خفت خلال شهر رمضان الجاري موجة التظاهرات المناوئة لحاكم السودان العسكري عبد الفتاح البرهان، لأسباب تتعلق بطبيعة الأمور في رمضان في بلد غالبية أهله مسلمون، واقتصر نشاط مناهضي انقلاب البرهان على الكلمة المكتوبة والمنطوقة عبر وسائل الإعلام التقليدية والمستجدة؛ ويبدو أن البرهان، والذي أثبتت الوقائع أنه لا يحسن قراءة الأوضاع، حسب أن حماس معارضيه قد فتر فقرر إخراسهم نهائيا بقوة القانون، وأوعز فيما تقول صحف الخرطوم لمستشاريه إصدار قانون يحرِّم ويجرِّم نقد الذات البرهانية عبر مختلف الوسائط، ويبدو أن بالرجل بقية من حياء، فقد أطلق جلاديه ليمارسوا خطف المعارضين من الشوارع وبتسوُّر البيوت وقطع الطرق، وزج بالمئات منهم في السجون، فرأى أن جعل نفسه وبطانته معصومة من النقد بموجب قانون، حتى يتمكن من توسيع مواعين الاعتقال بـ "الغانون" كما يقول ساعده الأيمن حميدتي.
وإمعانا في إثبات تحليه بقدر من الحياء، فديباجة هذا القانون تقول إنه يرمي إلى حماية القوات المسلحة وجميع القوات النظامية الأخرى من "الاستهداف"، وعندما يقول البرهان إنه لن يسمح بالنيل من القوات المسلحة فإنه يعني أنه لن يسمح بالنيل من شخصه، لأن مؤدى معظم الخطب التي يلقيها على جنوده هو أنه، وكما كان الفرنسي لويس الرابع عشر الذي كان يتسمى بـ "الملك الشمس" يقول "أنا الدولة"، فإنه يقول "أنا الجيش"، ثم يتأسى بلويس الخامس عشر، ولسان حاله يقول "أنا ومن بعدي الطوفان".
ولا شك ان القانون المرتقب سيوقع البرهان في مأزق سياسي وأخلاقي، فقد حرص في سعيه لاستقطاب مدنيين ينفون عنه عسكرة الحكم على منح القيادات البارزة في الكفاح المسلح ضد حكومة عمر البشير التي سقطت في نيسان/ إبريل من عام 2019 مقاعد في مجلس السيادة (رئاسة الدولة الجماعية)، ولكنه حولهم إلى تنابلة لا شأن لهم بأمور الحكم، ولا يحس أحد بوجودهم في المشهد إلا عندما يبث التلفزيون الرسمي جلسات المجلس، وإذا رأيتهم على الشاشات "تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة "أو تحسبهم "أعجاز نخل خاوية"، فمعظم ممن قال فيهم الشاعر مظفر النواب "تكرَّش حتى عاد بلا رقبة".
كافأ البرهان مني أركو مناوي قائد إحدى الحركات المسلحة في دارفور بمنصب حكام دارفور الكبرى التي تضم خمس ولايات، لمباركته لانقلاب 25 تشرين أول/ أكتوبر الذي جعل البرهان والعسكرتاريا السودانية حكاما مطلقين للبلاد، بينما لا يوجد منصب مشابه لمنصب مناوي هذا في أي من ولايات السودان الـ 18، فإذا بمناوي يجد نفسه في حرج أبلغ من ذاك الذي يعاني منه القادة الدارفوريون الذين ارتضوا ان يكونوا تنابلة السلطان برهان، ويرابطون في قصر الحكم كي يكونوا رهن إشارته ويبصموا على فرماناته حتى تصدر باسم مجلس السيادة.
من يتابع أقوال وأفعال البرهان يستنتج على نحو صحيح أنه يعاني من عقدة الاضطهاد، ويحس بأن كثيرين في الداخل والخارج يتآمرون عليه، ولهذا بدأ عهده كرئيس للمجلس العسكري الانتقالي الذي أراد به وراثة نظام البشير، بإزاحة القوى التي أطاحت بالبشير من المشهد،
منشأ حرج مناوي هو أن دارفور صارت ومنذ انقلاب البرهان مسرحا لمجازر بشعة، ومناوي هذا طاووسي المزاج ويحلم بأن يصبح زعيما قوميا، ولهذا ظل يطوف أرجاء السودان وهو يتكلم في الفاضي والمليان لأشهر طوال دون أن يغشى دارفور، ولما تكاثرت عليه نصال النقد صار يقضي بعض الوقت في دارفور، ولكن دون أن يكون في وسعه تصريف أي أمر كـ "حاكم"، ثم وفي مطلع الأسبوع الماضي هجمت مليشيات قبلية على بلدة كرينك في ولاية غرب دارفور وقتلت العشرات، ثم دخلت مدينة الجنينة عاصمة الولاية ومارست هنا أيضا أعمال قتل وسحل بشعة مما أرغم نحو 80 ألف من المواطنين على النزوح إلى مناطق أكثر أمنا، وحدث كل ذلك وقوات "مشتركة" من الجيش والشرطة والأمن و"الدعم السريع" وهي القوات التي تدين بالولاء لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) شريك البرهان في كل المناورات والمؤامرات، ترابط في المنطقة، ولم يجد مناوي بدا من الظهور الإعلامي وإعلان أن المجازر نجمت عن تباطؤ القوات المشتركة، ثم استدرك وقال إنها كانت "متواطئة"، وألمح إلى إمكان نقضه لاتفاق السلام والذي بموجبه حظي هو وتنابلة السلطان على مناصب رفيعة.
اعتبار من تموز (يوليو) 2007 قبلت حكومة عمر البشير بوجود قوات دولية لحماية المدنيين في دارفور، انصياعا لقرار من مجلس الأمن الدولي، وظلت هذه القوات التي كانت تحمل اسم يوناميد ترابط في دارفور حتى قبل عام واحد، وكان البرهان ولسنوات طوال ضالعا في أحداث دارفور الدموية وكان ملزما بتقديم التوقير والاحترام والتسهيلات ليوناميد، ثم وبعد سقوط حكم البشير جاءت حكومة انتقالية والبرهان فيها أيضا رئيس لمجلس السيادة، ونجح الشق المدني في الحكومة في مد الجسور مع المجتمع الدولي، وإقناع مجلس الأمن بسحب قوات يوناميد، وإرسال بعثة أممية بمسمى بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس)، وظلت البعثة تقدم السند الفني للحكومة لتسيير أمورها في تناغم بين أطرافها، ثم جاء انقلاب البرهان قبل ستة أشهر، ودخل السودان في نفق مظلم بعد تفجر المظاهرات المناوئة للانقلاب وإقدام الانقلابيين على قتل أكثر من تسعين من المتظاهرين، وفي تقريره لمجلس الأمن قبل شهر ونيف، قال رئيس تلك البعثة ان وضع مأزوما نشأ عن الانقلاب، وأن حقوق المواطنين تنتهك ودماؤهم تسفك، وأنه لا بد من الوصول إلى تسوية سياسية تتشكل بموجبها حكومة انتقالية.
هنا جن جنون البرهان، وهدد بطرد رئيس البعثة، وكتب رسالة ممعنة في السذاجة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يشكو فيها يونيتامس زاعما أنها خالفت شروط تشكيلها بنقد وتقييم الأحوال في السودان، ومكمن السذاجة هنا هو أن اسم البعثة يوضح طبيعة عملها: دعم الفترة الانتقالية، وبداهة فدعم الانتقال يتطلب حل الأزمة السياسية ووضع الحقائق أمام المنظمة الدولية.
ومن يتابع أقوال وأفعال البرهان يستنتج على نحو صحيح أنه يعاني من عقدة الاضطهاد، ويحس بأن كثيرين في الداخل والخارج يتآمرون عليه، ولهذا بدأ عهده كرئيس للمجلس العسكري الانتقالي الذي أراد به وراثة نظام البشير، بإزاحة القوى التي أطاحت بالبشير من المشهد، بدأه بما يعرف بمجزرة القيادة العامة، حيث قتل العشرات الذين كانوا يرابطون أمام قيادة الجيش للضغط على البرهان والعسكر حتى تكون الحكومة التنفيذية مدنية، وها هو ينشد إخراس منتقديه المحليين والدوليين، ويتأهب لتسخير القانون بموازاة البندقية، لإسكات كل من يرفضه حاكما، ولكنه كجاهل بأمور السياسة والحكم، وصاحب سجل عالي التلوث، سيكتشف أن كيده يرتد إلى نحره كلما حاول إسكات كاشفي علّاته الكثيرة بالقانون، وهذا ما أثبتته المضابط في عديد القضايا التي رفعها ضد منتقديه وخسرها، ما لم يكن بالطبع يركن إلى قضاة مدجنين.
البرهان مع القفف في مستودع الخزف
خروج الأموال الساخنة من أدوات الدين المصري 10 مرات خلال 16 عاما