تحدثنا في المقال السابق عن التلبيس والالتباس في مفهوم الإصلاح والمصادر التي تسهم في ذلك وتأتي من مسالك متعددة، ومن أهم المفاهيم التي ترتبط بإشكالية هذا المفهوم؛ "مفهوم السياسة" وما أصابه من تلبيس وتدليس، مما أدى إلى حالة من الحيرة والقلق في تلقي المفهوم والتعامل معه وتداوله، ويبدو لنا هذا المفهوم -أي مفهوم السياسة- من المفاهيم الأساسية والمحورية التي تشكل مجالا علميا وبحثيا بكامله ألا وهو "المجال المتعلق بعلوم السياسة".
ومن هنا فإننا لا نتحدث عن مجرد مفردة لغوية، ولكن عن مفهوم جوهري وتأسيسي يرتبط بمنظومة كبرى ورؤية حضارية للعالم، وما يرتبط بذلك من إدراكات، وما ينتج عنه من تصرفات ومواقف وممارسات. وتبدو لنا مصادر الالتباس في مساحات وساحات تداول هذا المفهوم واسعة ومتعددة ومتداخلة؛ يمكن أن نقف عليها واحدا تلو الآخر.
أما المصدر الأول لهذا الالتباس فهو ما قامت عليه بعض المعاجم اللغوية خاصة تلك الأجنبية، حينما ربطت ذلك المفهوم بالدهاء والمكر والخديعة، ومعظم الأوصاف السلبية التي تتعلق بالممارسات من كذب ومخاتلة تؤدي في النهاية إلى تلك النظرة السلبية لمفهوم السياسة ومن عملوا فيه ممارسة وسلوكا، فصارت الكلمة دالة على كل نقيصة في الفعل السياسي، وكل عمل يرتبط بالسياسة.
لا نتحدث عن مجرد مفردة لغوية، ولكن عن مفهوم جوهري وتأسيسي يرتبط بمنظومة كبرى ورؤية حضارية للعالم، وما يرتبط بذلك من إدراكات، وما ينتج عنه من تصرفات ومواقف وممارسات. وتبدو لنا مصادر الالتباس في مساحات وساحات تداول هذا المفهوم واسعة ومتعددة ومتداخلة
أما
المصدر الثاني في ذلك فيعود إلى تلك المقولة التي أشرنا إليها مرارا وتكرارا من لعن السياسة "لعن الله السياسة.. أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة.. ومن ساس يسوس وسائس ومسوس". وذلك إشارة إلى معنى نسب إلى الإمام محمد عبده حينما كان يتحدث عن بعض ممارسات عصره، وكثير من مشاهد السياسة السلبية في الممارسات والمواقف والتصرفات، فصارت تلك السياسة الملعونة من جراء تلك الممارسات المتدنية في السلوك السياسي؛ فسُحِب ذلك على كامل ميدان السياسة، بل على الكلمة ذاتها، وعلى حروفها كذلك، وانسحب ذلك على كل من مارس السياسة؛ فصار ذلك شعارا يعبر عن تصور السياسة في ذهن هؤلاء.
أما
المصدر الثالث فيبدو لنا في أقوال تأتي من هنا أو هناك واتجاهات فكرية تحاول على وجه الخصوص في إثبات علاقة غير سوية بين الديني والسياسي، فأفرزت بذلك معاني خطيرة بالنسبة لفهم السياسة وإدراكاتها، والدين وأدواره في المجال السياسي، خاصة من خلال استبعاد الديني جملة عن مجال السياسة والسياسي، فقالها البعض إن "الدين فوق السياسة" يتمثل ما يقع في دائرة القداسة، وأن السياسة تمارس ضمن ميادين ومسالك وأدوات سلبية، وهو أمر يؤدي في النهاية إلى حال من استبعاد الدين عن المجال السياسي جملة تحت دعوى الاحتفاظ له بالقداسة، وهو أمر يخل بجوهر تلك الحضارة الحقيقية بين الديني والسياسي.
قالها البعض إن "الدين فوق السياسة" يتمثل ما يقع في دائرة القداسة، وأن السياسة تمارس ضمن ميادين ومسالك وأدوات سلبية، وهو أمر يؤدي في النهاية إلى حال من استبعاد الدين عن المجال السياسي جملة تحت دعوى الاحتفاظ له بالقداسة، وهو أمر يخل بجوهر تلك الحضارة الحقيقية بين الديني والسياسي
أما
المصدر الرابع فيقع من خلال عقد أبوّة علم السياسة في الغرب لـ"مكيافيلي" صاحب كتاب الأمير الذي ضمنه المبدأ المشهور "الغاية تبرر الوسيلة"، وهو ما يجعل مسألة الفصل بين السياسة والأخلاق فصلا بائنا يحاول هؤلاء أن يفصلوا بين الأخلاقيات العامة، والقيم الأخلاقية، وبين القيم السياسية التي لها شأن آخر لا يتعلق بمنظومة القيم تلك التي يجب أن تحف السياسة وتنضبط بها، معيارا والتزاما وسلوكا.
أما
المصدر الخامس فإنما يتعلق بالسياسة المرتبطة فحسب بمفهوم السلطة والمختزلة فيه، فتجعل كامل ميدان السياسة والحركة فيه يتعلق بعمليات الصراع من أجل السلطة؛ فجعل ساحات ومساحات السياسة مسكونة بمفهوم الصراع ومفهوم القوة الباطشة، ومفاهيم الأيديولوجيا المتحكمة، وكذلك معاني الممارسات البراجماتية التي تتعلق بأهواء السلطة ومزاجها العام؛ خاصة حينما تكون مطلقة مستبدة، وهو أمر اختزل مفهوم السياسة في السلطة دون امتدادها إلى شأن المجتمع وشبكة علاقاته والنهوض بمسؤولياته في بناء السياسة مضمونا وممارسة، وعيا وسعيا، يتعلق بعلاقة سوية وجوهرية بين الدولة والمجتمع؛ والسلطة والأمة.
أما
المصدر السادس لهذا الالتباس إنما يقع أيضا من المعاني المختلفة لمفهوم السياسة وظلاله التي قد ترتبط بشأن الفساد، فإذا كانت السياسة في معاجم اللغة تشير إلى كونها "قياما على الأمر بما يصلحه" وارتباط ذلك بعملية الصلاح والإصلاح والصلاحية، فإن السياسة كذلك قد تشير إلى "السوس" الذي ينخر في الكيان ويؤدي إلى انهيار البنيان.
والسوس تلك الحشرة التي ترعى في داخل الثمرة فتأتي عليها وتفرغها من داخلها، فبدا للبعض أن السياسة ترتبط لزوما بحال من ممارسات الفساد. ولكن ظلت هذه الدلالة بما تشير إليه من مفاهيم التضاد التي تقع على بعض الكلمات كدلالة هامشية؛ تحذر من زحف الفساد على الصلاح، ويسمى ذلك سياسة أو أنه من باب السياسة. ولعل الإمام ابن القيم كان دقيقا حينما نقل تعريف أستاذه ابن عقيل للسياسة، إذ أكد على أن "السياسة ما كانت معه الأمور أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد". ومن هنا وجب علينا أن نميز في عالم هذا المفهوم بين الدلالة المركزية وتلك الدلالة الهامشية التي تلحق به من باب التحذير والإنذار.
يشكل ذلك أيضا من أهم قابليات الاستبداد الذي ينادي على سدنة الفساد، فيشكلون بطانته والتحكم بمفاصل ميادين السياسة بأثرها. فضلا عن ذلك فإن استبعاد أو ابتعاد الصالحين عن ذلك الميدان، وكذلك الذين يهتمون بالشأن العام، وقضاء مصالح الخلق؛ يؤدي بالجملة إلى تمكين تلك الأحوال التي تتعلق باستمرارية منظومة الاستبداد
وعلى هذا فإن جملة هذه الالتباسات والتلبيسات بمصادرها المختلفة شكلت مجالا للترويج لمعنى السياسة بكونها نجاسة يجب عدم الاقتراب منها، والتطهر بالابتعاد من العمل في ميادينها، وهو مما أورث سلوكيات تتعلق بحالة من اللا مبالاة بشأن السياسة والشأن العام؛ يكون سلوك الابتعاد عنها وفق هذه الرؤية هو السلوك السليم والاختيار القويم. وهو أمر شديد الخطورة حينما يترك هذا الميدان وذلك المجال يسرح فيه ويمرح من الفاسدين والمخادعين، فلا تكون السياسة في النهاية وفي المحصلة إلا سياسة خبيثة خسيسة يغاصبون فيها الكلمة والتطبيق على حد سواء.
وخطورة هذا الشأن أن يشكل ذلك أيضا من أهم قابليات الاستبداد الذي ينادي على سدنة الفساد، فيشكلون بطانته والتحكم بمفاصل ميادين السياسة بأثرها. فضلا عن ذلك فإن استبعاد أو ابتعاد الصالحين عن ذلك الميدان، وكذلك الذين يهتمون بالشأن العام، وقضاء مصالح الخلق؛ يؤدي بالجملة إلى تمكين تلك الأحوال التي تتعلق باستمرارية منظومة الاستبداد، وتمكين القابليات التي تتعلق بتلك الظاهرة الطغيانية واستمراريتها.
وعلى هذا فإن هذا الشأن الذي يتعلق برفض التلبيس لهذا المفهوم وتجلية الالتباس الذي يتعلق به لا بد وأن ينصرف إلى أمرين؛ الأول: هو ما يتعلق بإعادة الاعتبار لمفهوم السياسة الرصين والمكين، وجوهر السياسة الصالحة التي تسهم في بناء الكيان، وتمكين العمران، وتقوم بمواجهة كل ظلم باعتباره تخريبا للكيان والعمران وعموم الإنسان. رد الاعتبار لأن السياسة هي القيام على الأمر بما يصلحه، وأنها تتعلق بالممارسات والتصرفات، ما كانت معه الأمور أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد.
مفهوم السياسة بهذا الاعتبار والتعرف على تلك المصادر وتلك المشاهد التي تسهم في تبديد جوهرية هذا المفهوم وكمالاته واغتصاب التطبيق الذي يتعلق بمفاصله وميادينه؛ إنما يعبر في حقيقة الأمر على ضرورة رفع الالتباس عند النخبة وعموم الناس في معاني السياسة التي تجعل من الإصلاح مادته الأساسية، ومن التغيير ميدانه الواسع
أما الأمر الثاني: فإنما يتعلق برد مفهوم السياسة إلى أصوله الجوهرية والعمرانية والإصلاحية في هذا المقام، ضمن ما يمكن تسميته في العلوم والبحوث بإعادة تعريف السياسي، بما يؤكد الحفاظ على معنى الصلاح فيه والمسؤولية عنه، أي عن إدراك السياسة في جوهريتها ضمن المنظور الإصلاحي الواسع، والذي يؤكد على سنن التغيير النافع، والتدافع الصالح والمصلح؛ فيؤكد على حركة إيجابية في مواجهة تلك الإدراكات والمدركات السلبية.
هكذا يبدو لنا أن مفهوم السياسة بهذا الاعتبار والتعرف على تلك المصادر وتلك المشاهد التي تسهم في تبديد جوهرية هذا المفهوم وكمالاته واغتصاب التطبيق الذي يتعلق بمفاصله وميادينه؛ إنما يعبر في حقيقة الأمر على ضرورة رفع الالتباس عند النخبة وعموم الناس في معاني السياسة التي تجعل من الإصلاح مادته الأساسية، ومن التغيير ميدانه الواسع، ومن التدافع عمله الصالح والمصلح؛ ومقصده في منع الفساد والإفساد، وتمكين الصلاح والإصلاح ضمن رؤية عمرانية حضارية مكينة وأصيلة ورصينة في الإدراكات والتصرفات والممارسات؛ تسهم في بناء الوعي وترشيد السعي.
twitter.com/Saif_abdelfatah