ما زال أبواق الطغاة العرب، يزرعون الإحباط في أوساط القوى الشعبية المتطلعة للحرية والانعتاق، ومن ثم الانطلاق إلى آفاق أرحب من التنمية والرفاه، بالتلويح بفزاعات سوريا وليبيا واليمن: هاكم حصاد ما أسميتموه بالربيع العربي في عام 2011، فتن وحروب أهلية طاحنة ودمار شبه شامل، فلا تلقوا بأنفسكم وبلادكم إلى التهلكة، بالسعي لقلب أنظمة الحكم، متوهمين أن الأنظمة البديلة ستقدم لكم النبيذ وأقواس قزح (كما حسب الشاعر الراحل محمود درويش الذي غنى للفرح متفائلا بقدرة "العاصفة" على ترجمة الشعارات إلى أفعال).
قلت في مقال لي هنا في "عربي21" بعنوان "حتمية النصر بالحراك مستمر" بتاريخ 9 ـ 11 ـ 19 وسأظل أقول إنه "ما زال مرئيّاً خلل الرماد وميض نيران في الجزائر ومصر ولبنان والعراق واليمن وليبيا وسوريا والسودان وتونس، ومصدر الوميض جذوة شعبية قد تخبو حينا ولكنها تتحول حتما، وفي منعطف ما إلى شعلة تنير الطريق نحو الوجهة المقصودة".
ونقول لمن ينعون انتفاضات الربيع العربي، إن تلك الانتفاضات أنجزت قسما كبيرا من مهامها بالإطاحة بزين العابدين بن علي، ومعمر القذافي، وحسني مبارك، وعلي عبد الله صالح، وعبد العزيز بوتفليقة، وعمر البشير، وصحيح أن بدائل هؤلاء ليسوا تماما من رحم الانتفاضات، ولكنهم بالتأكيد أكثر هشاشة من سابقيهم، فالديكتاتور التونسي الجديد قيس سعيد ـ مثلا ـ مجرد تلميذ في مدرسة زين العابدين بن علي، والسوداني عبد الفتاح البرهان كان من حواريي عمر البشير وقس البقية على ذلك، وقَلَّ ان يبُزّ التلميذ أستاذه.
وجمر الثورة ما زال متقدا وله أوار في السودان وسوريا وتونس، رغم النكسات المتوالية التي تعرضت لها مسارات تلك الثورات، ولكن البرهان في السودان، ورغم استيلائه على السلطة بالقوة العسكرية، لا يملك من أدوات السلطة سوى الإعلام الرسمي فاقد الأهلية، وشتات عسكر لا يحسنون سوى القتل والسحل، وفي سوريا خبت الثورة في معظم نواحي البلاد، ولكن ذلك لا يعني أن المبادرة صارت في يد الرئيس بشار الأسد، فهو مسنود ومحروس بروسيا وإيران، وقد اتضح أن نظامه الذي تاجر بتحرير الجولان وفلسطين لأكثر من نصف قرن، لم يكن يملك شيئا من مستلزمات التحرير، بدليل أنه استعان بقوات وآليات روسيا وحزب الله اللبناني لضرب خصومه الذين أوشكوا على الإطاحة به في عام 2012، ثم نزل إلى الملعب شيئا فشيئا جيش النصرة وداعش وتركيا والولايات المتحدة فاختل الميزان لصالحه بعض الشيء، ولكن بشار مرشح لفقد سنده الروسي الذي أنهكته الحرب مع أوكرانيا واستنزفت ترسانته، بدرجة أن جنوده هناك صاروا يستخدمون القذائف المضادة للطائرات للقصف العمودي (أرض ـ أرض).
نقول لمن ينعون انتفاضات الربيع العربي، إن تلك الانتفاضات أنجزت قسما كبيرا من مهامها بالإطاحة بزين العابدين بن علي، ومعمر القذافي، وحسني مبارك، وعلي عبد الله صالح، وعبد العزيز بوتفليقة، وعمر البشير، وصحيح أن بدائل هؤلاء ليسوا تماما من رحم الانتفاضات، ولكنهم بالتأكيد أكثر هشاشة من سابقيهم،
وفي تونس يناور الرئيس قيس سعيد للاستئثار بجميع هياكل وصلاحيات السلطة التنفيذية والتشريعية والعدلية، وبعث بذلك روحا جديدا في صفوف قوى ثورة 2011، إذ توحدت قوى اليمين واليسار لتصحيح المسار، أي الإطاحة بسعيد ووضع لبنات نظام ديمقراطي تعددي، يكون فيه تداول السلطة سلميا عبر صناديق الاقتراع، أما جارة تونس شرقا، أي ليبيا، فلأنها لم تعرف نظاما ديمقراطيا طوال تاريخها، وبسبب التشوهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كرسها نظام معمر القذافي طول أربعة عقود، فقد تحولت إلى ساحة حروب بالوكالة، وامتلأت أرجاؤها بمرتزقة روس وسودانيين لا يهمهم انهيار "المعبد" على رؤوس الجميع، طالما أن ذلك يدر عليهم المال المنشود، وقد اختلت الأمور في ليبيا بعد سقوط القذافي، بدرجة او ابنه سيف الإسلام موجود في مشهدها السياسي بقوة بل ويطمح في الحصول على كرسي الرئاسة، ولكن الأسابيع الأخيرة شهدت حراكا شعبيا واسع النطاق في ليبيا يشي بأنه تجري كتابة فصل جديد من فصول الثورة الليبية، يتم فيه سد الثغرات أمام التدخل الأجنبي ولوردات الحرب المحليين.
لم يسقط نظام صدام حسين في العراق إثر ثورة شعبية، ومعظم من جلسوا على كراسي السلطة بعد ذلك السقوط يدينون بـ "الفضل" إما لواشنطن او طهران، وفي عراق اليوم حراك شعبي مزلزل ومجلجل، ورغم أنه يتم بأمر تنظيم سياسي معين (التيار الصدري) إلا أنه يتخذ طابع الحراك السلمي، ويطالب ـ إذا حكمنا على الأمر استنادا إلى ما هو معلن ـ بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع عبر انتخابات نزيهة، ورغم أن مقتدى الصدر زعيم ذلك التيار ظل شعبوي المزاج، ويقول صادقا أو للاستهلاك السياسي ما يستهوي غالبية الناس، إلا أن الاعتصام الذي ينفذه أنصاره في ساحة البرلمان حاليا، سيحرك الكثير من المياه الآسنة في العراق، فهناك اليوم شرائح واسعة في العراق تطالب بإعادة هيكلة النظام السياسي والحكومي، بحيث يصبح مبرأً من كثير من العيوب التي لازمته طوال عقود.
والشاهد في كل ذلك عندي هو أن الثورات تتعثَّر وتتعسَّر، إما بسبب الكيد والبطش أو بسبب قلة خبرة من يشعلونها في مراحل ما قبل وما بعد الانتصار، ويعلمنا التاريخ أنه ما من ثورة تمشي في خط مستقيم، ولهذا كثيرا ما تتوه في منعطفات وتنتكس عند منحنيات بعينها، ولكنها لا تموت تماما، بل تضعف جذوتها حينا ثم تستعيد وهجها وعنفوانها، والتاريخ يقول المرة تلو الأخرى إن إرادة الشعوب غالبة.
ما هي ضمانات استمرار اتفاق الحبوب بين تركيا وكل من أوكرانيا وروسيا؟