(1)
في بيان تلفزيوني وببساطة قرر الفريق أول عبد الفتاح
البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي والقائد العام للقوات المسلحة في
السودان "عدم مشاركة القوات المسلحة في الحوار الذي ترعاه الآلية الثلاثية"، ودعا القوى السياسية
للتوافق وتشكيل حكومة تنفيذية، وتلتزم القوات المسلحة بتنفيذ مخرجات الحوار مع تأكيد على أن "القوات المسلحة لن تكون مطية لأي جهة سياسية للانفراد بالسلطة"..
وبيان أمسية 4 تموز/ يوليو 2022، أدخل
القوى السياسية السودانية وكذلك الوطن في امتحان مغامرة "الانتظار لحين التوافق".. وأراح الجيش وقائد الجيش من الملاحقة والملامة والضغوط.. وانسحاب القوات المسلحة من جدل السياسة يشير للآتي:
- تأكيد مواقف القوات المسلحة السابقة بأنها راغبة في الانسحاب من المشهد السياسي شريطة توافق القوى السياسية، ودون إقصاء لأحد أو استفراد أحد بالشأن العام. وهذا يؤكد زهد الجيش في الحكم كما يعزز فرضية نفاد الصبر من "مماطلة" السياسيين ومناورتهم وتحميل الجيش تبعات خلافاتهم..
بيان أمسية 4 تموز/ يوليو 2022، أدخل القوى السياسية السودانية وكذلك الوطن في امتحان مغامرة "الانتظار لحين التوافق".. وأراح الجيش وقائد الجيش من الملاحقة والملامة والضغوط
- إزاحة الضغوط الأجنبية والمناورات المريبة عن كاهل المؤسسة العسكرية، خاصة أن بعض الدوائر الخارجية تهدف إلى التركيز على الجيش وفرض عقوبات عليه، كما أن خطاب سيطرة الجيش يجد صدى في دوائر صنع القرار الغربي..
- سحب البيان فرضية التظاهر من "أجل استعادة
الحكم المدني وعودة العسكر للثكنات"، ولم تعد هذه الفرضية قائمة، وبذلك تضطر قوى التصعيد لتكييف مطالبها بخطاب آخر.. وأقرب الظن "تسليم الحكم لقوى الثورة"، وهذه نقطة خلافية وأقل تأثيراً وأكثر حرجاً..
- رهن الحوار ونتائجه ومستقبل البلاد وأهلها من خلال حوار الآلية الثلاثية، وأغلق الباب دون الآخرين، من حوار ثنائي أو مبادرات وطنية أو أهلية..
- لم يحدد البيان سقفاً زمنياً، وكان يمكنه القول: "أرجو أن يتم كل ذلك في حدود الفترة الانتقالية وبما يمكننا من قيام
الانتخابات في وقتها العام 2023"، ولكنه أفسح المجال..
- أعاد البيان للأذهان مشروعية بيان (11 نيسان/ أبريل 2019) وبيان (25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021)، وفي كليهما تدخل قادة المؤسسات العسكرية في شأن سياسي دون مبرر، وكان الحال أفضل من الآن..
(2)
لا يمكن قراءة البيان دون استحضار أحد شعارات التغيير وأحد شعارات المرحلة الانتقالية: "الجيش للثكنات" و"
الأحزاب للانتخابات"، وترك الفترة الانتقالية للتكنوقراط والكفاءات الوطنية.. وقد تشكلت حكومة د. حمدوك الأولى على هذا المبدأ (آب/ أغسطس ٢٠١٩م)، واستشكل الراهن السياسي مع تكالب أحزاب قوى الحرية والتغيير على السلطة (كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٠م)..
رفع الجيش يده عن السلطة، ولكنه غمس رأس الأحزاب في المياه الساخنة وطالبهم بالاتفاق على "تشكيل حكومة" وليس على الحكم، ولذلك فإن غاية التوافق على شكل حكم انتقالي للوصول للانتخابات
لقد رفع الجيش يده عن السلطة، ولكنه غمس رأس الأحزاب في المياه الساخنة وطالبهم بالاتفاق على "تشكيل حكومة" وليس على الحكم، ولذلك فإن غاية التوافق على شكل حكم انتقالي للوصول للانتخابات، وعلى الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيغاد المساهمة في تحقيق ذلك، وهذا أمر مقبول ولا خلاف عليه..
إن الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والترويكا مدعوون إلى تحقيق تطلعات المواطن وليس الانحياز لطرف سياسي لتمكينه من السلطة ومحاباته وتعطيل حياة الناس من أجله، كما حدث مع تعليق حوار الآلية الثلاثية من أجل "استصحاب مجموعة المجلس المركزي".
وتجارب الأمم المتحدة في ليبيا ومحاولة استصحاب الفريق حفتر أحدثت انقساما هدد وحدة البلاد، وممالأتها للحوثيين في اليمن حولت البلد السعيد إلى أكثر بلدان العالم معاناة من الجوع والفقر والعوز والموت، فلا داعي لتكرار ذات التجارب من خلال ادعاءات "أصحاب المصلحة" وهذه الشعارات الخادعة..
لقد رحبت قوى سياسية فاعلة بموقف الجيش، وينبغي تحويل هذا الترحاب بابتعاد رهانات الأحزاب عن مرحلة الانتقال والاستعداد للانتخابات..
الدولة التي احتلت المرتبة العاشرة في إنتاج الذهب حتى العام ٢٠١٨م، والثانية أفريقياً، و"سلة غذاء العالم"، تبحث اليوم عما يسد رمق أكثر من ثلث شعبها، كل ذلك لغياب مؤسسات الحكم الفاعلة
(3)
ومع إشارة البرهان إلى معاناة المواطن، فإن غياب السقف الزمني يؤدي إلى فتح المجال للمزيد من الضغط المعيشي وغياب الخدمات وتدهور البنية التحتية. لقد أصبح أكثر من ١٣ مليون مواطن سوداني بحاجة للدعم الإنساني، والسودان ووفقا لتقارير أممية ومنها برنامج الغذاء العالمي يحتل المرتبة الخامسة في ذلك، وهذا أمر مؤسف، فالدولة التي احتلت المرتبة العاشرة في إنتاج الذهب حتى العام ٢٠١٨م، والثانية أفريقياً، و"سلة غذاء العالم"، تبحث اليوم عما يسد رمق أكثر من ثلث شعبها، كل ذلك لغياب مؤسسات الحكم الفاعلة..
وأي تأخير لتشكيل الحكومة سيؤدي إلى كارثة إنسانية، كما يؤدي لمخاطر غياب هيبة الدولة ومؤسسات الحكم..
لقد ابتعد الجيش من "لوحة النيشان"، ولم تعد المزايدة بمواقفه مجدية، وعلى الحريصين على الوطن البحث عن مصالح الوطن والمواطن..