بين 11 أيلول/ سبتمبر 2001 و31 تموز/ يوليو 2022 أكثر
من عقدين، تعاقب على حكم الولايات المتحدة الأمريكية أربعة رؤساء (جورج بوش الابن،
وباراك أوباما، ودونالد ترامب، وجو بايدن)، كلهم كان همّهم وتركيزهم على مطاردة
قادة تنظيم
القاعدة، الذين تبنوا مسؤولية عمليات 11 أيلول/ سبتمبر التي هزّت
أمريكا، وهزّت معها العالم كله.
كان على رأس المطلوبين المتبقين بعد تمكن باراك أوباما
من قتل أسامة بن لادن في أيار/ مايو 2011، الدكتور أيمن
الظواهري (71 عاماً) الذي
خلف
ابن لادن في قيادة التنظيم. ويتسم الظواهري بالحذر الشديد، ولكن إن نفعه حذره
في تفادي ملاحقته من قبل ثلاثة رؤساء أمريكيين فإنه لم يفلح في الإفلات من الرئيس
الأمريكي الرابع جو بايدن، فأتى مقتله في عهده ليرفع شعبيته وأسهمه وسط
الأمريكيين، بعد أزماته الداخلية والخارجية المتلاحقة التي تحاصره.
التقيت الدكتور أيمن الظواهري لأول مرة في حياتي في
بيشاور منتصف 1986 حين كنت أعمل صحافياً، كان حينها طبيب عيون يعمل في الهلال
الأحمر الكويتي، لكنه بدا لي منعزلاً على نفسه وجماعته، ولم يكن اجتماعياً بحيث
يحتكُّ مع الآخر كعادة شخصيات معروفة في ذلك الوقت والزمان، كالدكتور عبد الله
عزام وأسامة بن لادن وغيرهما، فقد كان جُلّ همه ينصبُّ على جماعة الجهاد المصرية
التي يقودها، وعلى الحدث المصري، ما جعل علاقته مع غير المصريين نادرة وقليلة،
ولعل تحالفه لاحقاً مع أسامة بن لادن قدّم له انفتاحاً عربياً وإسلامياً لم يكن
يمتلكه.
مع الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان الذي أتى على شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن، اعتقد -على ما يبدو- المطلوبون للولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان أن حركتهم أصبحت أكثر سهولة
الظواهري طبيب العيون المصري سليل أسرتين عريقتين،
فوالده طبيب معروف، وجدّه شيخ جامع الأزهر محمد الأحمدي الظواهري، وجدّه لأمه عبد
الرحمن عزام الذي كان أول أمين عام لجامعة الدول العربية. وقد رصد صاحب كتاب "The Looming Tower" لورنس رايت؛ 31 طبيباً وصيدلانياً
وكيميائياً من أقاربه، وذلك في كتابه الذي تتبع تنامي ظهور تهديد أسامة بن لادن
خلال فترة التسعينيات.
نجا الظواهري
أربع مرات من الاستهداف الأمريكي، وكانت
المحاولة الثانية حين استهدفته الطائرات المسيرة الأمريكية في كانون الثاني/ يناير
من عام 2006 بقصفها مدرسة دينية في منطقة دامادولا بمناطق القبائل الباكستانية، هي
المحاولة الأشهر، يومها تنامى إلى أسماعنا كصحافيين خبر استهداف الظواهري، فانتقلت
على الفور إلى تلك المنطقة من العاصمة إسلام آباد، لأجد بقايا أجساد أطفال غضة
تجاوز عددها مائة طفل، لينجو الظواهري من القصف، ويخرج أهالي المنطقة ليؤكدوا لنا
يومها أنه لم يكن موجوداً ساعة القصف، وأن الاتهامات الأمريكية للمنطقة بإيوائه
غير صحيحة. خرج يومها الظواهري في شريط فيديو ينعت جورج بوش بجزّار واشنطن، ويقول
إنه فاشل وخاسر. أما المحاولة الأولى فهي التي جرت حين قصف منزله الذي كان يقيم
فيه في قندهار أثناء القصف الأمريكي في تشرين الأول/ أكتوبر 2001، فقتلت زوجته
وأولاده، ولم يصب بأذى، إذ لم يكن موجوداً في البيت.
سيظل تاريخ 30 كانون الأول/ ديسمبر 2009 مهماً
ومفصلياً في سجل المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، إذ ارتبط بتجنيد أبو
همام البليوي، الأردني الأصل، الذي قدّم معلومات مفصلة ودقيقة عن تحركات الظواهري
في مناطق القبائل الباكستانية، لقتله والتخلص منه، لتنتهي القصة في تفجير البليوي
نفسه وسط مقر الوكالة الأمريكية في خوست، فيقتل سبعة من كبار ضباط ومتخصصي
المخابرات المركزية الأمريكية في مكافحة الإرهاب، بمن فيهم مديرة المحطة في
أفغانستان، وهو ما اعتُبر في حينه أكبر خسارة للوكالة منذ تفجير المارينز في بيروت
عام 1983.
مع الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان الذي أتى
على شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن، اعتقد -على ما يبدو- المطلوبون للولايات
المتحدة الأمريكية في أفغانستان أن حركتهم أصبحت أكثر سهولة، فكان أن اتخذ
الظواهري بيتاً في منطقة شير بور بحي وزير أكبر خان الذي يعد أرقى حي في كابل، ولم
يكن البيت يبعد سوى 500 متر عن المسبح البريطاني، وانتقلت زوجته مطلع العام الحالي
إلى البيت، فازداد عناصر المخابرات الأمريكية ثقة ممن كانوا يتابعونه بأنه سيلتحق
بها، وبالفعل التحق بها في نيسان/ أبريل الماضي.
التكهنات بشأن الدولة التي سمحت للطائرات الأمريكية بعبور أجوائها، والوصول إلى أفغانستان، ما دامت الأخيرة دولة غير شاطئية، ومغلقة عن البحار، فاتجهت الأصابع إلى باكستان
وفي الأول من حزيران/ يونيو الماضي أطْلَعت الوكالةُ
الرئيسَ الأمريكي على الأمر، ومما ساعد في تعقبه ورصده ظهور اليومي كل صباح على
بلكون البيت، فقد كان تصوير البيت يتم بشكل دائم عبر الأقمار الاصطناعية، ليتم
بعدها بناء بيت يحاكي بيت الظواهري، لتدريب القوات على مواجهته، بحيث يتم تحاشي
الخسائر المدنية بحسب المصادر الأمريكية. وفي الخامس والعشرين من الشهر الماضي تم
لقاء الرئيس الأمريكي مع مدير مخابراته ويليام بيرنز وكبار المسؤولين الأمريكيين
لتوقيع الرئيس على العملية، التي جرت على البلكون، مكانه المفضل كل صباح، وذلك الساعة
السادسة والربع صباح يوم 30 تموز/ يوليو 2022، لتضع بذلك نهاية الظواهري عبر صاروخين
من نوع فلاينغ جينسو ذي الشفرات الست الحادة، الذي كان قد استُخدم لأول مرة ضد
رفيق دربه أبي الخير المصري في سوريا، في آذار/ مارس 2017.
على الفور سرت التكهنات بشأن الدولة التي سمحت
للطائرات الأمريكية بعبور أجوائها، والوصول إلى أفغانستان، ما دامت الأخيرة دولة
غير شاطئية، ومغلقة عن البحار، فاتجهت الأصابع إلى باكستان التي نفت ذلك على
الفور، لكن الصعوبات الاقتصادية الخانقة التي تمرّ بها البلاد ربما دفعتها للسماح
بالمرور، أملاً في قبض الثمن.
قتل الظواهري الذي أتى بعد 11 عاماً من
اغتيال سلفه
أسامة بن لادن، دفع البعض إلى عقد مقارنات بين الحدثين، فكلاهما جاء مقتلهما بعد
الانتقال إلى بيت جديد، بخلاف الفترة الزمنية التي أقام فيها كل منهما في بيته
الجديد، كما أن كليهما التحقت به أو التحق بزوجته في البيت الجديد، مما تسبب على
ما يبدو في الكشف عنهما. والأمر الثالث وهو عمْد كليهما لأخذ الحيطة والسرية داخل
البيت، بحيث لا يتواصل أحد معهما سوى الرسول الذي كان يتنقل بينهما وبين العالم
الخارجي. وحين علم الأمريكيون بالبيتين كانت الخطة هي قيامهم بتحضير بيت يحاكي
البيتين من أجل سهولة مهاجمتهما، حصل هذا في أبوت آباد حين قتل أسامة بن لادن،
وحصل هذا في شير بور الكابلية.
وبرز الخلاف وسط المحللين والخبراء الأمريكيين فيما
إذا كان الانسحاب الأمريكي، الذي تشارف ذكراه السنوية الأولى اليوم، دقيقاً بعد أن
ظهر قادة القاعدة على السطح الأفغاني مجدداً، أم أن الانسحاب كان لا بد منه. ويرى
أنصار الرأي الأخير بأن تمكن واشنطن من التخلص من المطلوب الأول اليوم بجهد استمر
لأقل من عام واحد من المتابعة، وهو ما فشلت فيه عشرون عاماً من الاحتلال، يؤكد على
صوابية الانسحاب الذي كان ينبغي أن يحدث منذ وقت طويل، مما عدّه أصحاب هذا الفريق
دليلًا على خطأ الغزو الأمريكي، وأن الاغتيالات الجوية، كما حصل ويحصل في العراق
وسوريا وأفغانستان وباكستان، أقل كلفة من كل النواحي، مقارنة بالخسائر التي لحقت
الولايات المتحدة الأمريكية، ومن بينها السمعة السيئة التي جلبها احتلالها لكل من
العراق وأفغانستان.
ثمة خبراء أمريكيون يرون أن واشنطن وقعت في شرْك
القاعدة يوم جرّتها إلى أفغانستان، ويُذكرني هذا بما قاله لي المسؤول العسكري
لتنظيم القاعدة أبو حفص المصري، وذلك في تشرين الأول/ نوفمبر 2000، أي بعد شهر
واحد على تفجير البارجة الأمريكية "يو إس كول" في ميناء عدن، حيث قال
لي: "نحن قمنا باستفزاز أمريكا حين هاجمنا سفارتيها في شرق أفريقيا، لنجرّها
إلى أفغانستان، ولكن لم تفعل، واليوم قمنا بهجوم آخر في ميناء عدن، ولم ترد بغزو
قواتها لأفغانستان كما نريد، ولكن الآن سنقوم بعمل كبير يدفعها إلى الغزو،
فأفغانستان مرشحة بشكل مناسب ورائع لمقاومة شعبية طويلة كما حصل ضد الاتحاد السوفييتي
هنا، وتفتيت أمريكا كما فعلنا ضد السوفييت سيُسقط أنظمة عربية وإسلامية
كثيرة".
بصراحة لم آخذ كلامه يومها على محمل الجدّ، فكل ما
ظننته أنه لا يزال هو ومن قاتل السوفييت مسكونين بنشوة النصر، بينما الظروف مختلفة
تماماً بين القوتين والزمنين.
بقدر ما تشعر الحكومة الأفغانية التي تسيطر عليها حركة
طالبان بالخجل أمام أتباعها ومناصريها في عجزها عن حماية ضيفها الظواهري، فهي في
مأزق أيضاً أمام شريكها الأمريكي، الذي يرى أنها أخلّت باتفاق الدوحة، يوم تعهدت
بعدم حماية العناصر المطلوبة من القاعدة وغيرها وإيوائها، لكن بعضهم يتساءل: لماذا
حين اخترقت واشنطن السيادة الباكستانية وقتلت أسامة بن لادن، انصبّ اهتمامها يومها
على تبرير خرق السيادة وعدم إبلاغها لحكومة إسلام آباد بالعملية، بينما اليوم نرى
واشنطن على الفور
تتهم طالبان بحماية القاعدة، وهو ما لم توجهه لإسلام آباد، حيث
كان أسامة بن لادن يقيم قرب مدرستها العسكرية المعروفة بساندهيرست باكستان؟
بقدر ما تشعر الحكومة الأفغانية التي تسيطر عليها حركة طالبان بالخجل أمام أتباعها ومناصريها في عجزها عن حماية ضيفها الظواهري، فهي في مأزق أيضاً أمام شريكها الأمريكي، الذي يرى أنها أخلّت باتفاق الدوحة، يوم تعهدت بعدم حماية العناصر المطلوبة من القاعدة وغيرها وإيوائها
المجزوم به أن القاعدة
لم تعد هي نفسها عام 2001،
فأعمار ذلك الجيل تجاوز الخمسين والستين سنة، بالإضافة إلى انشغال العالم العربي
والإسلامي بأزماته الداخلية وثوراته مما حال دون التحاق الشباب الجدد بالقاعدة،
وهو المهموم بأزمات أوطانه، ولذا لم تعد سياسة "العدو البعيد" التي
صكّها الظواهري عملياً موجودة، ومسألة الانتقام للظواهري تُعيدنا مرة أخرى لمقتل
أسامة بن لادن، الذي لم تكن له أي عملية ثأرية لرحيله، ومرة أخرى يعود ذلك لانشغال
الجماعات القريبة من القاعدة أو المتفرعة عنها بأزماتها وهمومها الداخلية.
هل سترُّد طالبان على الإهانة التي وجهتها لها أمريكا؟
لا أعتقد ذلك، فكلاهما (واشنطن وطالبان) مشغولتان بنفسيهما وأزماتهما، فلا أمريكا
لديها الشهية لغزو جديد، بعد تجربتها المريرة في أفغانستان، ولا ظروف طالبان
الداخلية تسمح لها بالرد، مما سيؤلّب عليها الأمريكيين أكثر، فيزداد الحصار،
وتزداد معه ضغوطات دول موالية للأمريكيين لثنيها عن التعاون مع طالبان اليوم. أما
واشنطن فترى أن أرخص شيء بالنسبة لها في التعاطي مع المطلوبين لها، هو الاغتيالات
الجوية، وهو ما تنفذه في سوريا واليوم في أفغانستان.
أما عن
خليفة الظواهري فبعضهم يطرح شخصية العقيد محمد
صلاح الدين زيدان المصري، والمعروف بسيف العدل، الذي كان لفترة طويلة مسؤولاً عن
حماية أسامة بن لادن، ويقيم حالياً في إيران، ويبلغ من العمر 62 عاماً، وكان قد
انشق منتصف الثمانينيات عن الجيش المصري وسافر إلى أفغانستان. وثمة أسماء أخرى
مرشحة، وهناك من يطرح فكرة أن يظل خليفة الظواهري سرياً لتجنب تصفيته وملاحقته،
وتجنب إحراج الدول المضيفة له، لكن جيل القيادات القاعدية الراحلة، التي ترى في
ظهورها الإعلامي فرصة للتعبئة والحشد، لم يعد موجوداً في القيادات المرشحة
للخلافة، على أساس أنها معنية بما وراء الأضواء وليس تحت الأضواء.