كتب

هل أخفقت الثورات العربية في إنجاز أهدافها؟ كتاب يجيب (2من2)

كيف تمكن الغرب من احتواء ثورات الربيع العربي ووظفها لخدمة أجنداته دوليا؟

الكتاب: "الثورات العربية في ظل الدين ورأس المال"
الكاتب: راضي شحادة
الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 2016
(193 صفحة من القطع المتوسط).


الثورات العربية أمام سطوة إمبراطورية رأس المال 

ربط الكاتب بين الحاجة الماسة إلى الثورات العربية الحتمية التي حدثت بناء على فلسفة التطور الحتمي للتاريخ، وعدم قدرتها في هذه المرحلة على التخلص الكلي من المنظومة العالمية لإمبراطورية رأس المال وللاحتكارات العائلية والأسر الحاكمة الاستبدادية الضخمة المتغولة والمتوغلة في أرجاء الكرة الأرضية.
 
عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تجيِّير الثورات العربية لمصالحها عن طريق تقريبها إلى مستوى نظريتها، بحيث لا تتخطاها أو تصبح أسمى منها أو قابلة ـ ولو على المدى البعيد، أو الأبدي إذا أمكن ـ لإمكانية التغلب عليها، فهي ضامنة لتفوقها العسكري والاقتصادي والعلمي، وهي لا تمانع أن تلعب هذه الثورات لعبتها، كما سائر النماذج الرأسمالية في إطار قوانين الإمبراطورية الرأسمالية، شريطة ألا تعود لتطالب وتعظ بنموذج الشيوعية والاشتراكية وتوزيع أملاك الأقلية بطريقة عادلة على سائر المحرومين والمظلومين من الأكثرية، وهي تميل إلى أن تبقى هذه الثورات في حدودها الإصلاحية والانقلابية.

فإمبراطورية رأس المال العالمي لن تسمح للثورات العربية أن تتعدى حدود قوانينها وضوابطها، فهي منظومة تنظيرية براغماتية مضبوطة القوانين ومحكمة البناء، نظرياً وعملياً، تجعل فلسفة عصر الغاب البدائية تتحول إلى فسفة عصر الهيمنة للأقوى، ولو لفترة لا نعلم مداها الزمني بالضبط، وقد وصلت إلى قمة التطبيق بعد أن انفردت بشكلها الامبراطوري الجديد كنظام تغلب على الاشتراكية والشيوعية، اللتين انتكستا وهما لا تزالان في مرحلة البناء والتجريب، وقد تفرد هذا النظام بالحكم بدون منازع، طارحاً بديلاً واضح المعالم، ومتمتعاً بأدوات قوية على شاكلة امبراطورية عملاقة متفردة بالحكم.

إنها منظومة لا تعتمد على قيم أخلاقية إنسانية مثل "التعاطف"، "المساواة" "حقوق الإنسان"، "الاشتراكية"، "غزارة الإنتاج" وعدالة في التوزيع"، "الطبابة المجانية"، "التعليم المجاني"، "حرية الاعتقاد"، "حرية التعبير".. الخ، بمقدار محاولتها استغلال هذه المفاهيم كشعارات نفعية كي تتلاعب بعقول الضعفاء وتبقيهم كما هم، فتنفسهم قولاً، فينفّسون فعلاً إلى حين يتحكم هؤلاء المهيمنون في كل شيء .

 

إذا كان الخطاب الأمريكي يطنب في الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الولايات المتحدة دعمت لسنوات طويلة الأنظمة الديكتاتورية التي كانت سائدة في العالم العربي، والتي اتسم عهدها بانتشار الفساد في معظم الحكومات العربية، وبغياب القانون، وبتغلب مصالح النخب التسلطية على مصالح الشعوب.

 



يقول الكاتب راضي شحادة: "لقد تربينا لفترة وبطريقة حادة بين زخات حبات المطر هذين النموذجين، وقد عشنا فترة التوازن بينهما، وكنا على اقتناع تام بأن الشعوب إذا هبت فستنصر، وبأن القرار النهائي بخصوص شكل العدالة الاجتماعية سيأتي عبر الشعوب، وبأن التأميم الذي صنعته ثورة ضباط مصر الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر لا بد أن يكون أساساً للاستقلال والحرية وتقرير المصير، وسرعان ما أصابنا الإحباط عندما لم تهب الشعوب ولم تنتصر، ولم ينجح التأميم، بل اندحر أمام الانفتاح والخصخصة، لا بل إن أصحاب نظرية الأممية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية انهارت إمبراطوريتهم بزعامة الاتحاد السوفياتي في حرب باردة جداً، وزالت منظومتها أمام لهيب التقدم الرأسمالي كفص الملح الذائب.."(ص 12). 

مع انهيار المنظومة الاشتراكية واعتلاء الرأسمالية سدة عرش الامبراطورية بلا منازع ، انتهت المواجهة بين "الشرق والغرب" التي كانت تُحَّدِدُ البنية الجيوسياسية للدول العربية، وارتجال الدول المانحة إيعازاً ديموقراطياً لم يحسن التحكم به من جانب الرؤساء العرب، وحلًت خلال العقود الأخيرة الديمقراطية مكان أنظمة استبدادية عدة، في أوروبا أولاً، (مثال أسبانيا والبرتغال واليونان)، وفي أمريكا اللاتينية ثانياً (حيث زالت الأنظمة العسكرية في معظم دول أمريكا الجنوبية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات)، ثم أيضاً بعد انهيار الشيوعية ثالثاً.

في أمريكا اللاتينية كما هو في أوروبا الشرقية والدول التي برزت إلى الوجود نتيجة لتصدع الاتحاد السوفييتي، وفي إفريقيا كما في جنوب شرق آسيا، يتم "التحول الديمقراطي" على قدم وساق وبأعداد كبيرة بحيث أصبحت الديمقراطية التي كنا نادراً ما نراها هناك قبل عشرين عاماً من الآن هي النظام السياسي الأكثر انتشاراً، ولكن في كل مكان، هذه الديمقراطية التي تتلازم اليوم مع الخصخصة والاندراج في إطار العولمة الليبرالية وغالباً مع الاستغلال والفساد، كانت مُغَيبةً تماماً في العالم العربي.

وإذا كان الخطاب الأمريكي يطنب في الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الولايات المتحدة دعمت لسنوات طويلة الأنظمة الديكتاتورية التي كانت سائدة في العالم العربي، والتي اتسم عهدها بانتشار الفساد في معظم الحكومات العربية، وبغياب القانون، وبتغلب مصالح النخب التسلطية على مصالح الشعوب.

 

والإمبراطورية الأمريكية تغلق عينيها عن أماكن كثيرة تمارس القمع والإكراه، ولكنها معمدة بالمياه الأمريكية، ومحمية بروح البيت الأبيض المقدس، مثل نظام حسني مبارك المخلوع، ونظام زين العابدين بن علي، الذي له مفهومه الخاص للديمقراطية، يقوم على تفضيل الحزب الواحد، ويعتبر حزبه هو الحزب الشرعي الوحيد، لأن ما يهم واشنطن بالدرجة الأولى هو التجارة، واندماج العالم العربي في دواليب الاقتصاد العالمي، وضمان أمن إسرائيل .

أصبحت الإمبراطورية الجديدة المهيمنة عبارة عن عائلات تجارية وأسر حاكمة احتكارية ونظم استبدادية، تبدو في ظاهرها حضارية جداً و إنسانية جداً، ولكنها في جوهرها محكومة من قبل شركات احتكارية أخطبوطية، تدار من قبل مليارديرات أفراد أو عائلات متنفذة بلا حدود فيتحكمون في البشر والحجر، ويهيمنون ليس على الدولة التي يسكنون فيها فحسب، بل يتحكمون في كل مكان على الكرة الأرضية تحت راية السوق الحرة والخصخصة، لذلك فقد أصبحوا هم الدولة والإمبراطورية، وأصبحت الدولة التي يوجدون فيها أو يحكمونها بـ "الريموت كونترول" تحت تصرفهم وتحت سلطتهم.

 

في أمريكا اللاتينية كما هو في أوروبا الشرقية والدول التي برزت إلى الوجود نتيجة لتصدع الاتحاد السوفييتي، وفي إفريقيا كما في جنوب شرق آسيا، يتم "التحول الديمقراطي" على قدم وساق وبأعداد كبيرة بحيث أصبحت الديمقراطية التي كنا نادراً ما نراها هناك قبل عشرين عاماً من الآن هي النظام السياسي الأكثر انتشاراً،

 



وهكذا تم تقسيم العالم بين العائلات الرأسمالية، والدول الكبرى، والدول الكبرى عملياً هي ملك لشركات كبرى محتكرة للدولة، وملك للدول وللحكام الذين أصبحوا خاضعين لمخططاتها وعبيداً ينفذون أوامرها وأسرى لا يستطيعون الإفلات من قبضة نفوذها الجبار، أصبحت الشركات الكبرى هي الدولة، وأصبحت الدولة الشكلية هي الخادم المطيع لتلك الشركات القائمة على عرش الخصخصة. وهذه الشركات الكبرى بمجملها أصبحت هي أهم دعائم الإمبراطورية الرأسمالية المتربعة على عرش الكرة الأرضية حالياً.

ولأول مرة ضمن حدود هذه الإمبراطورية المنتصرة والمنتشرة كونياً، أصبحت جميع المؤسسات الفاعلة تتحرك في إطار خطتها، وفي حيز تفكيرها وتنظيراتها، فانتصارها أدى إلى انهيار حلق وارسو وإلى حلول الحلف الأطلسي مكانه، وانتصارها أوجد حلف الأقوياء اقتصادياً، فتزعموا عرش الـ8G (الثمانية العظام).

ومن خلاله نظموا أرباحهم وتحكمهم في الاقتصاد العالمي، وشرعوا لذلك بالمنطق "العادل" مجلس الأمن، والأمم المتحدة التي تبدو في الظاهر أنها تشكل مؤسسات لبسط العدل على وجه الكرة الأرضية، ولكنها في الواقع تنفذ متطلبات المنتصر القوي والمهيمن، فوعظوا ويعظون لصدق مبتغاهم عبر الميديا الفضائية والإنترنتية والصحفية المرئية والمكتوبة والمسموعة، وكلما تكرر الوعظ عبر غالبية القنوات أصبحت إمكانية التصديق أكبر، وأصبحت عملية غسل الأدمغة أكثر سهولة، حتى وإن كان ما ينوونه عكس ما يصرحون به، فالكذبة بعد تكرارها المستمر ستصبح في ذهن المتلقّين حقيقة.

المعوقات التي أسهمت في إخفاق الثورات العربية

لم يزودنا الثوار العرب برنامجاً بديلاً وواضحاً وفكرياً لثورتهم، فهمهم الأول والمستعجل كان الانفجار ضد الظلم المتراكم من قبل نظم أسر الحكم الرابضة فوق صدور الشعوب عقوداً من الزمن. كان أول شعار يجمع جميع هذه الثورات هو الانتفاض والانفجار ضد الظلم والذل والإذلال، وضد الحكم الاستبدادي، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحرية.

يقول الكاتب راضي شحادة: "إنهم مشمئزون لأن حاكمهم يخدم سيده القوي المتحكم فيه من خارج حدود دولته بدلاً من ان يكون خادماً لشعبه، فينفذ أوامره حتى وإن أدى ذلك إلى قمع شعبه وإذلاله وتجويعه وإخضاعه لإرادته مهما كانت هذه الإرادة ظالمة واستبدادية، فالمنطق يقول إنه أصبح حاكماً لشعبه كي يخدم هو شعبه، وليس أن يكون شعبه خادماً وعبداً مطيعاً له.

وعندما نجحت بعض ثوراتهم، فإنهم لم يرفعوا شعارات كبيرة كي تكون عنواناً لثوراتهم كـ: "فكر اشتراكي بدلاً من الفكر الرأسمالي" او "حكم الشعب حكماً مطلقاً" أو "فصل الدين عن الدولة" أو "التحرر من الهيمنة الخارجية"...الخ، بل بقيت مطالبهم في حدود مطلب العيش بكرامة وبمساواة، أقله في هذه المرحلة التي بدأ أصحاب الثورة يتنفسون من خلالها الصعداء" (ص 30)..

 

كان أول شعار يجمع جميع هذه الثورات هو الانتفاض والانفجار ضد الظلم والذل والإذلال، وضد الحكم الاستبدادي، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحرية.

 



في التقييم النهائي لإخفاق الثورات العربية ، يرى الكاتب أنَّ أخطر ما في الدين أن يتم تسييسه، والأخطر في نتائج الثورات العربية أن تتحول إلى ثورات تشرع الدين دستوراً لها، بدلاً من الوصول إلى صيغة دستورية تعبر عن مستوى حكم ديمقراطي راقٍ، أهم ما فيه فصل الدين عن الدولة، وإعطاء الناس حرية العقيدة، ومنعهم من الوصول إلى الحكم عن طريق الأحزاب الدينية، والسعي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بأرقى أشكالها، وتحقيق حق المواطنة الذي يساوي بين المواطنين، مهما كانت أجناسهم واعراقهم ودياناتهم وعقائدهم ولا دينيتهم. 

عليهم إذن أن يضعوا نصب أعينهم هدف تحقيق الديمقراطية من خلال برنامجهم وتخطيطاتهم المسبقة، أن يوصلوا الشعب إلى مرحلة الفهم للفكر الليبرالي والتنويري وأن يتمتعوا بعقلٍ اجتماعي راقٍ، وأن يكون مفهوم المدنية لديهم هو احترام السلطة لدى الفرد بدلاً من تذويبه في سلطة المجتمع، بحيث يصبح هو كفرد عنصراً رئيسياً مساهماً في بناء المجتمع والدولة ككل، وتصبح أهمية الفرد في المجتمع أهم من سلطة المجتمع أو بمستوى أهميتها. إنها في نطاق التفسير العلمي للديمقراطية المدنية مسألة تتعلق بالاعتماد على العقل الاجتماعي والتنوير والليبرالية، والتفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق.

وأمَا الجانب الثاني من هذا الإخفاق، فيتمثل عندما حاولت الثورات العربية أن تتلمس طريقها نحو التغيير والتحرر والاستقلال، اصطدمت بامبراطورية رأس المال العظمى لن تتركها تسرح وتمرح كما تشاء، فتتدخل رأساً كي تجيّرها لمصحة منظومتها السائدة. لذلك فالثورات العربية تبدو إصلاحية، ولكن هل تستطيع انتهاج الإصلاح بحرية وبمعزل عن التدخل الامبراطوري المفرط في التغوّل والتوغل والهيمنة، هذا مالم يتضح حتى الآن، فالشطارة ان تنتقل من مرحلة إسقاط النظام السابق إلى الانتقال إلى مرحلة تسييد نظام الدولة ونظام المؤسسات ونظام الدستور السامي والراقي، وليس إلى الفوضى.

ويتساءل الكثيرون مستغربين: لماذا بعد كل هذا الضغط الشعبي الثوري الانتفاضي والمنطقي لا يتنحى الحكام العرب عن كراسيهم ويكتفون بما حققوه من مصالح شخصية طوال عدة عقود متتالية؟ والجواب بسيط: لأنهم لا يملكون حرية القرار.

فهم لا يمثلون أنفسهم بل هم تحت إمرة شريحة من المشاركين في الحكم، وهذه الشريحة هي القلة المستفيدة من بقاء ذلك الحاكم "الرمز" على سدة الحكم، لأنه ببقائه يضمن لهم استمرارية تقدم مصالحهم وارباحهم، والمزيد من النهب والتملك لخيرات الوطن ومدخراته، إنهم حكام مسيرون وليسو مخيرين، بالرغم من الهالة النبوية التي يضفيها عليهم المحيطون بهم في الإعلام، وهي صورة شكلية خالية من أية حرية لاتخاذ اي قرار بدون إرادة المتحكمين في مصائرهم بسب نفوذهم المادي والمعنوي. إنهم حكام دمى في يد المتنفذين. وهذا ما رأيناه بشكل جلي مع زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح وغيرهم.

 

إقرأ أيضا: هل أخفقت الثورات العربية في إنجاز أهدافها؟ كتاب يجيب (1من2)