أثيرت منذ فترة زمنية ليست بالبعيدة أحاديث ونقاشات عديدة داخل صفوف الإسلاميين وخصوصا بين أبناء دعوة
الإخوان المسلمين؛ حول قضية
الشورى وضرورتها ومدى إلزامها تجاه المسؤولين عن الدعوة. ولذلك أردت أن أناقش هذا الموضوع من عدة جوانب لعلها تكون مفيدة في المستقبل إن شاء الله.
في البداية يمكنني القول إن قضية الشورى والتشاور هي قضية إنسانية خلق الله الناس عليها، فالإنسان الطبيعي يرى ضرورة التشاور مع غيره للوصول للرأي الصواب؛ لأن الإنسان الطبيعي يدرك بعقله السليم أن أمور الحياة المتشعبة لا يستطيع هو بمفرده أن يسير في دروبها دون الاستعانة بآراء معاونة تكون أكثر دراية وخبرة ومعرفة بأمور الحياة التي لا يدركها هو أو لديه سابق خبرة بها. ونحن في المثل الشعبي المتداول نقول: "إن كبر ابنك خاويه"، بمعنى أن ابنك إذا كبر في العمر فيجب أن تتشاور معه في القضايا التي تعرض عليك أو الأمور التي تلم بك وأن تتعامل معه مثل أخيك.
ولأن الشورى جانب طبيعي وضروري بالنسبة للإنسان العاقل، فنجد أن الشرع قد فرضها على المسلمين كأمة، فنجد إنها ذكرت في القرآن الكريم أكثر من مرة بصيغة الأمر كما أن إحدى سور القرآن الكريم سميت باسم الشورى. وقد ذُكرت نصا في سورة آل عمران الأية 159، حيث قال تعالى: "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ"، وذلك بعد غزوة أُحد، وفي سورة الشورى الآية 38، قال تعالى: "وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"، وفي سورة البقرة الآية 233 قال تعالى: "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا"، وذلك حتى في العلاقات العائلية؛ لأنه كما ذكرت فإن الشورى والتشاور هي طبيعة إنسانية، وأن الانفراد بالأمر أو التسلط أو الاستبداد مثل فرعون عندما قال لقومه: "مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر: 29)، هو مرض وليس من سمات الإنسان السوي.
لذا فالشورى مطلوبه داخل أي جماعة تدعو للإسلام، بل هو أمر بأن تكون هناك شورى كأجراء من إجراءات اتخاذ القرار. وهذا لا ـعتقد انه يوجد خلاف عليه، والجميع متفقون على ذلك. ولكن السؤال التالي هو: هل الشورى ونتيجتها ملزمة أم مُعلمة لأصحاب القرار وأولي الأمر؟ بمعنى هل ما تصل إليه الشورى يجب أن ينفذ أم أن من حق المسئول أو صاحب القرار أن يخالفه؟
وفي السنه نماذج مختلفة، ففي غزوة بدر لم يأخذ الرسول برأي سيدنا عمر بن الخطاب في قضية التعامل مع الأسرى، وقد نزل قرأن فيه تأكيد لرأي ابن الخطاب رضي الله عنه. وفي غزوة أحد أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام برأي الشباب في الخروج من المدينة لملاقاة المشركين في أُحد، مع أنه كان يفضل التحصن في المدينة، وكانت الشورى غير موفقة لما نتج عن ذلك القرار.
وفي بداية عهد الخلافة الراشدة لم يأخذ الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه برأي الشورى في حروب المرتدين، وأصر على محاربتهم.
وهناك نماذج كثيرة نرى فيها أن الإمام أو المسئول يأخذ برأي الشورى وفي حالات أخرى لا يأخذ بالرأي الذي توصلت إليه الشورى. وكل هذه الحالات تتناول هنا إمام المسلمين والمسئول الأول عن الأمة، وإن كان أغلب الفقهاء المسلمين قد توصلوا إلى أن الشورى وقرارها هو ملزم للإمام على مستوى الأمة. ومع ذلك نرى في التاريخ الإسلامي نماذج عديدة لدول وإمارات إسلامية على مر التاريخ حققت نجاحات كبيرة لم تأخذ بهذا الرأي، والشورى لديها لم تكن ملزمة، مثل الدولة العباسية والدولة الأموية وحتى العثمانية، مع أنه كان هناك أهل شورى. وأهم مظهر لهذا الأمر هو أن الخلافة أصبحت بالوراثة وليست بالشورى؛ كما تم اختيار خليفة المسلمين الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة.
والآن لا توجد دول إسلامية بالمعنى الصحيح والسليم للكلمة، ولكن توجد دول تسكنها غالبية من المسلمين ولكنها لا تلتزم بالشريعة الإسلامية كنظام حياة ولا تطبق الإسلام في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية وغيرها بالشكل المطلوب، ولكنها تلتزم ببعض الجوانب الاجتماعية كالزواج والطلاق والميراث، وهذا ما يطلق عليه فصل الدين عن الدولة. ولكن بالتأكيد هناك حركات ودعوات إسلامية تطالب وتسعى من أجل أن يكون هناك دولة إسلامية بالمعنى الصحيح، وأهم هذه الحركات خلال الأعوام المائة الأخيرة هي دعوة الإخوان المسلمين. وذلك في تقديري يعود للمنهج الذي وضعه الإمام المؤسس رحمه الله، والذي سار من خلاله على المنهج النبوي الشريف بداية بالفرد وحتى عالمية الدعوة. وجماعة الإخوان كما ذكرت من قبل هي جماعة من المسلمين، وهي ليست منظمة دولية تقليدية عضويتها مفتوحة لأي شخص، ولكن هناك شروط بيّنها الإمام المؤسس في أركان البيعة وأهمها الفهم وأصوله العشرين.
أما بالنسبة لقضية الشورى ومدى إلزامها من عدمه فلم تتناولها الرسائل بشكل واضح، ولكن أحد أصول الفهم ينص على أن رأي الإمام أو نائبه أو القائم بعمله ملزم -ولم يذكر انه الناتج عن الشورى- ما لم يكن هناك نص شرعي يخالفه. وهناك نماذج عديده لم يأخذ الأستاذ البنا برأي من حوله في عدة مواقف اتخذها، ونموذج ذلك عدم موافقته على رأي العديد من أعضاء الهيئة التأسيسية بتغيير منهج الجماعة فانشقوا وأسسوا جماعة شباب محمد، أيضا قراره بشأن الانسحاب من الترشح للانتخابات البرلمانية وعقد اتفاق مع حزب الوفد، وقد كان هناك عدد ليس قليلا من المكتب غير موافق على ذلك.
ولعلي أستطرد هنا أن جماعة الإخوان ليست جماعة المسلمين، وأن ما ينطبق على إمام المسلمين من حيث التزامه بقرار الشورى هو غير ملزم لإمام الجماعة.
ثم كان مقتل واستشهاد الأستاذ البنا رحمه الله وتولي الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله، وجاءت أحداث 52 ومن بعدها المحنة في السجون الناصرية، وللأسف لم توثق المرحلة بشكل صحيح، ثم تولي الأستاذ عمر التلمساني رحمة الله عام 1976 بعد الفترة التي أطلق عليها مرحلة المرشد السري بعد وفاة الأستاذ الهضيبي رحمه الله عام 1973.
وكان المكتب يتم اختياره من قبل المرشد من الإخوان الكبار، وأراد الأستاذ عمر تطعيم المكتب بالشباب فتم اختيار الدكتور حبيب والدكتور عبد المنعم لعضوية المكتب. وتمت إثارة موضوع الشورى وهل هي ملزمة أم مُعلمة (وليس هل هناك شورى أم لا). وهذه الفترة في النصف الثاني من السبعينات أذكرها جيدا لأنه كان نقاش طويل وممتد، فإذا كانت القضية محسومة مع الإمام المؤسس لما كان طرحها الأستاذ عمر وأثير وقتها أنها قد تتعارض مع الأصل الخامس لركن الفهم، ولكن قيل ردا على ذلك إنه اختيار للإمام أو المرشد أو القائم بعمله. وقد اختار الأستاذ عمر الرأي على أنها ملزمة، مع أنه لم يكن هناك مجلس شورى بعد.
وبعد وفاة الأستاذ عمر رحمه الله عام 86 تولى الأستاذ حامد أبو النصر المسئولية واختار نفس التوجه بأنها ملزمة. وقد التزم نفس النهج من تولى بعده حتى الأستاذ إبراهيم الآن حفظه الله. وهذا كان اختيارا من المرشد أو إمام الجماعة أو القائم بعمله وليس تعديلا للبيعة، بمعنى أن من حق أي مرشد يأتي أو نائبه أو القائم بعمله ألا يأخذ بهذا الرأي ويعيد تفعيل الأصل الخامس من ركن الفهم من أركان البيعة العشرة.
وبعد تولي الأستاذ أبو النصر المسئولية بأكثر من ثلاث سنوات تم اختيار أول مجلس شورى لجماعة الإخوان بعد مرحلة المحنة، بمعنى أن جماعة الإخوان استمرت حوالي عشرين عاما تقريبا منذ خروج أعضائها من السجون في بداية السبعينيات من القرن العشرين ولم يكن هناك مجلس شورى.
وكان للأستاذ مأمون الهضيبي رحمه الله دور كبير في ذلك، وكان مشرفا على إجراء
الانتخابات في المناطق المختلفة على مستوى الجمهورية في نهايات عام 1989، وقُدر لي أن أقوم بمساعدته في هذه الفترة. وتم اجتماع المجلس في بدايات عام 1990، وتم بشكل رسمي انتخاب مكتب الإرشاد والذي كان يتم اختياره من قبل المرشد قبل ذلك.
كما قُدر لي أن أطلع على نتيجة الانتخابات، حيث كان من الملاحظ أن الانتخابات جاءت بنفس أعضاء المكتب الذي كان قائما، والتصويت راعى دور وسبق الشخص المنتخب. فعلى سبيل المثال كان الأستاذ مصطفى مشهور هو أعلى الأصوات، تلاه باقي إخوان المكتب وقتها الدكتور أحمد الملط والحاج أحمد حسانين والأستاذ مأمون والأستاذ عاكف والشيخ الخطيب والحاج عباس السيسي.. وكان آخر المنتخبين حصولا على الأصوات كما أذكر الدكتور حبيب والدكتور عبد المنعم.. رحم الله من توفى منهم وأدام الصحة والعافية على من يعيش بيننا، وفك أسر المأسورين من بينهم.
وقد أثرتُ هذه الملاحظة مع الأستاذ مأمون فكانت إجابته ولا أنساها: "الإخوان لسه مؤدبين"، وكان ذا بصيرة.. رحم الله الأستاذ مأمون وأسكنه مع إخوانه، وجمعنا معهم في فسيح جناته.. اللهم آمين.. أمين يا رب العالمين.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.