حلف الأطلسي وحلف شمال الأطلسي
كان الحلف الأطلسي أولًا، في عام 1949، معاهدة تتكون من عنصرين أساسيين هما المادة 5، والتي تنص على التضامن بين الدول الأعضاء لضمان دفاعها الجماعي في حالة الاعتداء على إحداها. ومع ذلك، فإن هذا التضامن ليس تلقائيًا ـ والمادة 10 التي تنظم الدخول المحتمل لأحزاب جديدة باتفاق إجماعي للأعضاء ـ لكل منها حق النقض.
لم يتم إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلا في وقت لاحق، في أواخر عام 1949، لإعطاء دفعة ملموسة للتضامن وتزويده بأدوات فعالة. العديد من الهيئات تعطي جوهر المؤسسة. مجلس شمال الأطلسي، الناتج عن المعاهدة، هو الهيئة السياسية. وتمثل الجمعية البرلمانية البرلمانات الوطنية.
لكن الهيكل العسكري هو الأساس والأكثر تكاملاً. لجنة عسكرية مكونة من رؤساء الأركان الوطنيين أو من ينوب عنهم. قيادة عسكرية متكاملة تسهل العمليات المشتركة وقابلية التشغيل البيني للقوات (تلك التي تركتها فرنسا عام 1966 للحفاظ على استقلال قواتها قبل العودة إليها عام 2009).
حلف الأطلسي، الذي أسس الحلف من ناحية، وحلف شمال الأطلسي (الاتو) من ناحية أخرى مرتبطان ومتميزان على حد سواء.
أما بالنسبة للتحالف الأطلسي، فهو نوع من التعددية التقليدية، إنه يوضح هذه الملاحظة بأن التعددية هي رياضة قتالية: فهي تستوعب الاختلافات في المصالح، وحتى الاختلافات بين الأطراف أكثر مما تتغلب عليها. إنها تخاطر بأن تصبح الحقل المغلق لتناقضاتهم. ببساطة، لأنه يقوم على تضامن حازم، فهو يتضمن من حيث المبدأ وسائل تسوية خلافاتهم، وعلى الأقل لاحتوائها.
وهكذا يجمع الحلف رؤى مختلفة جدًا للأمن وفقًا للدول الأطراف. بشكل عام، تفتخر بأنها مرتبطة بالديمقراطية على النمط الغربي، لكنها تعترف وتحتفظ بداخلها بالدول التي تبتعد عنها بشكل أو بآخر: البرتغال سالازار، يونان الجنرالات، تركيا دولة الانقلابات في حقبة الحرب الباردة، الديمقراطيات الاستبدادية في القرن الحادي والعشرين.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تنشأ المواجهات بين الدول الأعضاء في الحلف دون أن يتمكن الحلف من منعها، وباستثناء مواجهات غير مباشرة كما ففي الحالة القبرصية مثلا، لم يؤد أي منها إلى نزاع مسلح، لكن الحلف لم ينشئ علاقة سلام هيكلية بين شركائه، على عكس ما تم تحقيقه في البناء الأوروبي.
هذه هي حالة التنافسات المتكررة بين اليونان وتركيا في شرقي البحر المتوسط. علاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة، الراعية للتحالف، لديها مصلحة وولاء متقطعين تجاهها، كذلك في احتلال العراق، لم تسمح حكومة حزب العدالة والتنمية باستعمال قاعدة أنجرليك في الهجوم على العراق، وأخيرا وليس آخرا، لم تكلف الإدارة الأمريكية نفسها عناء إبلاغ الدول التي شاركت في تدخلها في أفغانستان بعد عام 2001 بالانسحاب، بعد عشرين عامًا.
حلف الأطلسي، الذي أسس للتحالف من ناحية، وحلف شمال الأطلسي من ناحية أخرى مرتبطان ومتميزان على حد سواء. أما بالنسبة لحلف الناتو، الذراع المسلحة للحلف، الذي يهدف إلى إنشاء أداة عسكرية قوية وفعالة داخله، فلا يمكنه إخفاء حدود التماسك بين القوات المسلحة للدول الأعضاء فيه وتفاوتها العميق، حتى لا نتحدث. في عدم المساواة. من بين الأعضاء الثلاثين، كم عدد الجيوش التي يمكن أن تقاتل في نزاعات طويلة الأمد شديدة الحدة؟
إن قابلية التشغيل البيني بين القوات، والتي تفترض أن لديها نفس التدريب، ونفس التعليمات القتالية وقواعد الاشتباك، والمعدات القابلة للتبديل، هي هدف تفضله معايير الناتو، خاصة ما هو من أصل أمريكي. بل إنهم يذهبون إلى أبعد من البعد العسكري على وجه التحديد للتركيز على عدد من المنتجات الصناعية، بالنظر إلى المنتجات ذات الاستخدام المزدوج.
هذا لا يعيق أو يفشل أو يؤثر، على واقعة تفضيل تصدير الأسلحة الأمريكية، وهي سياسة عامة مهمة للولايات المتحدة، في التنافس مع الدول الأعضاء الأخرى في المنظمة. تميل الصناعة الكبيرة إلى استبدال الجيش التقليدي الكبير، حتى لو ظل الأخير أحد أهداف الناتو.
على هذا المستوى، بالإضافة إلى عدم التناسق بين القوات، تختلف قرارات القتال اختلافًا كبيرًا. ألمانيا مترددة في استخدام القوة، ولا يمكن للدول الأخرى تقديم سوى دعم محدود، وجميعها لديها القدرة على إصدار التحذيرات، أي الاحتفاظ بالحق في رفض بعض الإجراءات أو أشكال القتال. أخيرًا، يحتفظ البعض، بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة، بقوات تظل مستقلة عن الناتو، لا سيما فيما يتعلق بالردع النووي. باختصار، فإن القول بأن الناتو يعمل بشكل جيد هو حكم أكثر من متفائل ويحتاج للتدقيق.
المفاهيم والممارسات
لا يتعلق الأمر هنا بالمفاهيم الاستراتيجية التي حددها الناتو نفسه والتي تتخلل تاريخه. يعود تاريخ آخر واحد إلى عام 2011، وينبغي اعتماد التالي في عام 2022. والغرض منه هو تحليل المخاطر والتهديدات التي تواجه المنظمة وأنواع الإجراءات المتوخاة للاستجابة لها. هذا ليس تخطيط تشغيلي، لكنه تحليل لظروف انعدام الأمن التي تؤثر على الدول الأعضاء والأولويات التي تتطلبها. يظل الخطاب عامًا جدًا وحتى مركبًا. ويمكن أيضًا تكييفه على طول الطريق من خلال البيانات الصادرة عن قمم الناتو، إذا اقتضت الظروف ذلك.
لقد كان الشك في موضوع الدفاع الجماعي لأوروبا الغربية موجودًا حتى قبل اختفاء الاتحاد السوفيتي، ولم يعد لديه أي سبب للوجود بعد ذلك. ومع ذلك، فقد نجا حلف الناتو، كما قيل، ووجد نفسه في نوع من التجوّل المفاهيمي كما يتضح من ممارسة متعددة الأوجه جعلت منه أداة، إن لم يكن لكل شيء، على الأقل متعدد الأغراض، فيما يشكل "حجة" في وجه المطالبين بحل الأحلاف العسكرية اليوم.
كان من الواضح في العقدين الأخيرين، رفض الولايات المتحدة الأمريكية تحويل الناتو إلى منظمة أمن جماعي، وتوسيع نطاق بوصلته وأهدافها. الأمن الجماعي لأوروبا، من خلال الشراكات مع الدول الاشتراكية السابقة، بل ومع روسيا، كما اقترح رؤساء الاتحاد الروسي. أو صيغة أوسع للأمن الجماعي في خدمة الأمم المتحدة، التي كان من الممكن أن يصبح التحالف الموسع الذراع المسلح لها.. إلا أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولعل أقلها حماسة رونالد ترامب، كانت تسعى لأن يكون الناتو منظمة تحت السيطرة تعطي الولايات المتحدة الأمريكية مظلة واسعة لتحقيق سياساتها العسكرية.
تتداخل المنظمتان جزئيًا فقط، نظرًا لأنه ليس كل أعضاء الاتحاد الأوروبي أعضاء في الناتو، بينما يضم الناتو دولًا أعضاء في الاتحاد الأوروبي من خارج الاتحاد. ومع ذلك، فإن أكثر من ثلثي أعضاء الناتو هم أعضاء في الاتحاد، وستة فقط من هؤلاء الأعضاء لا يشاركون في الناتو (النمسا، قبرص، فنلندا، أيرلندا، مالطا، السويد) قد ينخفض عددهم إلى أربعة، وفق مجريات ونتائج الحرب الأوكرانية.
بالتالي، فإن هذه المنظمة مسؤولة إلى حد كبير عن أمن أوروبا الغربية ـ حتى الدول غير الأعضاء فيها لها صلات مميزة معها ـ الأعضاء الجدد في الناتو، الجمهوريات الاشتراكية السابقة، يعززون ثقل الولايات المتحدة. لقد نجحوا بالتوازي مع دخول الاتحاد الأوروبي والمنظمة. وبسبب إحباطهم من خطة مارشال التي لم يستفيدوا منها في وقتها، وعصاب névrose الحقبة السوفييتية غير القابل للعلاج في المدى القصير، باعتباره يُترجم اليوم بالخطر الروسي، يتوقعون من هذا الانتساب: الازدهار الأوروبي والأمن والحماية الأمريكية.
ثمة أصوات عدة ترى أن مصلحة الولايات المتحدة في الناتو محدودة. حتى أن الرئيس دونالد ترامب كان يفكر في انسحاب محتمل لو تمكن من خدمة فترة ولاية ثانية.
في هذا الوضع، وضمن المراتبية الهرمية الواضحة في الناتو، تبدو المعضلة الرئيسية عند مؤسسي الاتحاد الأوربي: السد الأمريكي في وجه أوربة قوية ومؤثرة حيث يعتبر طموحها هذا، تحديا للسيطرة الأمريكية كقطب مركزي في رسم الاستراتيجيات الجيو سياسية العالمية. فحلف الناتو ليس مؤسسة ديمقراطية أو متعددة الأطراف تتحدد سياساتها وفق مشاريع مشتركة يمكن اقتراحها وفق مبدأ "المصالح المشتركة والمتقاطعة". وفي حين تتفاوت الرؤى والتطلعات بين الاتحاد الأوربي والسياسات الأمريكية في قضايا جوهرية، تسود حالة الهيمنة الأمريكية التي لا تكاد تهتم بتقسيم متوازن للأدوار والتي انتقلت من الحماية إلى الحماية الأمنية. وكأية علاقة هيمنة، فهي تعتمد في نهاية المطاف، على قرارات أحادية الجانب لا يتعدى دور الشركاء فيها التجميل وتدوير الزوايا.
رغم الدور "القيادي" هذا، ثمة أصوات عدة ترى أن مصلحة الولايات المتحدة في الناتو محدودة. حتى أن الرئيس دونالد ترامب كان يفكر في انسحاب محتمل لو تمكن من خدمة فترة ولاية ثانية. إدارة جو بايدن لا تسير في هذا الطريق. حيث نشهد "وحدة حال وتصور"، بين المحافظين الجدد، صقور الناتو، لوبيات السلاح الأمريكية وإدارة بايدن، بدأت معالمها منذ تسلم نائب أوباما (بايدن) للملف الأوكراني، وبلغت قمتها في 25 فبراير/شباط 2022.
يتقاطع الرئيس جو بايدن مع سياسة جورج دبليو بوش ووزير دفاعه رامسفيلد، في أن الناتو سلاح استراتيجي فعال من الضروري الاستثمار به، وعندما يكون ثمة إشكال أو ضرورة لقرارات أمريكية متفردة، من الذي سيحاسب/ بل حتى يُعاتب، "القيادة" على تجاهل وجود الناتو في قرار وشروط الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؟ وهل يمكن لفرنسا أن ترفع الصوت كثيرا إذا كسرت الولايات المتحدة واستبدلت عقدها مع استراليا بشأن بناء الغواصات ؟ من سيقف من القارة العجوز في وجه تسريع الانعطاف الاستراتيجي للولايات المتحدة نحو الصين، أو إبرام تحالف أستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة (AUKUS) من وراء ظهر الاتحاد الأوربي؟؟؟
من الواضح أن مواجهة عالمية مع الصين تتشكل على الشاطئ الأمريكي، ولا يحتاج الأمر لفطنة زائدة، لإدراك عدم وجود مصلحة للاتحاد الأوروبي في المشاركة فيها، لا هو ولا الدول الأعضاء فيه. وباستثناء فرنسا، وهي المتواجدة بجزيرة وقوة بحرية في المنطقة، فإن الاتحاد الأوروبي له مصالح اقتصادية فقط، وخاصة ألمانيا، ولا ينوي بأي حال التضحية بها أو إخضاعها للإغراءات الأمريكية. أمام هذه التطورات، فإن الدول الأوروبية لها ما يبررها في البحث عن بديل يمكن أن يكون دفاعًا أوروبيًا مناسبًا. يمكن أن يكون الاتحاد الأوروبي هو الإطار لذلك.
منذ عودة الرئيس شارل ديغول لرئاسة فرنسا وحتى اليوم، واجهت فكرة الدفاع الأوروبي عقبتين رئيسيتين:
1 ـ قلق الولايات المتحدة وعدم السماح بتطوير استقلالية حقيقية لشركائها، مما قد يحبط خططها الاستراتيجية والاقتصادية.
2 ـ غياب التصور الأوروبي المشترك والانقسام الكبير في المواقف الذي لم يساعد في تحجيمه، أو تجاوزه، لا الانتسابات الجماعية لدول شرقي أوروبا "المرتاحة جدًا لحلف الناتو"، ولا الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
من الضروري، في لحظات الهيجان السياسي والإعلامي التي نعيشها اليوم،، العودة إلى وقفة للمفكر الأمريكي إيمانويل وارلستين في حديثه عن البعد الجيو سياسي لما سماه "الإنشقاق الأوكراني" Ukraine’s Schism وحواره الهام أيضا مع الباحث الفرنسي آلان جوكس، حول الاتحاد الأوروبي وصراع المحاور الجديد يقول: "من غير المتوقع أن يعرض موقع YouTube الآن شريطًا تظهر فيه مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأوروبية والأوروبية الآسيوية، فيكتوريا نولاند، وهي تناقش الإستراتيجية السياسية للولايات المتحدة تجاه أوكرانيا مع السفير الأمريكي. في هذا الشريط، تطرح السيدة نولاند القضية على أنها صراع جيوسياسي بين الولايات المتحدة وأوروبا (وخاصة ألمانيا). وتم تصويرها بالجرم المشهود في خطبة تقول فيها "اللعنة على الأوروبيين" ـ الأوروبيين ، وليس الروس".
يتابع وارلستين: "الآن، لنتذكر ما كان بالضبط خط المحافظين الجدد في أوروبا خلال أيام بوش. تحدث وزير الدفاع الأمريكي آنذاك دونالد رامسفيلد عن فرنسا وألمانيا على أنهما "أوروبا القديمة" على عكس ما رآه على أنه "أوروبا الجديدة" ـ أي الدول التي تشارك رامسفيلد وجهات نظره بشأن الغزو الوشيك للعراق في ذلك الوقت. كانت أوروبا الجديدة لرامسفيلد بريطانيا العظمى على وجه الخصوص وأوروبا الشرقية الوسطى، البلدان التي كانت في السابق جزءًا من الكتلة السوفيتية. يبدو أن السيدة نولاند لديها نفس التصور عن أوروبا. لذلك اسمحوا لي أن أقترح أن أوكرانيا هي مجرد عذر مناسب أو وكيل لانقسام جيوسياسي أكبر لا علاقة له على الإطلاق بانقسامها الداخلي. ما يطارد نولاند في هذا العالم ليس "امتصاص" مفترض لأوكرانيا من قبل روسيا ـ فهو احتمال يمكن أن تتعايش معه. ما يطاردها وأولئك الذين يشاركونها وجهات نظرها، هو تحالف جيوسياسي بين ألمانيا / فرنسا وروسيا." .
ذكرنا بطل مسلسل "خادم الشعب"، الرئيس الأوكراني زيلينسكي، بهذه اللقطة للمفكر الأمريكي الراحل، عندما هاجم، في لحظة لديه فيها من المصائب ما يغنيه عن هكذا تصريحات، مواقف الرئيس نيكولا ساركوزي والمستشارة أنجيلا ميركل حول ضرورة الحفاظ على جسور التعاون مع الاتحاد الروسي.. كذلك، كلمة وزيرة الدفاع الألمانية السابقة أورسولا فان دير لاين (رئيسة المفوضية الأوربية اليوم)، قبل سبع سنوات في مؤتمر ميونيخ للأمن، حين قالت: "لدى ألمانيا في وضع الصراع، فرصة لإثبات أنه في القرن الحادي والعشرين، يجب على الدول المتقدمة تسوية نزاعاتها من خلال المفاوضات". وأضافت: "إن تزويد السلطات الأوكرانية بالسلاح لمساعدتها للدفاع عن نفسها قد يكون له عواقب غير متوقعة ومميتة"، "تسليم الأسلحة سيكون بمثابة تسريع للحرائق. وهذا قد يعطي الكرملين ذريعة للتدخل علانية في هذا الصراع" ...
منذ طرحت قضية ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو من قبل إدارة جورج دبليو بوش، كان الطرح والتوجه يخضع لنفس المنطق الذي ساد حول أفغانستان والعراق: التدخل حيثما كان بالإمكان تغيير الأوضاع أو على الأقل احتوائها. ويمكن استعادة شريط الأحداث، بأقلام بحاثة أمريكيين وأوكرانيين، تجنبا لأية مناقشات غير مجدية حول تطور الموقف الأوكراني وتقلباته في موضوع العلاقة مع الناتو:
أوكرانيا: أرض الدم.. Bloodlands
في أطروحة دافع عنها أندري ليفيتسكي، في جامعة DePaul في شيكاغو/إلينوا، في 2011، بعنوان القراءة الخاطئة للأمن، تحليل نقدي للحوار الأوكراني حول الناتو، سبق الباحث الصاعد، أحداث "الميدان" والسياسيين الأوكرانيين على اختلاف وجهات نظرهم، في رسم سيناريو المستقبل المضطرب لأوكرانيا في حال سارت الأمور نحو الدخول في حلف الناتو: "إن التوسع الإضافي لحلف شمال الأطلسي بدون روسيا لن يضر فقط بالعلاقات الروسية الأوكرانية، بل قد يهدد البنية الكاملة للأمن الأوروبي وروسيا وأي عضو آخر في الحلف، حيث تصبح أراضي أوكرانيا المسرح الرئيسي للمواجهة العسكرية. أميل إلى الموافقة على وجهة النظر القائلة بأن عضوية أوكرانيا في الناتو، مع استبعاد روسيا، تزيد من أهم تهديد محتمل لأوكرانيا، وهو تهديد داخلي. يؤدي إلى نضوب الموارد وهو ما يمكن أن يكون بدوره له أكبر الأثر على المصير الاقتصادي والثقافي للبلد.
علاوة على ذلك، وكون أوكرانيا منقسمة ثقافيا بين مناطق شرقية ومناطق وسطى تتمتع بنفوذ روسي أقوى، والمناطق الغربية التي تتبع اتجاهًا غربيًا قويًا، فإن تحويل أوكرانيا إلى حليف عسكري غربي من شأنه أن يؤجج المشاعر القومية مما يزيد من انقسام المجتمع الأوكراني. انضمام أوكرانيا إلى الناتو يعزز انقسام أوكرانيا ثقافيًا وأيديولوجيًا. وفي ظل هذه الظروف، من المحتمل حدوث نزاع مفتوح بين الموالين للغرب وأوكرانيا الشرقية. في هذه الحالة، لا شك في أن روسيا ستقف على مصالحها ولن تترك الدياسبورا الروسية دون دعم. علاوة على ذلك ، كما يتوقع Lieven ، سيوفر مثل هذا السيناريو فرصة لضم شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا إلى الدولة الروسية" .
عدد هام من الباحثين الأمريكيين النقديين، إيمانويل وارليستين وناعوم شومسكي، كذلك من أوكرانيا وشرق أوربا، Valeria Korablyova و Tatiana Shchyttsova و Mykhailo Minakov قرعوا الأجراس مبكرا تحذيرا من سياسات تؤدي لجعل أوكرانيا Bloodlands في معركة جمع النقاط أثناء مسيرة التحول من عالم جيو ـ سياسي أحادي القطب، إلى عالم متعدد الأقطاب.
وكما ذكرت الباحثة الأوكرانية Valeria Korablyova ، والباحث أندريه ليفيتسكي، كانت هذه المخاوف عند أغلبية الأوكرانيين، لذا خلت البرامج السياسية لمختلف الأحزاب السياسية والمرشحين الأوائل لرئاسة الجمهورية الأوكرانية، من طرح فكرة الانتساب إلى حلف الناتو.
منذ طرحت قضية ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو من قبل إدارة جورج دبليو بوش، كان الطرح والتوجه يخضع لنفس المنطق الذي ساد حول أفغانستان والعراق: التدخل حيثما كان بالإمكان تغيير الأوضاع أو على الأقل احتوائها.
تقاطع الحزب الديمقراطي مع المحافظين الجدد في الولايات المتحدة حول "المسألة الأوكرانية" والناتو (طلب منا أحد أعضاء الحزب الديمقراطي أن نكون أكثر دقة بالقول: فريق بايدن والرعيل القديم في الحزب). وخلال فترة أوباما، عهد إلى نائبه بايدن بالملف الأوكراني. وشكلت عودة بايدن للبيت الأبيض، فرصة لتوافق واسع بين لوبي "حلف الأطلسي" والمحافظين الجدد والحزب الديمقراطي، على الدور المركزي الذي يمكن أن تلعبه أوكرانيا في وقف التمدد الروسي الاقتصادي غربا عبر "إمدادات الطاقة" التي تعززت بمد خط أنابيب ستريم2. تصاعدت المساعدات العسكرية للجيش الأوكراني بشكل جعل من أوكرانيا رابع مستفيد من المساعدات الأمريكية العسكرية في العالم عام 2021، وتعددت أشكال التعاون العسكري بشكل واضح لتشمل التدريب والتسليح والذخائر والأسلحة النوعية.
خلال السنوات الأخيرة، بحث صقور الناتو، عن دعم واسع لعملية عسكرية للجيش الأوكراني للسيطرة الكاملة على منطقة الدونباس، وكان خوفهم الأكبر، أن تشكل عملية كهذه، شرخا عميقا بين "أوربة القديمة"، الرافضة لحرب مفتوحة وشاملة مع الاتحاد الروسي. بالنسبة لإدارة بايدن، "المهزومة" في حرب أفغانستان، والمستاءة من ولادة عالم متعدد الأقطاب، من الضروري إفشال المحاولات الفرنسية الألمانية للسير قدما في تطبيق اتفاقيات مينسك، ووقف التعاون الألماني الروسي على صعيد الطاقة، وقد وجد في الحكومة الأوكرانية حليفا، "أكثر ملكية من الملك". لذا رفض تقديم أية ضمانات أمنية للاتحاد الروسي، تحول دون توسع وتعزيز دور الناتو على الحدود الروسية الغربية.
دخل الحل الدبلوماسي في حالة استعصاء، وجاءت "العملية العسكرية الخاصة" أو "الحرب على أوكرانيا"، (لم يعد ثمة أهمية للاسم)، لتقيم أوسع تحالف وتنسيق بين الاتحاد الأوربي وحلف شمالي الأطلسي منذ تأسيسهما. تحالف تختلف، فيه الحسابات والمآلات والمصالح. لكن من المؤكد فيه، أن الاتحاد الأوربي، على الصعيد الجيو سياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي و"إمكانية الفعل والدور العالميين"، هو الخاسر الأول... حتى لو لم يكن لهذا "التحالف" آفاقا بعيدة المدى..
إقرأ أيضا: الناتو والاتحاد الأوروبي.. قطبان أم قطب واحد؟ (1من2)
أوكرانيا.. الاختبار الكبير لمنظمات حقوق الإنسان الغربية
الإسلاميون والمواثيق الدولية.. مداخل ومنطلقات التعاطي
نقاش علمي هادئ حول مراجعة أو تعليق عقوبة الإعدام (2 من 2)