وعرض تفسيرات خاطئة لها على أنها صحيحة بهدف إثارة الجدل، جريمة كبرى بكل معايير الدين والعلم والمهنية، وتَنكّر صارخ للمسلمات".
كما أوضح البيان طبيعة عمل الفقهاء بالقول: "شريعة الإسلام شريعة متكاملة معصومة تُصلح كل زمان ومكان، واجتهادات الفقهاء على مر العصور رسخت منهجا للفهم والتطبيق يستفاد منه في استخراج آراء جديدة تُناسب تطور الواقع ومستجداته، وتراعي مصالح الناس".
وعن المسائل المثارة في المسلسل، ذكر البيان أن الإسلام "أعطى الأم حق حضانة أولادها عند وقوع الانفصال، حتى يستغنوا عنها إذا لم يكن عارض أو مانع من الحضانة، ولا ينبغي مطلقا أن يكون الطفل بين يدي والده أداة ضغط أو دليل انتصار مُتوّهَّم".
وتابع؛ "إن لم يوجد نزاع، وتراضى الوالدان على صورة معينة للحضانة تحقق مصالح الطفل، وتُراعي حقوقه النفسية والتربوية وسلوكه المجتمعي، فإن الشرع الحنيف يُقر هذا التراضي، ولا يعترضه، أيا كانت حال الأم والأب، والمسلمون عند شروطهم".
وواصل: "وفي حال النزاع، تميزت الشريعة الإسلامية بمرونة فائقة في مسائل حضانة الأولاد ورؤيتهم بعد انفصال الوالدين، وأعطت القاضي حق تقدير المواقف، كل حالة بحسبها، بما يراعي مصلحة الأطفال، دون جمود أو إهدار لمصلحة الطفل، أو حقوق كلا والديه، على عكس ما يُروج له".
وكان لافتا ومثيرا إعلان الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، مراجعته للموضوعات الفقهية التي أثارها مسلسل "فاتن أمل حربي" بتدقيق شديد وعناية، مضيفا "كل كلمة جاءت فيه مدروسة بعناية".
ولفت الهلالي عبر حسابه الرسمي على الفيسبوك، إلى أن المسلسل فضح شرذمة أوصياء الدين وجهلهم بفقههم المتجدد، وكشف أعدادهم المحدودة التي فرضت نفسها بغليظ القول، وعسر الرأي وتشدد الفتوى، واصطادت ضحاياها بالجعجعة والغيبة والنميمة وافتراء الكذب، وهتك أعراض مخالفيهم"، على حد قوله.
من جهته قال الأكاديمي المصري، والباحث المختص بالأديان والمذاهب المعاصرة، أبو البركات الأزهري: "لم يكن الأزهر مستبعدا من الهجوم قديما، وكانت شخصية العالم الأزهري في الأفلام والمسلسلات المصرية غالبا ما يتم تناولها بمزيج من السخرية، والتقليل من دوره في المجتمع".
أبو البركات الأزهري.. باحث مصري متخصص بالأديان والمذاهب
وأضاف: "لكن الجديد في المرحلة الحالية، توجه النظام للقضاء على الرمزية المتبقية للأزهر ولعلمائه؛ إذ بات واضحا أن النظام يتجه إلى العلمانية الشمولية، وهو ينجز ذلك في بعض جوانبه بوجوه وأيدٍ أزهرية، كالشيخ خالد الجندي، والدكتور سعد الدين الهلالي، وفتح المجال لمثل إبراهيم عيسى لمهاجمة الثابت والمستقر الديني".
وتابع الأزهري لـ"عربي21": "ومن المعلوم أن العلمانية الشمولية تعادي الدين، وتريد أن تقطع السماء عن الأرض، ومن مظاهر ذلك مهاجمة العلماء، وتشويه صورتهم، والتقليل من مكانتهم ودورهم في المجتمعات، وكل ذلك يتم من خلال مهاجمة العمامة الأزهرية، وإظهار علماء الأزهر بصورة مشوهة، وبأفكار ساذجة وسطحية".
ولفت الانتباه إلى أن "التراث الديني بأصوله وكلياته وفقهياته الذي يركن إليه الأزهري والإسلامي الحركي هو تراث واحد، والاختلاف في قراءته ليست خلافا في كلي بوجوب إقامة الشرع الشريف، إنما في ثانوي محض، والخلاف قد يكون يكون في كيفية تنزيل هذا النص الديني على الواقع".
وعن مآلات تلك السياسات الممنهجة بكل تمظهراتها وتمثلاتها المستهدفة للمرجعيات الدينية التقليدية، وفي مقدمتها الأزهر، رأى الباحث والأكاديمي الأزهري أن "مآلات ذلك مرهونة بمدى التعاطي الشعبي مع المنافحين عن الدين، وبمدى استنكار المؤسسات الإسلامية لتلك المواد المستهدفة للمرجعية الدينية".
وفي ذات الإطار، رأى الدكتور أشرف سعد الأزهري الشافعي، أحد علماء الأزهر، أن أحد مشاهد المسلسل (الحوار ما بين بطلة المسلسل والمفتي حول حضانة الأطفال)، يحمل كثيرا من الخلط في معرفة كيفية عمل المفتي الرسمي، فلا يمكن أبدا أن تكون المسألة بهذه السطحية والجهل".
أشرف سعد الأزهري الشافعي.. أحد علماء الأزهر
وأضاف في منشور عبر صفحته على الفيسبوك، اطلعت عليه "عربي21": "لا يمكن أبدا أن يكون المستفتي هو الموجه والمرشد للشيخ صانع الفتوى، ولا يمكن أبدا أن يكون المفتي بتلك الضحالة؛ بحيث إنه يتصور أن الفقهاء حكموا بخلاف القرآن الكريم، ولنلاحظ في المشهد عدم ذكر السنة بالمرة، لأن المؤلف لا يعترف بمرجعية السنة، ويظن أنها من اختلاق المحدثين".
وتابع: "فالسنة عنده غير موجودة، الموجود هو القرآن الكريم وأقوال الفقهاء التي تخالف في خياله فقط كتاب الله تعالى، وطبعا فإن اختيار قول على قول القرآن الكريم يُعد ماذا؟ هو كفر بالله تعالى.. أليس هذا الكلام السطحي مطابقا تمام التطابق لدعاوى داعش والوهابية والإخوان، أن الفقهاء حادوا عن كتاب الله تعالى؟" وفق عبارته.
وتساءل الدكتور أشرف الأزهري: "طيب، وهل هناك فقيه مفتٍ في المؤسسات الرسمية بتلك السطحية والسذاجة، بحيث إنه يسير خلف المستفتي يوجهه كيف يشاء ويقلب له موازين فكره وعقله على هذا النحو؟ من الذي يوجه من؟ المفتي هو الذي يوجه المستفتي أو المستفتي هو الذي يعلم المفتي ويرشده؟.. اللهم غفرا".
بدوره وبنظرة تحليلية، نبَّه الكاتب والباحث في الفكر الإسلامي وشؤون الحركات الإسلامية، مصطفى زهران إلى "أهمية تجنب الوقوع في الخطأ الذي انزلق إليه إبراهيم عيسى وأقرانه، المتمثل في الخلط بين ما تعتنقه التيارات/الجماعات/التنظيمات من أفكار، وما تطرحه من رؤى، وما تسطره من أدبيات، وهي في مجملها اجتهادات وتأويلات وتنظيرات، يمكن نقدها ومواجهتها والاصطدام معها في كثير من الأحيان، بل وعدم قبولها، وما بين ما يدين به الجمهور العريض في الشارع المصري، واعتاد عليه وورثه جيلا بعد جيل".
وأضاف: "فما ورثه الجمهور المصري العريض، يحمل القداسة لديه، ويحظى بمكانة كبيرة عند عمومه، متجذرة في قلبه وعقله ومخياله سواء أكان من العوام أو الخواص؛ صغارا وكبارا، رجالا ونساء، شيوخا وشبابا، فيما بات يُعرف في حقل العلوم الاجتماعية بـ"التدين الشعبي"، وهي مجموعة الشعائر التعبدية، والممارسات الطقوسية بتمظهراتها الإسلامية المنبثقة من الفقه السني، ومدارسه التي أصّل لها عبر القرون الماضية الأزهر الشريف".
ورأى زهران في حديثه لـ"عربي21"، أن "الخطأ الذي وقع فيه عيسى وأقرانه، يتمثل في أنه انطلق من الاصطدام مع قوى الإسلام السياسي، إلى محاولة زعزعة وزلزلة الثوابث اليقينية لدى عموم الشارع/ المجتمع المصري، وتوجيه ضربة في قلب التدين الشعبي، المتجذر والمحافظ على الهوية الإسلامية لملايين المصريين".
وتابع: "وهو ما دفع غالبيتهم للشعور بأن ثمة موجة منظمة تستهدف الدين الإسلامي وفق تصوراتهم البسيطة، ورؤيتهم العادية، فلا يمكن أن يقبل الشعب المصري بتدينه الأصيل، وهويته الإسلامية السنية الوسطية، التي يغلب عليها الهوى الصوفي الطرقي المحب على اختلاف طبقاته وتنويعاته، أن يأتي كائن من يكون ليقول له؛ إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يُسرَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو يوم له رمزيته وقدسيته عند الشعب المصري".
وأردف: "وقس على ذلك أمورا كثيرة، مثل صلاة التراويح، والأذان وغير ذلك، فقد أضحت مثار تشكيك من قبل هذا الصنف، ممن يطلقون على أنفسهم وصف "التنويريين"، ومؤخرا جاء المسلسل المذكور، وما يطرحه من قضايا في مسائل فقهية ثابتة ومقررة، لتترك انطباعات في أوساط السواد الأعظم من المصريينن أو من يمثلون التدين الشعبي، أن ثمة مؤامرة تحاك ضدهم تحت لافتة التنوير والحداثة، وما شابه".
وأنهى حديثه بالتأكيد أن ذلك الانطباع بات يترسخ "خاصة بعد انتقال الهجوم بشكل مباشر ضد المؤسسات الدينية، وتحديدا الأزهر، ودار الإفتاء التي لا زالت تحتفظ بقدر كبير من الاحترام والمهابة والتبعية في آن معا".
لماذا يهاجم الحداثيون العرب الإمام الشافعي؟ خبراء يجيبون
ماضي يروي سبب رفض الإخوان لعرض السادات تأسيس حزب سياسي
يوم سنوي ضد الإسلاموفوبيا.. هل يسهم بتبديدها؟