منذ مدة ليست قريبه هناك جدال مثار حول ما قام به البعض
في
السويد بحرق
المصحف الشريف، وإن كان هذا التصرف قد تم تنفيذه من قبل العديد من
أعداء الإسلام على مدى مئات السنين من قبل، ولكن ما تم في السويد مؤخرا أثار
العديد من التعليقات الهجومية على السويد ومحاولة إيجاد مبررات مثل القول إن
السويد دولة ملحدة! والبعض يقول إن السويد فيها الكثير من المهاجرين
المسلمين مما
أثار أصحاب البلد! وغيرها من المبررات التي صدرت عن الكثير من المحللين.
بالطبع كان وقوع هذا الحدث متزامنا مع قضية انضمام السويد
لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وموقف تركيا من ذلك الانضمام، ومطالبها من السويد بشأن
أتباع حزب العمال الكردستاني المقيمين هناك، وظهور الإدارة التركية بدور المدافع
عن القرآن والمصحف الشريف.
وسوف أحاول في هذه السطور أن نبين من قام ويقوم بحرق
المصحف الشريف بشكل فعلي، وليس مجرد حرق عدد من الصفحات.
بداية نذكر أن عملية حرق صفحات المصحف ليست جديدة، وقد
قام بذلك الفعل عدد ليس بالقليل على مدى التاريخ الإسلامي، ونحن نذكر القس
الأمريكي تيري جونز وكيف قام بحرق عدد من نسخ المصحف في ولاية فلوريدا، والدانماركي
راسموس بالودان، والنرويجي لارس ثوران، وغيرهم كثيرون. كما أننا يجب ألا ننسي كيف
تم حرق صفحات المصحف الشريف وإهانته في معتقل غوانتانامو بأيدي محققين أمريكيين.
ونعود للتاريخ، فإن حرق المصحف حدث أول مرة عام 1530، وهي نفس السنة التي ترجم فيها القرآن من العربية إلى اللغة اللاتينية،
وتكررت عدة مرات أثناء الحروب الصليبية. كما يجب أن نذكر أن أول من قام بعملية حرق لصفحات من المصحف كان الخليفة
الثالث عثمان ابن عفان رضي الله عنه عندما قام بجمع المصحف الشريف لأول مرة بلغة
واحدة، وكان في عهده قد تعددت اللغات وقام بتجميع كل الأوراق التي جمعها الصحابة
وكانت بلغات مختلفة وعليها وفيها آيات من القرآن الكريم، وقام بحرقها كلها حتى تكون
هناك نسخة واحدة للقرآن الكريم باللغة العربية وقام بنسخها وتوزيعها على كافة
الأمصار.
وفي تقديري فإن عمليات الحرق
هذه سواء في السويد أو في أمريكا أو غيرهما ما هي إلا صور يتم التقاطها، ولكن القرآن
محفوظ بحفظ المولى عز وجل له بقوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" صدق الله العظيم. ولكن السؤال الذي
يجب أن نسأل أنفسنا بشأنه هو: هل نحن نحافظ فعلا على القرآن الكريم أم نقوم بحرقه
كل يوم؟
إن القرآن الكريم ليس كتاب
ترانيم يُحفظ ويُقرأ ويُردَد، ولكنه كتاب يوضح للبشرية كلها نظام الحياة الذي يجب
أن تعيش عليها سواء مسلمين أو غير مسلمين، لأنه هو الكتاب الخاتم وأُرسل مع الرسول
الخاتم صلي الله عليه وسلم. ولكننا لا نطبق منه شيئا إلا بعض العبادات التي قلّصنا
الإسلام إليها مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة، وحتى بعض هذه العبادات لا تطبق
بشكل صحيح (وقد رأينا منذ أيام قليلة من صلي ولم يقرأ الفاتحة في بداية الركعة، أيضا
من ينادي ويدعو للحج عن طريق الزوم)، ونسينا الركن الأول وهو شهادة أن لا إله إلا
الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بالطبع نكرر الشهادة في اليوم عدة
مرات ولكنه مجرد ترديد لمصطلحات أو لكلمات، ولكن أين حق الشهادة بالوحدانية لله
والتي تعني أن الله الخالق هو الذي يعلم أين الخير للبشرية، وأن ما أنزله في كتابه
الكريم وهو الكتاب الخاتم هو لخير هذه البشرية كلها (وليس للمسلمين فقط) ولصالحها
حتى يعيشوا حياة كريمة مستقرة؟
ولكن نظرة على واقعنا المعاصر سواء الإسلامي أو
العالمي نجد أننا نعيش أبعد ما نكون عن هذا النظام الرباني -وأننا نحرق القرآن كل
يوم- الذي اختاره المولى عز وجل للبشر سواء المسلمين أو غير المسلمين، لأنه سبحانه
وتعالى قال في كتابة الكريم في سورة الكهف: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ
ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا
لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا
يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ
مُرْتَفَقاً".
إذا قضية الإيمان والكفر هي
قضية اختيارية للفرد، بالطبع سوف يحاسَب عليها وللكافرين عذاب النار وبئس المصير،
وسوف يغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه، ولكن قضية الحياة وأن يعيش فيها الإنسان -أي
إنسان- حياة كريمة معززة يجب أن تتبع النظام الذي وضعه الخالق سبحانه وتعالى ليعيش
الإنسان على هذه الأرض. والقرآن الكريم وضّح لنا النظام الذي من خلاله كيف نعيش
على هذه الأرض حياة عزيزة كريمة.
لقد تناول القرآن الكريم كافة
مناحي الحياة من اجتماعية وسياسية واقتصادية وبيئية وكل جوانب الحياة للإنسان، وأكرر
وأقول سواء المسلم أو غير المسلم. فلو قام غير المسلم بتنفيذ ما وضعه القرآن من
نظم لأي جانب من جوانب الحياة فسوف يعيش حياة كريمة، وهنا سوف يتأكد أن واضع هذا
النظام ليس من البشر وبالتالي سيقوم العاقل منهم بالإيمان بالله والتيقن أن هناك
رب لهذا الكون، وهو سبحانه وتعالى خالق كل شيء: "أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (الأعراف: 54). وما
نراه الآن هو أننا لا نطبق أيا من هذه النظم إلا بعض القليل من النظام الاجتماعي
في قضية الزواج والطلاق والميراث. وحتى هذا لم يعد يُلتزَم به، وما نراه الآن حتى
في بعض الدول
الإسلامية من قضية التحلل الأسري وزواج المثليين وضياع حقوق الأطفال
والأيتام وغيرها من تجاوزات في مجالات الأسرة والتربية، وما نراه في الأجهزة
والأدوات الإعلامية في الكثير من الدول الإسلامية من تشجيع على مثل هذه الأمور، وما
حدث عندما استقبلت إحدى الدول الإسلامية أحد اللاعبين المشهورين وعشيقته ويتم
تقديمه للمجتمع المسلم على أنه نموذج للشباب، أو ما يتم تقديمه من حفلات للعرى في
كثير من الدول الإسلامية.. كل ذلك مما يؤثر على أخلاقيات المجتمع ويدعو إلى
انحرافها بحجة تحقيق التقدم!!
جانب آخر هو الجانب الاقتصادي
والذي يعتبر من أهم جوانب الحياة في زمننا المعاصر، والعالم أجمع يعيش الكثير من
الأزمات الاقتصادية بين تضخم وكساد وبطالة وفقر وانخفاض قيمة العملة، وغيرها من
مظاهر اقتصادية يعيشها العالم منذ أكثر مما يقرب من مائة عام، فمنذ ما أطلق عليه
كساد الثلاثينات من القرن الماضي والعالم يدور في نفس الفلك من الأزمات
الاقتصادية.
والقرآن الكريم تناول الجانب
الاقتصادي من خلال أهم أساس لحياة اقتصادية صحيحة وهي قضية الفائدة، فالقرآن حرّم
الربا ونزلت العديد من الآيات حول هذا الموضوع في سورة البقرة وآل عمران وغيرهما،
وهي ما تعادل ما يطلق عليه بالفائدة البنكية الآن. قال الله تعالى:
"الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: 275). وهناك الكثير من الآيات التي تحض على منع
الربا وعدم استخدامه، وأن نجاة الأمة والبشرية هي بالبعد عن الربا. يقول تعالى:
"يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ" (البقرة: ٢٧٦). وفي سورة آل عمران قوله تعالى: "يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (آل عمران: ١٣٠).
وإذا نظرنا إلى واقع الدول
الإسلامية الآن وحتى من تدّعي أنها تدعو للإسلام أو إسلامية التوجه، فنجد أنها
تطبق الربا والفائدة البنكية على المعاملات المالية بين أفراد الشعب. وعلى سبيل
المثال فإن تركيا التي ثارت لقضية حرق المصحف وانتقد رئيسها ما تم في السويد؛ بعد
فوزة في الانتخابات الأخيرة ووصوله لمقعد الرئاسة الذي يشغله لما يقرب من عشرين
عاما منذ أن كان رئيس وزراء في نظام برلماني ورئيس جمهورية في نظام رئاسي، قام
بتعين وزيرا للمالية ومحافظة للبنك المركزي كانت أولى قراراتهما رفع سعر الفائدة
إلى 15 في المئة، مما أثر على سعر العملة. وهنا يجب أن نتساءل: من الذي قام بحرق
فعلي للمصحف؟
والله المستعان وهو من وراء
القصد وهو يهدي السبيل..