أما "النوتة الزفرة"، لغير
المصريين، فهي هذا
"الكراس الصغير" الذي يضعه "البقال" في الحارة في جيبه، ويقيد
به حركة البيع والشراء، لا سيما الذين يشترون بالآجل، ويدفعون حين ميسرة. وسميت
"زفرة"، لأن آثار التعامل مع الزيوت تنتقل من يد البائع إلى
"النوتة"، فتسمى هكذا!
ومن الواضح أن الدولة المصرية، وبعد دراسة ممتدة للجنرال
لماهية الدولة، استمرت لخمسين سنة بحسب قوله، فقد انتهى بها إلى "محل
بقالة"، تدار بذات "النوتة الزفرة"، وما كان يدهشنا في عهد مبارك
امتد إلى الآن، فلا قاعدة بيانات لأهم الشخصيات المصرية في كافة المجالات، فيحدث
أن يعين مسؤول بالخطأ وتشابه الأسماء، لكن مبارك كان له عذره، فلم يدرس الدولة،
وكانت كل أمانيه أن يكون موظفاً مرموقاً بعد إحالته للتقاعد، وما يهمه من الوظيفة
هو الراتب، ومع أنه صار على رأس الدولة المصرية، فقد تطورت أحلامه في الحدود
الدنيا لأي موظف بيروقراطي، فعندما اختير نائباً للرئيس قال إنه عندما استدعاه
الرئيس السادات ظن أنه سيعين رئيساً لحي مصر الجديدة، ثم بعد اختياره رئيساً قال
إنه اعتقد أن السادات استدعاه ليُعين رئيساً لشركة مصر للطيران، وفي انتخاباته
الأخيرة قال باعتقاده أن يُعين سفيراً في لندن؛ بلد الاكسلانات!
إن من درس الدولة لمدة خمسين عاماً، تبين أنه كان يدرس
من منهج مغاير، فقد انصبت دراسته على مقرر كيف تصنع "بقالة" ناجحة، وهو
نوع من "المذاكرة" يحدث كثيراً مع بعض الأشخاص عندما يذاكرون مادة قبيل
الامتحان، فإذا سُلموا ورقة الأسئلة فوجئوا بأن الامتحان في مادة أخرى. وكذلك فعل
عندما اعتمد على "النوتة الزفرة"، فتشابهت الأسماء فعين المصرفي
"أحمد عيسى" وزيراً للآثار، ليتلقى التهاني "أحمد عيسى" أستاذ
الآثار المصرية بجامعة القاهرة، ويضطر الرجل إلى إصدار بيان يشكر فيه من قدموا له
التهنئة ويلفت النظر إلى أنه ليس "أحمد عيسى" الوزير!
اعتمد على "النوتة الزفرة"، فتشابهت الأسماء فعين المصرفي "أحمد عيسى" وزيراً للآثار، ليتلقى التهاني "أحمد عيسى" أستاذ الآثار المصرية بجامعة القاهرة، ويضطر الرجل إلى إصدار بيان يشكر فيه من قدموا له التهنئة ويلفت النظر إلى أنه ليس "أحمد عيسى" الوزير!
العشوائية:
لقد تطرق أحد الأفلام لمثل هذا الخطأ، عندما يتم تعيين
أحد الأشخاص وزيراً لتشابه اسمه مع آخر هو المعني بالتعيين. وفي إحدى الزيارات
الميدانية، وعندما كان مبارك يفتتح أحد المشروعات، أعجب الرئيس بمن يقوم بالشرح،
فأشار إلى رئيس الديوان زكريا عزمي أن يدون اسمه، والذي هز رأسه بتنفيذ الأمر،
لكنه كان يعيش في دور الطاووس فلم يفعل، وبعد سنوات من هذا اللقاء تذكره مبارك عند
حركة للمحافظين، ليذكر زكريا به ويطلب اسمه، فكان البحث يدوياً ليتم جلب أحد
الأشخاص لتشابه بين الاسمين، ويعين محافظاً للمنيا، وتكون المفاجأة وقت حلف اليمين
أنه ليس الشخص المعني، لكن لم يكن هناك خيار آخر، واستمر المحافظ بالخطأ في موقعه
لسنوات!
خطأ آخر كان بتعيين نوال التطاوي وزيرة للاقتصاد
والتعاون الدولي، ولأنها كانت تدرك أنه تعيين بالخطأ، فقد أقدمت وزوجها لينهلا من
نعيم الدنيا، وجرت فيها جري الوحوش في البرية، لأنها تعلم أنها ستغادر موقعها عند
أول تغيير وزاري، وكان المراقبون في دهشة من انشغال الوزيرة وبعلها بتكوين أنفسهما
لمرحلة ما بعد ما ترك الوزارة بهذه الرعونة!
وهذا الأمر في جانب منه يرجع إلى سياسة
"الارتجال" في الاختيار، وفي إدارة الدولة. وبعيداً عن تشابه الأسماء
هناك كثير من الأخطاء التي وقعت بدافع العشوائية، ومنها ما حدث في تشكيل وزاري
للدكتور كمال الجنزوري في عهد مبارك، فلم تعلن الأسماء مرة واحدة، فقد سهرنا في
الصحف في انتظار التشكيل حيث كان يتم الاختيار بالواحد، ويستدعى لمجلس
الوزراء، وحدث
أن تم الإعلان عن اسم أحد الأشخاص وزيراً ونشر في الصحف، وحمل الرجل في الصباح
جريدة "الأهرام"، وذهب إلى مقر الحكومة، ليفاجأ بأنهم تراجعوا عن
اختياره بل وألغوا الوزارة نفسها، فقد أعادوا ضمها لوزارة أخرى!
وإذ كان الشائع أن اختيار أحمد ماهر وزيراً للخارجية
بدلاً من شقيقه السفير في الولايات المتحدة الأمريكية علي ماهر، فإن الرجل قال إنه
كان المستهدف بالاختيار، وإن كان يرجع الفضل لذات اللحظة التي جعلته يتأخر بعض
الشيء في وقف عمل هاتفه الأرضي، فقد أطفأ أنوار حجرة نومه كما كل ليلة وهمّ أن
يفعل، لكنه قام لقضاء حاجته، وهنا كان على موعد مع الخبر المهم في حياته، ولو لم
يفعل لكانوا اختاروا غيره، وهو العرف السائد في ظل نظام مبارك الارتجالي لأنه لم
يضيع وقتاً في دراسة ماهية الدولة!
أن يتكرر الأمر نفسه في هذا العهد الجديد، فيقع الاختيار على مصرفي لوزارة الآثار، لتشابه الأسماء مع أستاذ جامعي متخصص في الآثار المصرية، فإن هذا ما يؤكد أن الدراسة التي استمرت لنصف قرن كانت من منهج آخر
وأن يتكرر الأمر نفسه في هذا العهد الجديد، فيقع
الاختيار على مصرفي لوزارة الآثار، لتشابه الأسماء مع أستاذ جامعي متخصص في الآثار
المصرية، فإن هذا ما يؤكد أن الدراسة التي استمرت لنصف قرن كانت من منهج آخر، حيث تدار
الدولة من "النوتة الزفرة"!
إن هناك من قالوا إنه لا خطأ ولا يحزنون، فاختيار
المصرفي تم مع سبق الإصرار والترصد، وهو أمر لا يمكن قبوله، لأن هذه وزارة متخصصة،
وإذا كانت دولة يوليو 1952 قد ألغت السياسة واعتمدت فلسفة حكومة التكنوقراط، فإن الجنين
في بطن أمه يعلم أن اختيار وزير للآثار لا بد وأن يقع على جامعي في نفس التخصص،
وعندما يصادف وجود من يحمل نفس الاسم "أحمد عيسى"، فلا بد أن يكون هو
المعني بذلك، لكنها الإدارة بـ"النوتة الزفرة"!
استدعاء الضرورة:
إن السؤال الأهم هو: ما هي الحاجة لهذا التغيير المفاجئ،
فلم يستطع من بيده عقدة الأمر انتظار عودة البرلمان للانعقاد في دورته الجديدة في
تشرين الأول/ أكتوبر المقبل لتمرير اختياراته، ولكن باستدعاء النواب من عطلتهم؟
وهو وإن كان أمرا أجازه الدستور، فإنه استدعاء الضرورة، عندما يكون التأخير قد
يرتب أخطاراً يتعذر تداركها، وعندما يحدث هذا لعزل عدد من الوزراء الباهتين،
وتعيين مثلهم، فإنها أزمة من قرأ في المنهج الغلط!
ما الضرر في تأخر عزل الوزير الحالي للآثار، الذي لا
يحضرني اسمه، وتعيين أحمد عيسى سواء الأثري أو المصرفي؟ وما هي الضرورة الملحة
للعزل الفوري لوزير التعليم وتعيين مساعده وزيراً؟ وماذا يمكن أن يحدث لو أن وزيرة
الصحة استمرت شهرين في موقعها وتتقاضى راتبها عن عمل لا تقوم به، وهي بعيدة عن
الوظيفة لقرابة العام، في وضع احتارت البشرية في فهمه؟ وما هي الضرورة في تعيين نيفين
الكيلاني وزيرة للثقافة وعدم انتظار عودة البرلمان لعزل الوزيرة إيناس عبد
الدايم؟!
اللافت هنا، هو أن "المجلس الموقر" لم يعترض
على اختيار واحد، ولم يتمسك بوزير واحد تم عزله، وإذا كان يرى أنه تغيير في محله،
فلماذا لم نسمع عن استجواب للوضع الخاص لوزيرة الصحة، أو لجرائم وزير التعليم، أو
رفضاً لسياسات وزراء الثقافة والري والآثار، وقد أيد قرار عزلهم؟ بل لم يستفسر
المجلس عن شخصية أو مؤهلات شخص بعينه من الوزراء الجدد، ولو فعل، وناقش، لما أمكن
لفلسفة "النوتة الزفرة" أن تحكم، وتنتج هذا الخطأ الجسيم، فيتم اختيار
مصرفي وزيراً للآثار، في بلد فيه نسبة كبيرة من آثار العالم، وفيه كليات للآثار في
كل الجامعات، وخبراء في هذا المجال بعدد نجوم السماء!
لقد توقعت بإعلان الجانب الإثيوبي انتهاء الملء الثالث لسد النهضة؛ أن يبحث القوم عما يشغل الرأي العام بعيداً، لا سيما وأن الحديث سابقاً عن الملء الثالث شهد إعلان السيسي عن أن هذا خط أحمر
إن فلسفة الاختيار لم تتغير، فتُستبعد شخصية باهتة، لتحل
محلها شخصية باهتة أيضاً، وعندئذ لن يكون التغيير ملحّاً. وإذا كان يوسف والي،
نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة في عهد مبارك، قال "كلنا سكرتارية عند
الرئيس"، فإن وزراء هذه الأيام هم "عساكر مراسلة"، فتدار الأمور
بعيداً عن رئيس الوزراء، وبحضور عدد من قيادات الجيش في كثير من الملفات، فما هو
وجه الاستعجال؟!
لقد توقعت بإعلان الجانب الإثيوبي انتهاء الملء الثالث
لسد
النهضة؛ أن يبحث القوم عما يشغل الرأي العام بعيداً، لا سيما وأن الحديث
سابقاً عن الملء الثالث شهد إعلان
السيسي عن أن هذا خط أحمر، وعندما حدث تمرد في
إثيوبيا، ادعى الذباب الإلكتروني أنه من فعل الصقور المصرية، ومع هذا التحدي من
جانب إثيوبيا كان لا بد من عمل يشغل الناس، فكانت هذه الدعوة لجلسة طارئة للبرلمان
في إجازته، ربما لم تعرفها الحياة البرلمانية في مصر، منذ معركة مراكز القوى، وفي
الجلسة التي شهدت عزل رئيس البرلمان لبيب شقير، وتأييد السادات في خطواته!
لقد انتهينا من التشكيل الوزاري.. ماذا عن سد النهضة!
twitter.com/selimazouz1