الكتاب: الغزو الروسي لأوكرانيا: جنون عظمة أم سقوط نحو الهاوية؟
المؤلف الدكتور محمد نجيب بوليف
الناشر: رؤى برنت-الرباط
الطبعة الأولى
السنة 2022
عدد الصفحات:240
مقدمة:
ربما كان من المغامرة أن ينخرط الباحث أو الكاتب في تمرين التحليل والاستشراف لحدث كبير لا يزال جاريا، ولا تزال تداعياته تتبلور بحسب نسق الديناميات القائم بين أطراف الصراع الدولية، فهذه المهمة، لا تختلف في صعوبتها عن تأطير لحظة الربيع العربي، وتحليل اتجاهاتها في اللحظة الأولى التي انطلقت شرارتها. فاليوم، تبدو كثير من التحليلات والاستشرافات التي أطرت هذه اللحظة بعيدة عن الاقتراب من حقيقة المآلات التي انتهى إليها هذا الربيع.
ثمة فوارق مهمة بين الحدثين تبرر ربما بعض اليسر في مواكبة حدث الحرب الروسية على أوكرانيا، فالأمر لا يتعلق بحراك ثوري تقوده قوى سياسية تريد تحقيق تغيير سياسي، تتقاطع فيه أو تتعارض مع سياسات الفاعلين الدوليين، وإنما الأمر يتعلق بصراع الكبار، أو بمنعطف حاسم في الصراع بين الشرق والغرب، يتعلق به مستقبل النظام العالمي الذي تشكل بعيد الحرب العالمية الثانية، وهل يستمر النسق الحاكم لهذا النظام، بكل قواعده ومؤسساته وشروط اللعب ضمنه، أم إن العالم سيتجه في مسار جديد يتمرد على هذا النسق، ويشق طريقه نحو بناء نسق جديد، بمؤسسات جديدة، وقوى دولية جديدة وتحالفات جديدة. الفوارق المهمة بين الحدثين، التي تبرر إمكانية الاشتباك مع الحدث وتحليله وهو في سياق دينامياته، أنه رغم صراع الأجندة الغربية والشرقية، ورغم أن أوكرانيا أصبحت تشكل بؤرته وساحته، إلا أن هناك قواعد لا تزال حاكمة تمنع أن يصل الأمر إلى مستويات غير متحكم فيها، فثمة، دائما، خطوط حمر تمنع من تحول الصراع إلى حرب نووية مباشرة توسِّع رقعة الحرب، وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة يحذر العالم منها ومن تداعياتها الخطيرة.
يمثل كتاب الدكتور محمد نجيب بوليف "الغزو الروسي لأوكرانيا: جنون عظمة أم سقوط نحو الهاوية؟"، مساهمة في هذا المنحى، على الرغم مما يمكن أن يلاحظ على بعض فرضياته التي انطلق منها، والتي تتجه لتثبيت خلاصة أكثر من فتح باب السؤال عن المستقبل والآثار، مما سيكون موضوع نقد نؤخره إلى حينه، بعد الفراغ من عرض مشمولات الكتاب وزاوية معالجته، وخلاصاته، وأيضا استشرافاته.
هل هو نهاية روسيا أو إعلان عن نهاية قواعد النظام الدولي الراهن؟
يقدم الكتاب في مقدمته ملابسات الصراع بين الغرب وروسيا، ويؤطر لحظة بروز الإرهاصات الأولى لعودة العقيدة الروسية المناهضة للغرب (2007)، والمطالبة بعودة الأمجاد القيصرية، والتحرر من قواعد النظام الدولي الجديد التي صنعت لخدمة المصالح الأمريكية والأوربية وإخضاع العالم، فيما أسماه المؤلف بـ"جنون العظمة".
اشترط الكاتب في المقدمة أن يجيب عن أسئلة جوهرية في كتابه، يتعلق الأول، بما إذا كانت سياسة روسيا (استرجاع أراضي الاتحاد السوفييتي عبر سياسة الغزو والتدخل العسكري)، تعكس جنون العظمة أو تعكس في الجوهر عودة الأمجاد القيصرية، أم إنها ستؤدي بروسيا نحو فقدان مكانتها والإيذان بنهايتها في مواجهة الغرب؟ ويرتبط الثاني، بسؤال دور الغرب في هذا الغزو، وهل كان سببا مباشرا فيها؟ أم إنه فقط وفر الظروف التي حتمت على القيادة الروسية الذهاب إلى هذا الخيار (غزو أوكرانيا). أما السؤال الثالث، فقد حاول أن يؤطر موضوع الآثار والتداعيات التي ستأخذها الحرب، وذلك على عدة مستويات استراتيجية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ليختم كتابه بسؤال الاستشراف والسيناريوهات التي يمكن أن تأخذها هذه الحرب، والتي فضل أن يسميها بـ"التكهنات الممكنة" حول نهاية الصراع.
قسم المؤلف كتابه لفقرات وليس فصولا، التزم في الفقرة الأولى بتقديم معطيات اعتبرها ضرورية عن العلاقة التاريخية التي كانت تجمع روسيا بأوكرانيا، وذلك حتى يضع القارئ في السياق التاريخي والاستراتيجي للصراع بين الغرب والشرق، وكيف أصبحت أوكرانيا ساحة له، بعد أن اتجهت استراتيجية حلف الناتو للتمدد شرقا إلى مناطق النفوذ التاريخية للاتحاد السوفييتي بتطويق روسيا، وكيف اتجهت استراتيجية روسيا إلى استعادة هذه المناطق، بدءا بجورجيا ثم جزر القرم ثم حرب أوكرانيا، التي تستهدف حسب المؤلف فصل منطقة "الدونباس" عن أوكرانيا وضمها إلى روسيا.
لا تختلف الفقرة الثانية عن الأولى من جهة تقديم المعطيات التاريخية، التي تؤطر الدينامية التي عرفها الصراع بين الاستراتيجيتين الغربية والروسية، إذ استعرضت هذه الفقرة الالتزامات الغربية التي قدمت لروسيا من أجل إقناعها بعدم وجود استراتيجية تمدد أطلسي في مناطق نفوذها، وكيف دفعت روسيا إلى بناء استراتيجية مواجهة، بعد أن رأت الأفعال الغربية تسير عكس الأقوال، وبعد أن تحولت أوكرانيا إلى ورقة أمريكية وأطلسية، يدير بها الغرب توازن القوى مع روسيا، ويحيط جدار أمنها بتهديد واسع، يقترب من حدودها.
استراتيجية مواجهة، عدد المؤلف بعض مناحيها المالية والاقتصادية والسياسية والطاقية، إذ زاوجت روسيا بين مبدأ التحصين (الاقتصادي والمالي) ومبدأ استثمار نقاط الضعف من أجل الإخضاع (استغلال أوج الضعف السياسي والطاقي الأوروبي)، ومبدأ توظيف الأقليات ومظلومياتهم الثقافية واللغوية في تبرير التدخل العسكري.
في تحديد أسباب الحرب وسيناريوهاتها الممكنة
يعدد المؤلف في الفقرة الثالثة من كتابه إمكانان يؤطران سؤال سبب اندلاع الحرب، ويحاول في كل إمكان أن يسنده بالحيثيات التي تدعمه، وهو في ذلك إنما يقدم الروايتين الغربية (سبب الحرب وجود رغبة روسية تاريخية دفينة للتوسع)، والروسية (تمدد غربي أطلسي هدد أمن روسيا وأجبرها على إعلان الحرب على أوكرانيا لحماية أمنها القومي)، ويقدم معطيات كثيفة عن سير الحرب وتطوراتها، محاولا التوقف على ست سمات منحت لهذه الحرب طبيعة خاصة، أولها أنها تقع على أراضي أوروبية، والثانية، أنها تخص دولتين ليستا متخلفتين من الناحية الاقتصادية، والثالثة، كونها تعيد الاعتبار لآلية العقوبات الاقتصادية كأداة أساسية في إدارة الصراع، والرابعة أنها حرب وضعت الديمقراطية الغربية على المحك، والخامسة أنها حرب بالوكالة (تستعمل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا فيها أوكرانيا أداة في إدارة الصراع مع روسيا)، والسادسة أنها حرب بإفرازات جيواستراتيجية جديدة.
وعلى غرار السببين المفسرين للحرب، اللذين سيعكسان في الجوهر كلا من الرواية الغربية والرواية الروسية، يطرح المؤلف سيناريوهين اثنين لمستقبل الحرب، سيناريو التفوق الروسي الذي سيضمن لروسيا التمدد في الغرب الأوكراني ونشر قواتها في بيلاروسيا، بما يساعد على تطويق أوروبا أمنيا وعسكريا، ثم فك ارتباط كل من أوستوانيا ولاتفيا وليتواني عن الحلف الأطلسي (تمدد استراتيجي)، ثم سيناريو التفوق الغربي الذي يقوم على إيقاف روسيا عن التمدد في مناطق النفوذ التاريخية للاتحاد السوفييتي، وتضييق جدارات الأمن القومي الروسي، بتمكين الحلف الأطلسي من مشارفة حدوده.
لا ينتصر المؤلف لأي سيناريو، ولا يرجح أحدا على آخر، لكنه يدرج في تحليله لاتجهات الحرب التحولات التي طرأت على الاستراتيجية ألأمريكية والأوروبية، وكيف وقع تحول كبير في السياسة الدفاعية الأوروبية، وبشكل خاص ألمانيا، التي عرفت منعطفا كبيرا نحو التسلح الاستراتيجي، لاستدراك جوانب الضعف الاستراتيجي الذي كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا عن أوجه كثيرة منه، إذ وجدت أوروبا نفسها غير قادرة على تأمين الطلب العسكري الأوكراني لمواجهة التمدد والتهديد الروسي للأمن الأوروبي.
ويلاحظ على المؤلف أنه في سياق بحث قضية التصعيد في الحرب، اقتصر فقط على الجانب الروسي، وركز على ما اعتبره أخطاء قاتلة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لخصها في أربعة أخطاء أساسية: (عدم الاعتبار من التاريخ (الدرس الفيلندي)، وعدم الاكتراث بالخصم (تحول استراتيجيته العسكرية من الهيمنة السريعة على كل أراضي أوكرانيا، إلى الاكتفاء فقط بالسيطرة على إقليم الدونباس)، والعودة للتشبث بالعقيدة السوفياتية التي ترى الغرب كله خصما، وعدم الاهتمام بالبناء الديمقراطي الداخلي).
سياسة العقوبات.. إخضاع روسيا أم معاقبة الأوروبيين
من القضايا التي ناقشها الكتاب، في سياق استعراضه للأسلحة التي استعملت في الصراع بين الغرب وروسيا، سلاح العقوبات الاقتصادية والمالية، التي اتخذها الغرب لإخضاع روسيا وتقويض قدرتها على تمويل الحرب، فقد تابع المؤلف الحزم الست من العقوبات التي اتخذها الغرب ضد روسيا على المستويات السياسية والمالية كافة، والمقاصد التي أرادها الغرب من وراء هذه السياسة، لكنه في المقابل، عرض الجواب الروسي، وبشكل خاص، قرار موسكو عدم قبول مستحقاتها من الغاز المصدر إلى أوروبا إلا بالروبل (العملة الروسية)، ولاحظ المؤلف أن فقدان العملة الروسية لحوالي 10 في المائة من قيمتها منذ بداية شهر آذار (مارس)، تحول إلى انتعاشة كبيرة للروبل بعد هذا القرار، إذ تجاوزت قيمته ما كانت عليه قبل بدء الحرب على أوكرانيا، كما عملت الإجراءات التي اتخذها الرئيس الروسي في مواجهة العقوبات الغربية إلى إفشال مفعول هذه العقوبات، وتحويلها إلى سلاح ضد الغرب وبشكل خاص ضد أوروبا.
تتبع المؤلف في هذا الصدد العقوبات الغربية التي استهدفت إخراج القطاع المصرفي الروسي من نظام سويفت لقطع أوصاله، ومنع عدد مهم من الدول من التعامل مع البنوك الروسية، وسجل بهذا الخصوص الضرر البالغ التي أحدثته لاسيما على الميزانيات العمومية للبنوك الروسية. كما تابع المؤلف أيضا سياسة الغرب للضغط على الحلفاء المحتملين لروسيا، ومنع روسيا من استعمال هذه الملاذات الآمنة (الصين، الهند، دول القارة الأفريقية) لكسر الحصار المفروض عليها غربيا، كما تناول الخيارات التي لجأت إليها أوروبا للتخفف من الارتهان إلى مصادر الطاقة الروسية، دون أن يبسط رأيه في جدوى هذه الخيارات، وما إذا كانت تمثل خيارا ممكنا في ظل الإكراهات والتحديات التي ستواجهها أوروبا في الشتاء المقبل.
الآثار الاقتصادية للحرب الروسية على أوكرانيا
يمكن أن نعتبر الفقرة الخامسة من هذا الكتاب أنفس ما فيه؛ لأنها تعنى بدارسة آثار الحرب من ناحية تخصص المؤلف، أي الناحية الاقتصادية. فقد حاولت هذه الفقرة الإجابة عن أسئلة عديدة، ترتبط كلها بكلفة الحرب الاقتصادية، وما إذا كان بإمكان الأطراف المعنية بهذا الصراع والمنخرطة فيه، تتحمل هذه الكلفة وتتحمل معها مواجهة تداعيات الأزمة التي أسفرت عنها هذه الحرب، وما مدى تأثير هذه الحرب اقتصاديا على الدول البعيدة جغرافيا وميدانيا عن هذه الحرب، وهل سيكون التأثير شاملا وبنفس المستوى؟ أم إنه سيخص البعض دون البعض الآخر وبمستويات مختلفة؟
فضل المؤلف في سياق الاشتباك مع هذه الأسئلة، تقديم لمحة عن الوضعية الاقتصادية العامة لمختلف الفاعلين الأساسيين في هذه الحرب، فتناول بهذا الخصوص بعض المؤشرات الماكرواقتصادية التي تخص الناتج القومي والترتيب العالمي والتضخم والبطالة والفائدة المديرية والدَّين/ الناتج، وذلك لكل من (الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، ومنطقة اليورو وفرنسا، والهند وروسيا وأوكرانيا، وأضاف لهذه الدول المغرب لاعتبار تفصيله في الفقرة السادسة آثار الحرب الاقتصادية على المغرب)، ثم ركز بعد ذلك على الوضعية العامة للدولتين المتحاربتين، وتناول فيها المؤشرات السابقة، بالإضافة إلى وضعية الصادرات والواردات، والشركاء الدوليين.
يعتبر المؤلف أن نقاط قوة روسيا الاقتصادية (مصادر الطاقة) يمكن أن يحول اقتصادها في أي لحظة إلى اقتصاد هش البنية، إذا ما وقع إشكال في التصدير كما حصل في أثناء فترة الحرب. لكن في المقابل، فإن أوروبا، هي الأخرى، ترتهن إلى مصادر الطاقة الروسية، مما يجعل الهشاشة تلازم البنية الاقتصادية إلا إذا وجد خيارا للتحرر من مصادر الطاقة الروسية، ففي هذه الحالة، يمكن لميزانية الدولة الروسية أن تتقلص ـ حسب المؤلف ـ إلى النصف، مما سيؤثر على مختلف دواليب الاقتصاد وعلى المعيشة بصفة عامة.
بعد استعراض هذه المعطيات وكثير من التفاصيل التي تؤثث الوضعية العامة للاقتصاد في كل من روسيا وأكرانيا، حرص المؤلف أن يستبعد فرضية عزو الانخفاض في النشاط الاقتصادي في العالم إلى الحرب الروسية على أوكرانيا فقط، واستند بهذا الخصوص، إلى توقع سابق لصندوق النقد الدولي، توقع انخفاضا كبيرا في النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية قبل اندلاع هذه الحرب.
يعتبر المؤلف أن نقاط قوة روسيا الاقتصادية (مصادر الطاقة) يمكن أن يحول اقتصادها في أي لحظة إلى اقتصاد هش البنية، إذا ما وقع إشكال في التصدير كما حصل في أثناء فترة الحرب. لكن في المقابل، فإن أوروبا، هي الأخرى، ترتهن إلى مصادر الطاقة الروسية، مما يجعل الهشاشة تلازم البنية الاقتصادية إلا إذا وجد خيارا للتحرر من مصادر الطاقة الروسية،
يستعين المؤلف بالدراسة التحليلية التي قامت بها الأمانة العامة لمنظمة التجارة الخارجية المنشورة في 11 نيسان/أبريل 2022، ويستند أيضا إلى تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في أواخر آذار/مارس، ويعتبر أن الحرب على أوكرانيا يمكن أن تكلف حسب مدتها الزمنية ما بين 1 إلى 1.5 في المائة من النمو في أوروبا، ويمكن أن ترفع التضخم بـ 2 إلى 2.5 في المائة، ومن المتوقع أن تشهد منطقة اليورو لقربها واعتمادها على البلدين تأثيرا سلبيا على الناتج المحلي الإجمالي السنوي يصل إلى 1.4 نقطة.
لا يغامر المؤلف في توقعاته، ذلك أنه دائما ما يضع ضابط مدى الحرب ومدتها المتوقعة كمعيار أساسي في رسم هذه التوقعات، ويرى تبعا لذلك، أن طول مدة الحرب يمكن أن يعصف ببعض المؤشرات الاقتصادية، إذ من الممكن أن ينكمش الاقتصاد الأوكراني بما يتجاوز تقديرات صندوق النقد الدولي، الذي حدد نسبة الانكماش في 10 في المائة في 2022 في تقرير نشره في 14 آذار/مارس 2022، فاعتبر المؤلف أن هذا الانكماش قد يصل إلى 35 في المائة، كما توقع أن يرتفع الدين العام للبلاد إلى 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2022 مع نسبة تضخم تفوق 20 في المائة.
وقد رجح الباحث ملاحظة بعض المراقبين والباحثين الاقتصاديين لآثار الحرب الروسية، وذهب إلى أن استمرار الحرب قد يؤدي على المدى المتوسط إلى تفكك الاقتصاد العالمي وتحوله إلى كتل متفرقة، ذلك أن إعادة تشكيل التوريدات (المواد الطاقية والفلاحية وغيرها من المواد المهمة)، والبحث عن ممونين وزبناء جدد بالنسبة لمختلف الدول على الصعيد العالمي، وكذا آثار العقوبات الاقتصادية التي قد تؤدي أيضا إلى استمرار البعض في تطبيقها، وتخلف البعض الآخر عنها، وانتقال الشركات الكبرى من بعض الفضاءات والدول الموالية لروسيا، كل ذلك، قد يؤدي ـ في نظر المؤلف ـ إلى تشكل حركية اقتصادية جديدة تعمل على "انفصال"، ثم "تكتل" بعض الاقتصادات الكبرى على أساس الاعتبارات الجيوسياسية المستقبلية، وذلك في محاولة منها لتأمين احتياجاتها الأساسية والرئيسية، ولتحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي في الإنتاج والتجارة، وقد تؤدي هذه الحركية الجديدة في حال عدم ظهور كتلة رسمية، إلى اختيار الجهات الوازنة لتقليل المخاطر، من خلال إعادة توجيه سلاسل التوريد. وستؤدي المؤسسات العالمية مثل منظمة التجارة العالمية وغيرها دورا فاعلا في إعادة هذا التشكيل.
وبعد،
لاشك أن الكتاب يقدم معطيات مهمة تخص الخلفية التاريخية للصراع، وطبيعة الحرب الجارية وجذورها الاستراتيجية، وتأثيرها على النظام العالمي، ويبحث أيضا تأثيرها الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي على الدول المشاركة فيها، والدول التي لها صلة مباشرة بها، وأيضا على الدول البعيدة عنها، كما يقدم معطيات مهمة عن الآثار الاقتصادية لهذه الحرب، لكن، ربما كان المأخذ الأساسي على الكتاب هو عنوانه، وإدراجه لفرضية كان من الممكن التحرر منها، إذ ليس المفيد للقارئ معرفة ما إذا كانت السياسة الروسية (إعلان الحرب على أوكرانيا)، تنطلق من خلفية عودة القيصرية أو من خلفية "جنون العظمة"، وليس من المفيد توريط القارئ في فرضية أخرى لم يجب الكاتب عنها (سقوط نحو الهاوية)، فهذه التوصيفات، حتى ولو صدقت، فهي جزء من الرواية الغربية، التي يفترض في الباحث أن يسجلها ويضع مسافة عنها، ويدرس الحرب في خلفياتها السياسية والاستراتيجية، ويدرس آثارها ويجيب عن سؤال قدرتها على تقويض نظام دولي وبلورة نظام دولي آخر، ويركز بوجه خاص على المؤشرات، وذلك في مختلف مستوياتها، ليبين أي السيناريوهات الراجحة، استمرار الهيمنة الغربية وتوسعها، أن حدوث زلزال عنيف بالنظام الدولي، وتشكل قوى دولية جديدة، وإرهاصات تشكل قواعد نظام دولي جديد.
مصادر تمويل الحملات الصليبية في العصور الوسطى.. رأي تاريخي
ما هي مهمة الفيلسوف العربي المعاصر؟ رأي مفكر مغربي
العروي.. من التاريخانية إلى اكتشاف الواقع المجتمعي الإسلامي