على طريقة "دعونا ننسى أخطاء الماضي ونعمل أخطاء جديدة. كلو ينبسط.. كلو يلعلع"، يحاول بعض "القادة" الذين ابتليت بهم شعوب المنطقة، القفز على حواجز المجازر والجرائم والكوارث التي كانوا الطرف الأساسي الفاعل في حدوثها، وعلى ما سببته من آلام ومآس لا تزال مستمرة حتى اليوم وستبقى راهنة لمستقبل الأجيال القادمة لعقود، ليطلقوا ما توسوس بهم شياطينهم من الإنس والجن، وما يُخيل إليهم أو يُصور على أنه الحل السحري لتنقية صفحتهم السوداء في الحكم، وجعلها ناصعة بيضاء لا خدش ولا دنس يلوثها.
هكذا سمعنا سيلا من "المبادرات" التي تشابهت في مسعاها، وإن اختلفت في صياغاتها من دعوة للحوار الوطني في مصر وترحم مريب على روح الرئيس المنتخب، الذي تآمر عليه دعاة الحوار والمدعوين على حد سواء، أو إعلان العفو العام على الجرائم "الإرهابية" وإطلاق المعتقلين في سوريا، في محاولة يائسة لحصر ما عرفته البلاد على مدار السنوات السوداء الأخيرة، مجرد جنوح "إرهابي" لأبنائها، أو الدعوة لفتح صفحة "جديدة" في الجزائر بعد تجربة سابقة في الوئام المدني، اتخذها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عصبا لإرساء نظام حكمه الذي انتهى وهو يُنعت من الحراكيين، بحكم "العصابة" التي أفقرت البلاد والعباد.
يأتي هذا في وقت لا يزال مسلسل مناجاة النفس في تونس مستمرا لدى قيس سعيد، فرصيده في الإفساد السياسي والتأزيم الاقتصادي لم يصل بعد لمرحلة تستدعي "التراجع" بحثا عن فتح صفحة "جديدة"، فالرئيس المنقذ لم ينته بعد من محو آثار من سبقوه لسدة "العرش"، وكتابة السطر الأخير من مؤلفه في الحكم دستورا على المقاس أو حلا للأحزاب كما تعلن التخمينات القادمة من تونس الخضراء، التي لم تخضبها حمرة الدماء بعد.
تلك نماذج منتقاة من سلسلة طويلة من مبادرات حالية وأخرى ممتدة في تاريخ المنطقة، واتخذت من الكتابة بالممحاة سبيلا لتكريس رواية المستعمر والمنتصر أو الجلاد والديكتاتور، ووفق شروط السلطة الغاشمة من ضرورات إغلاق الصفحة، بما تحويه من فظاعات، دون مساءلة أو حفظ للذاكرة وصونا لها، لعل الأجيال القادمة من الحكام والمحكومين يتعظون. الكتابة بالممحاة مسعى سلطوي يتخذ من الدفع بالنسيان وسيلة وهدفا يستند إليهما، لعل ذلك ينقذ قمة الهرم القمعي ومنتسبيه من مساءلة القانون وحكم التاريخ. فهؤلاء رغم وضاعة ما اقترفوه، يحلمون بمكان يخلد ذكرهم في الحاضر والمستقبل ليّا للحقيقة وكذبا وتدليسا.
جرت العادة أن يبادر المنتصرون لإعادة كتابة وتدوين ما يرونه الأنسب للبقاء من سيرة تحوي في واقع الأمر الغث والسمين. كان الأمر في الماضي يستغرق وقتا يسمح للروايات الحقيقية بالاندثار أو التجزيء، بعد أن ينال الموت أو التغييب أو تكميم الأفواه من صبر وصمود الشهود أو الضحايا. لكن الواضح، أن "منتصري" هذا الزمان لم يعد لهم من قدرة على تحمل تبعات الرواية المضادة، فربما أضناهم استنزاف مواجهتها تصفية وسجنا واعتقالا ومحاولات تشويه وإغلاقا للقنوات والمواقع، وغيرها من الوسائل الإعلامية الموثقة لوجهات النظر المقابلة، فارتأوا الهجوم خطة بديلة للاستنزاف.
ولعل ما أحدثه مسلسل "الاختيار" لكاتبه عبد الفتاح السيسي، باعتباره مستوحى من ملفات كاميرات التسجيل المخابراتية المزروعة في مكاتب "قيادات" المحروسة العسكرية والمدنية، مثالا فاضحا على فقدان السلطة صبرها وهي تلحظ يوميا أن روايتها "المجزأة" المبنية على القذف في الأعراض والتشويه الإعلامي والردح المتواصل في مختلف القنوات، بما يمثله ذلك من عبء مادي مستمر منذ أيام الانقلاب الأولى بدعم عربي، لم تأت الأكل المطلوب، فكان لزاما عليها الدفع بالجمل بما حمل في محاولة تبدو أخيرة للتضليل، وإن استدعى الأمر فضح ممارسات الدولة المخابراتية وهي تتجسس على مواطنيها، بمن فيهم ذاك الذي اختارته الإرادة الشعبية رئيسا منتخبا وشرعيا. لكن الفشل بدا واضحا بعد انقلاب السحر على الساحر، وهو ما استدعى الدفع بكاتب السيناريو إلى الدفاع عن مسلسله وما احتواه من مغالطات، جاهد للدفاع عن صدقيتها أمام جمهوره وهو يحلف يمينا أن الرواية الأدق، فهو الحكواتي الصادق الأمين الذي ما كان جائزا غير السمع منه والتصديق.
تصفية التراث الديني مما يقال إنه شوائب علقت به، وتنقية المقررات المدرسية مما اعتبر دعوات للعنف والكراهية، وتليين لغة الإعلام وتهجينها وفق مفاهيم نشر التعايش ونبذ الخلافات وعدم السعي للتأجيج والشحن، كلها خطوات صارت تتحقق على الأرض وتحول الضحايا إلى متهمين لا سبيل أمامهم للالتحاق بركب "الحضارة" والمجتمع الدولي غير الرضوخ والاستسلام، وفي ذلك يتنافس المتنافسون.
لم يفلح تلفيق التهم بالعمالة والسعي لتخريب البلاد وإشعال النيران فيها لمصلحة الجماعة وضدا للوطن، ولا تفاهات "التسريبات" الشفهية عما كان يحاك في خفاء القصر الجمهوري، أيام الرئيس محمد مرسي، من سعي حثيث لبيع الأرض والتسليم في القرار الوطني، في تكريس رواية العسكر والانقلابيين ومن والاهم من "زعماء" التيارات السياسية المدنية، بالشكل الذي يصور تلك السنة اليتيمة من الحكم "الإخواني" سنة "ردة" لا ماء ولا زرع ولا حرية فيها. وكان الاعتقاد أن القصف الإعلامي المتواصل كفيل وحده في إتمام المهمة بعد تغييب الشهود الفاعلين وراء القضبان أو الفواصل الزجاجية في المحاكم، قبل الإجهاز عليهم بالقتل البطيء المستمرة فصوله حتى يوم الناس هذا.
نسي القائمون على "الاستراتيجية" الإعلامية للانقلاب أن الشهود هم عامة الشعب بما فيه المؤيدون، وأن الأحداث تمت على مسمع ونظر المواطن، ووثقت الوسائل الإعلامية بشكلها الجديد كثيرا منها وحفظتها من العبث بمحتوياتها. لأجل ذلك، لم يجد هؤلاء غير الدفع بالرصاصة الأخيرة من عتادهم الحربي الإعلامي، الساعي لمحو آثار ما اقترفته أيديهم وألسنتهم في حق الوطن، بمسلسل أرادوه "ملحميا" فانتهى كوميديا، يشهد على تلك الجرائم ويوثقها من داخل ما اكتنزوه من صور مختلسة أرادوها حجة على "أعدائهم" فارتدت بالعكس، دليل إدانة للعسكر وصك براءة لمن أردوه شهيدا على مذبح أجندات الصراع الإقليمي والدولي.
لم يكن مسلسل الاختيار لكاتبه عبد الفتاح السيسي إلا جزءا بسيطا من عمل مضن ومتواصل منذ سنوات بالمنطقة، يستهدف أسس عقيدتها ويعيد كتابة تاريخها وتشكيل جغرافيتها بالشكل الذي يُقدم على أنه استجابة لأحلام الطامحين في الحكم على غير هدى الديمقراطية أو التسلسل "الشرعي" العائلي. لكنه في حقيقة الأمر، محاولة ضمن خطة متكاملة تسعى لإنجاح مراجعة شاملة لما هو أساس الصراع الوجودي، من الانتماء العقدي إلى الرواية التاريخية المتوارثة بالكتابة أو النقل الشفهي. فالأسس والمظاهر الدينية التي تشبع بها الفرد وانبنت عليها الجماعة في مختلف البلدان الإسلامية، صارت موضع سؤال وتنديد ومحاولات منع من الممارسة يقف عليها "دعاة" ولجان تفتيش بلباس "شرعي".
أما الدول التي بنت شرعيتها على الإسلام والدفاع عن عزته وسموه، فتحولت لدى البعض إلى مجرد قبائل انتصرت في حروب. والحدود التي توافقت عليها الأنظمة والشعوب سارت ترسم وفق أجندات تسهيل اللقاء بالاحتلال. أما الأراضي المقدسة، فصارت رهينة الروايات الصهيونية التي تمكنت ولا تزال من اختراق حائط الصد الإعلامي والتوثيقي والتعليمي، لتصبح حقيقة لا يرقى الشك إلى أكاذيبها على لسان أبناء الجلدة قبل رواة الاحتلال.
تصفية التراث الديني مما يقال إنه شوائب علقت به، وتنقية المقررات المدرسية مما اعتبر دعوات للعنف والكراهية، وتليين لغة الإعلام وتهجينها وفق مفاهيم نشر التعايش ونبذ الخلافات وعدم السعي للتأجيج والشحن، كلها خطوات صارت تتحقق على الأرض وتحول الضحايا إلى متهمين لا سبيل أمامهم للالتحاق بركب "الحضارة" والمجتمع الدولي غير الرضوخ والاستسلام، وفي ذلك يتنافس المتنافسون.
تزييف الوعي الجمعي للأمة هو الهدف الأسمى، ولأن الوصول إليه تعذر بزرع الأفكار والأجسام الدخيلة فيه، لم يعد من مجال اليوم إلا إعادة كتابة ماضيه وحاضره بالممحاة، فهي السبيل الأوحد لمحو أمجاد التاريخ، ورهن تطلعات الحاضر بما يسمح بتشكيل المستقبل على النحو الذي يراد له أن يكون.
الكذب على الأحياء لن تنفع معه أي ممحاة..