نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا لديكلان وولش تحدث فيه عن نشاطات يفغيني بريغوجين، حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في السودان الذي ينقب فيه عن الذهب.
وجاء في تقريره من بلدة العبيدية، في ولاية نهر النيل والتي تبعد عن العاصمة الخرطوم مسافة 200 ميل حيث تنبثق الثروات من الصخور المحفورة بالصحراء، يسيطر أجنبي على الصناعة.
ويطلق سكان المنطقة عليها "الشركة الروسية" وهي منطقة محروسة بشكل كبير وبأبراج لامعة في قلب الصحراء وتتم فيها معالجة مواد خام وتحويلها إلى ألواح ذهبية نصف صقيلة.
ويقول عمار الأمير الذي يعمل في التنقيب عن الذهب ورجل قيادي في بلدة العبيدية التي تبعد عشرة أميال عن المصنع "الروس يدفعون الأحسن" و "غير ذلك لا نعرف شيئا عنهم".
وفي الحقيقة تظهر سجلات الحكومة والشركة السودانية أن منجم الذهب هو واحد من مراكز مجموعة فاغنر، وهي شبكة غامضة من المرتزقة الروس وشركات التنقيب عن المعادن الثمينة وعمليات التأثير السياسي ويديرها حليف مقرب من بوتين، وهو بريغوجين، وهي شبكة تتوسع بقوة في كل أنحاء القارة الأفريقية.
وتعرف الشبكة بتزويد البنادق المستأجرة، إلا أن فاغنر تحولت في السنوات الأخيرة إلى أداة مهمة لتوسيع قوة الكرملين، حسبما يقول الخبراء والمسؤولون الغربيون الذي يتابعون توسعها.
وفاغنر ليست كيانا واحدا بل وعدة كيانات مترابطة تشمل على توفير المرتزقة وتوليد الأموال وتقديم الخدمات السياسية وإدارة عمليات التأثير على الرأي العام. وهي بالضرورة أداة قليلة الكلفة وتمنح الكرملين الفرصة لنفي علاقاته بها وتخدم طموحات بوتين في القارة التي يتمتع فيها الرئيس الروسي بدعم قوي.
وظهرت فاغنر أول مرة في عام 2014 عندما دعم مقاتلوها غزو بوتين للقرم وتم إرسالهم إلى سوريا، وظهر حوالي ألف مقاتل في أوكرانيا قبل فترة حسب المخابرات البريطانية.
ويقع في مركز عمليات فاغنر بريغوجين، الأوليغارش الروسي المعروف بـ "طاهي بوتين" والذي وجهت له اتهامات في الولايات المتحدة بتهمة التدخل في الانتخابات الرئاسية عام 2016.
وبدأ توسع الشركة في أفريقيا عام 2017، حيث لعب مرتزقتها دورا محوريا في عدد من النزاعات مثل ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى وأخيرا في مالي حيث اتهمت الشركة بارتكاب مذابح ضد المدنيين. إلا أن فاغنر ليست مجرد آلة حرب في أفريقيا، ونظرة قريبة على نشاطاتها في السودان الذي يعتبر ثالث منتج للذهب في القارة يوضح ما وصلت إليه من توسع.
وحصلت فاغنر على تنازلات لإنتاج كميات من الذهب، حسبما تظهر السجلات، وهو دعم محتمل لخزينة الذهب التي يملكها الكرملين بقيمة 130 مليار دولار ويخشى المسؤولون الأمريكيون أن تساعد بوتين على تقوية الروبل وتجاوز العقوبات المشددة على موسكو بسبب غزو أوكرانيا.
وفي شرق السودان، تدعم فاغنر جهود الكرملين لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر تكون قادرة على استقبال بوارجها المحملة بالأسلحة النووية. ووجدت في غرب السودان نقطة انطلاق لعمليات المرتزقة ومصدرا محتملا لليورانيوم. وقوت الشركة ومنذ انقلاب العسكر بالخرطوم في تشرين الأول/أكتوبر علاقاتها مع الطامح في السلطة الجنرال محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي والذي زار موسكو في الأيام الأولى لغزو أوكرانيا.
ومنحت شركة فاغنر الجنرال حميدتي الدعم العسكري وساعدته في قمع الحركة المدنية الهشة المعارضة للانقلاب، حسبما يقول مسؤولون غربيون.
ويقول صمويل رماني من المعهد الملكي للدراسات المتحدة إن "روسيا تتغذى من الأنظمة التي تنهب مقدرات بلادهم ومن الحروب الأهلية والنزاعات المستعصية في أفريقيا وتملأ الفراغ في المناطق التي لا ينشط فيها الغرب أو لا يهتم بها".
ويمثل السودان، كما يقول رماني البلد الذي تطمح فاغنر للعمل به. ونفى الكرملين وبريغوجين أي علاقة مع شركة فاغنر التي سميت على اسم موسيقار هتلر المفضل، ريتشارد فاغنر وأسسها قائد عسكري كان مهووسا بالرموز النازية وتاريخها.
ويغلف بريغوجين نشاطاته بالسرية ويحاول إخفاء علاقاته معها من عبر سلسلة من الشركات الوهمية ويسافر إلى أفريقيا بطائرة خاصة للقاء الرؤساء والقادة العسكريين.
ولكن خبراء وزارة الخزانة الأمريكية الذين تابعوا نشاطات بريغوجين يقولون إنه يملك معظم إن لم يكن كل الشركات التابعة لفاغنر، وكما تظهر نشاطاته في السودان.
وكشفت وثائق الجمارك السودانية والروسية وسجلات الشركات التي حصل عليها مركز دراسات الدفاع المتقدمة في واشنطن، ولقاءات مع مسؤولين سودانيين وغربيين وسجل الرحلات الجوية، عن حجم إمبراطورية بريغوجين التجارية في السودان وبالتحديد في مجال الذهب.
وفي بيان لوزارة الخارجية الأمريكية في 24 أيار/مايو جاء فيه أن مجموعة فاغنر "نشرت سلسلة من الأكاذيب وخلفت انتهاكات حقوق الإنسان" في أفريقيا وأن بريغوجين هو "مديرها وممولها". وطلب معظم من تحدثوا للصحيفة عدم نشر أسمائهم نظرا لطبيعة عملهم السري أو خوفا على أمنهم.
ورفض الجنرال حميدتي ومبارك أردول منظم المعادن التعليق على تقرير الصحيفة.
وفي رد طويل من بريغوجين نفى فيه أي اهتمام بالمعادن والذهب في السودان وشجب العقوبات الأمريكية ضده ورفض بسخرية وجود الشركة المتهم برئاستها.
وقال: "أنا، وللأسف لم أملك شركات تنقيب عن الذهب" و "لست رجلا عسكريا" و "أسطورة فاغنر" هي "مجرد أسطورة". بدأت عمليات فاغنر في السودان عام 2017 بعد لقاء بين الرئيس السابق عمر البشير وبوتين في منتجع سوتشي. وكان البشير بعد ثلاثة عقود من الحكومة يفقد السيطرة على السلطة، ولهذا عرض على روسيا جعل بلاده "مفتاح لأفريقيا" مقابل المساعدة، وذلك حسب نسخة الكرملين من اللقاء. وانتهز بوتين العرض سريعا.
وفي غضون أسابيع وصل علماء جيولوجيا ومعادن إلى السودان للعمل في شركة مروي السودانية، حسبما تظهر سجلات الرحلات الجوية التي حصل عليها مركز دوسيه في لندن وتأكد منها مركز دراسات الدفاع المتقدمة.
وتقول وزارة الخزانة الأمريكية إن مروي للذهب يديرها بريغوجين وفرضت عقوبات عليها في عام 2020، وكجزء من حزمة عقوبات تستهدف فاغنر في السودان.
وكان مدير مروي في السودان ميخائيل بوتكين، قد عمل في السابق بوكالة البحث على الإنترنت، وهي مؤسسة مولها بريغوجين ومتهمة بالتدخل في انتخابات عام 2016.
وتبع علماء الجيولوجيا في مروي قادة عسكريون روس للتفاوض حول إمكانية فتح قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، وهي جائزة استراتيجية أصبحت في متناول يد الكرملين.
وشحنت شركة مروى على مدى عام ونصف 131 شحنة إلى السودان حسب سجلات الجمارك الروسية والسودانية، وتشمل على معدات تنقيب وبناء وكذا عربات عسكرية ومركبات برمائية ومروحيتين للنقل.
والتقطت صورة لواحدة منهما بعد عام في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث يوفر مرتزقة فاغنر الحماية لرئيس البلد وحصل بريغوجين على تنازلات في المناجم. وبطريقة غريبة احتوت الشحنات على طائرة أمريكية كاديلاك موديل عام 1956.
لكن الروس وجدوا أنفسهم وهم يقدمون النصح للبشير لحماية نظامه. ومع اندلاع الإنتفاضة عام 2018 أرسلت فاغنر مذكرة للبشير تنصحه بحملة دعائية تشوه المحتجين بل وحثته على إعدام عدد من المتظاهرين لإخافة البقية. وحصل مركز دوسيه على المذكرة وبقية الوثائق، وهو مركز يموله ميخائيل كودروكفسكي، الأوليغارش والعدو اللدود لبوتين. وعبر مقابلات مع مسؤولين ورجال أعمال في السودان، استطاعت "نيويورك تايمز" التأكد من صحة المعلومات في الوثائق التي قال مركز دوسيه إنه حصل عليها من شخص داخل منظمة بريغوجين.
ويقوم الرجال الباحثين عن ثورة في العبيدية بقطع الصخور في شمال البلدة ثم يحضرونها إلى سوق البلدة لكي تهشم ويستخرج منها الذهب بطريقة بدائية واستخدام الزئبق الذي يشكل حياة على خطر العمال. لكن المردود المالي يكون أكبر عندما يتم معالجة هذه الصخور بطريقة معقدة في عدد من المصانع التي تعد شركة مروي أكبرها.
وفي مقابلات مع التجار وصفوا كيف يحضر الروس إلى السوق لأخذ عينات وشراء المادة الخام ويدفعون حوالي 3.600 دولار لكل 9 أطنان.
ويقولون إن الروس يحضرون تحت حماية قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي. وعندما اقتربت الصحيفة من بوابة شركة مروي، حاول المهندس السوداني أحمد عبد المنعم المساعدة وقال إن هناك حوالي 30 روسيا و 70 سودانيا يعملون داخلها، مشيرا إلى المساكن وورش العمل والسودانيين العاملين هناك.
ومن المستبعد حديث الروس مع الصحفيين بسبب علاقة الشركة مع فاغنر التي قال المهندس إنها ليست صحيحة. وقبل أن يوضح خشخش صوت بالروسية عبر اللاسلكي ووقفت حافلة يقودها رجل أبيض تجنب النظر إلى فريق الصحيفة.
وزادت معدلات إنتاج الذهب في السودان بعد عام 2011، عندما انفصل جنوب السودان وأخذ معه معظم حصة النفط، ولم ينتفع من ثروة الذهب سوى حفنة من السودانيين.
اقرأ أيضا: احتجاجات بالسودان.. والسلطات تنفي علاقتها بـ"فاغنر"
وتسيطر عائلة حميدتي على تجارة الذهب حسب مسؤولين سودانيين وخبراء. وتهرب نسبة 70% منه إلى الخارج حسب تقدير للبنك المركزي السوداني.
ويمر معظمه عبر الإمارات العربية المتحدة التي تعتبر مركز الذهب المهرب من أفريقيا. ويرى المسؤولون الغربيون أن معظم الذهب الذي ينتجه الروس يمر بهذه الطريقة، بشكل يسمح للمنتجين تجنب الضريبة أو دفع حصة للحكومة السودانية. وتقول لاكشيمي كومار من "غلوبال فايننشال انتغرتي" ومقرها واشنطن " يمكن الدخول للإمارات بحقيبة ملآنة بالذهب ولن تسأل ولا سؤال واحد".
وأصبح وقف الذهب إلى روسيا شاغلا للخزانة الأمريكية، حيث هددت في آذار/ مارس أنها ستفرض عقوبات على أي شخص يساعد روسيا بغسل 130 مليار دولار من الذهب.
وربما ذهب بعض الذهب السوداني مباشرة إلى روسيا. ففي شباط/فبراير 2021 تابع مسؤولو مكافحة الفساد في السودان 16 رحلة روسية هبطت في مطار بورتسودان من ميناء اللاذقية السوري.
وبعض هذه الرحلات سيرتها وحدة الطيران 223 العسكرية الروسية وجاءت من مطار قرب موسكو. واستطاعت الصحيفة التأكد من معظم الرحلات من خلال خدمات تتبع الرحلات الجوية.
MEE: كيف غيّرت حرب أوكرانيا علاقة تركيا مع روسيا؟
ذي أتلانتك: تتار القرم شردهم ستالين ويتحدون بوتين الآن
فايننشال تايمز: تجربة روسيا بأوكرانيا قد تردع الصين