الكتاب: "الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر: دراسة مقارنة للثورتين التونسية والليبية"
الكاتب: محمد نجيب بو طالب
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر 2012
عدد الصفحات: 191 صفحة
1 ـ بين يدي الكتاب
بات اليوم المكون الهووي للشعوب والمجتمعات مصدر إرباك للدراسات. فلم نكد نطمئّن إلى الخطاب الفلسفي الذي يراجع مقومات الهوية مراجعات جذرية بفعل حركات الهجرة والتثاقف والثورات الاتصالية المبشرة بالقرية الكونية الواحدة حتى طفت الصراعات ذات أسس مغرقة في المحلية كالقبيلة أو الطائفية أو الإثنية التي اتخذت من شعار التحرر مبررا لظهورها. وفي هذا السياق يرصد الباحث محمد نجيب بو طالب عودة المكون القبلي إلى الفعل في الحياة السياسية والاجتماعية في تونس وليبيا. ويطرح السؤال حول مدى نجاح الدولة الوطنية في إرساء فكرة الانتماء إلى الوطن أولا وأساسا.
2 ـ محفزات البحث في المكون البنيوي في المجتمعين التونسي والليبي
مثل الجهد الشعبي الذي ظهر في الجنوب التونسي في 2011 لاحتضان الليبيين وجها مميّزا من وجوه التضامن بين الشعبين. ولكن يبدو أنه تحقق من منطلق الروابط الدّموية بين القاطنين في الجنوب أكثر مما كان استجابة إلى عمق الروابط بين الشعبين. ومحاولة فهم الظّاهرة كانت من بين محفّزات بوطالب لإنجاز هذا البحث السوسيولوجي. فالكثير من الدلائل تؤكد الحضور اللافت للبنية القبلية باعتبارها مكونا عميقا للثقافة الاجتماعية. ومن شأن عودة القبلية إلى سطح الفعل السياسي والاجتماعي أن تجعل المرء يتساءل هل تمكنا فعلا من دراسة البنية النفسية والذهنية لمجتمعاتنا وفهمها حق الفهم؟ فتاريخ الجهات والتكوينات القبلية، على سبيل المثال، يبقى مجهولا. فهو لم يكتب بعد بطريقة موضوعية أو أهمل وظل منسيا.
ولينجز دراسته هذه نوّع الباحث من مصادره. فاستند إلى الخبر الإعلامي في الصحافة والتلفزيون وإلى المواد المنشورة في الإنترنت كما اعتمد المعاينة الميدانية وعايش الفاعلين في الجنوب التونسي واستعان بالنصوص التاريخية التي ترتبط بالظاهرة القبلية وتأثيرها في المراحل الحديثة والمعاصرة.
3 ـ الظاهرة القبلية والواقع العربي والمغاربي: تعريفات ومفاهيم
يحاول الباحث محمد نجيب بو طالب أن يعتمد لغة مفاهيمية تنزّل دراسته ضمن بعض الخلفيات المعرفية إفادة أو مجادلة ونقضا وتعقد ميثاق فهم وتأويل مع القارئ. فيعرض المقاربات النظرية المختلفة للظاهرة القبلية كالمقاربة الخلدونية أو الاستعمارية أو منجز المدرسة الانقسامية ذات النزعة الأنجلوساكسونية. ويعرّف القبيلة بكونها شكلا من أشكال التّنظم الاجتماعي لجماعة من الناس ينتمون حقيقة أو وهما إلى أصل مشترك ويشعرون بانتسابهم إلى أب أو جدّ أعلى. ويجد من منطلق خلفياته هذه أن المكوّن القبلي يكسب النسيج الاجتماعي الواحد لحمته ولكنه غالبا ما يدفع إلى الانقسام والتناحر ضمن روابطها بالمكونات المجاورة. وليس هذا الكيان ثابتا قارا على مرّ التاريخ. فقد خضعت البنية القبلية لعدد من التغيرات، إذ تلقّى الشعور القبلي عددا من الصدمات نتيجة التحولات التي فرضتها الحياة العصرية وخاصة عند نشأة الدولة العصرية التي انتزعت منها ولاء أفرادها وتغيير أسس الانتماء وتحديد المجالات الجغرافية وضبطها.
ويبدو الباحث أكثر ميلا إلى تبنّي التّصور الخلدوني. فيركز على مفهوم العصبية الذي عمقه كلّ من محمد عابد الجابري وبرهان غليون وهو يحدّد أسس فعلها في الحياة السياسية والاجتماعية، مميّزا بين القبلية، ذلك التجسيد اللاواعي للقبيلة والنزعة القبلية بما هي إعلاء للانتماء القبلي ومأسسة لبنيته في المجتمع وتغليبه على هويات أخرى. وتجد القبلية ترجمتها في ظاهرة العروشية في المجتمعات المغاربية. فتمثل مبدأ تنظيميا غير رسمي أو هي رابطة مبنية على التحالف والتضامن أكثر مما هي مبنية على القرابة والنسب. وتقوم على ضرب من الولاء إلى الجماعة الاجتماعية الواسعة والفضاء الترابي الذي الخاصّ بها.
4 ـ الأبعاد السياسية للظاهرة القبلية في ليبيا
يبدو التعاطي الرّسمي لنظام القذافي مع القبيلة مربكا، ذلك أنّ مرتكزات الهوية ظلت تتغيّر باستمرار وفقا لما يعنّ للعقيد، من الهوية الوطنية الليبية إلى الانتماء الإسلامي إلى العروبة إلى الإفريقانية إلى العالمية الأممية. وكان على المكون القبلي أن يكيّف نفسه باستمرار ليوافق هذه النزوات. ولئن كان الانتماء القبلي مغيّبا إلى حدا لأنه مطالب بالذوبان في "جماهيرية العقيد" فإن غياب عناصر المجتمع المدني أعاد رض المكون القبلي عنصرا أساسيا في بنية المجتمع. فعمل النظام، مغازلته وتوظيفه لحشد دعمه مقدّما له الإغراءات كالإنفاق بسخاء على ألعاب الفروسية وإنتاج المسلسلات التي تعلي من شأنه. وعمليا، عمل على خلق هياكل تنظيمية تستوعب عناصره شأن روابط شبان القبائل أو النوادي القبلية وتنظيمات الحرس الشعبي المشكّلة من أبناء القبائل وفتيانها المتطوعين لحمل السلاح والدفاع عن "مكتسيات الثورة". وعبرها كان العقيد يبحث عن حميمية داخلية لمواجهة العزلة الدولية تجاه سلوكه السّياسي العنيف وخطابه الفظّ. وعلى أساس هذا الولاء تتمّ المحاصصة في توزيع مواقع القرار بين القبائل ممّا خلق تنافسا بينها وضغائن.
يبدو التعاطي الرّسمي لنظام القذافي مع القبيلة مربكا، ذلك أنّ مرتكزات الهوية ظلت تتغيّر باستمرار وفقا لما يعنّ للعقيد، من الهوية الوطنية الليبية إلى الانتماء الإسلامي إلى العروبة إلى الإفريقانية إلى العالمية الأممية. وكان على المكون القبلي أن يكيّف نفسه باستمرار ليوافق هذه النزوات.
وعند استشعار سلوك مناوئ من هذا المكوّن كان النّظام يسرع إلى الهجوم والتعنيف. فيسجن أبناءه أو ينفي زعماءه. ولم يكن المشهد القبلي بدوره منسجما، فقد كان يشهد عديد الانقسامات، على أساس مناطقي خاصة وكان العامل المهم في هذا الاختلاف يعود إلى رصيد القبائل التاريخي والسياسي مع النظام سلبا أو إيجابا. ولكن المنعطف في تعامل القبائل مع النظام تمثل في ذلك الخطاب التحريضي الذي ألقاه القذافي بحدة، لملاحقة الثوار: (زنقة زنقة- دارا دارا..) فقد كشف عن حجم الاستهانة بحرمة الليبي وبالنتيجة خلق كتلة مضادة متحدة من القبائل. وبانهيار تحالفاته القبلية، انهار النظام. ففرضت مختلف هذه المعطيات القبيلة بنية اجتماعية ثقافية سياسية في طور الكمون ولكنها كانت تستعيد فاعليتها في الأزمات، أكثر من ذلك تضحي وسيلة يحتمي بها الفرد والجماعة من الدولة.
5 ـ العروشية في تونس، ومحاولات العودة إلى المشهد
للبناء القبلي حضور مهم في "المجتمع التونسي" قديما. ولكنّ السلط المركزية كانت تعمل باستمرار على دمج القبائل وتغيير أسمائها وخلط أنسابها لكسر صفاء الانتماء إليها. وبلغت هذه الحركة أوجها ففي المرحلة الوسيطة مع تعريب المنطقة وقدوم القبائل العربية البدوية أولئك "الجمّالة "أو "الضاعنين في الترحال" وفق ابن خلدون. وفي الفترة الحديثة والمعاصرة، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر خاصّة، أدت القبيلة بوصفها بنية اجتماعية، دورا مهما في البناء السياسي تمرّدا على الدولة أو تحالفا معها. فانقسمت إلى مخزنية موالية للسلطة وُظفت عسكريا واقتصاديا وأخرى ظلت شبه مستقلة أو متمردة.
ولنا في ثورة علي بن غذاهم التي جمعت قبائل ماجر والفراشيش وجلاص وقبائل الساحل التونسي خير مثال. ولكن هذا المكون أصيب لاحقا بخلل بنيوي وتراجعت أدواره ووظائفه. فقيام الدولة الوطنية التي تفرض الولاء لها أساسا وتكفله لإشرافها المنشآت والوظائف مثّل المنعطف الكبير في حياته. فتغير التقسيم الإداري وأضحى مقومه الحدود الجغرافية التي يتولى فيها السلطة المحلية كل من الوالي والمعتمد لا الانتساب القبلي الذي يقوم على سلطة القائد والشيخ. وضمن السعي إلى ضمان الاندماج في هذه الدولة الوطنية لم يكفّ الخطاب الرسمي البورقيبي عن مهاجمة مختلف مظاهر العروشية.
لقد عدّ القضاء على العروشية مظهرا من مظاهر حداثة المجتمع التونسي. وبات الولاء يقدّم إلى الدولة باعتبارها مفهوما مجردا لا إلى العرش القائم على العلاقات الدموية. ولكن مظاهره لم تزل تماما. فقد أخذت أشكالا أخرى، منها الاستعانة بالأقارب والوساطات في تقلّد الوظائف وتحقيق المصالح. "كما أنّ التنافس السياسي لا يتحقّق في هذه المجتمعات على الدوام وفق القوانين والضوابط الرّسمية، وإنما يحصل في جزء منه ضمن شبكات خفية وملتوية من الأعراف والعلاقات والوساطات التي توظّف العلاقات الحميميّة والتقليدية".
6 ـ القبلية في ليبيا وتونس بعد الثورتين
وجد المجلس الانتقالي الذي حاول أن يجمّع اللبين تحت راية الوطن نفسه ملزما بأن ينخرط في الخطاب القبلي. فقد كان النظام يعلن تلقيه الدّعم من نحو 2000 قبيلة. ولتفنيد خطاب السلطة أخذ يشير إلى الدعم الذي تقدمه إليه القبائل الليبية، وإن بشيء من الحذر والرصانة وفق الباحث. وهكذا زُجّ بالمنظومة القبلية في جوهر الجدل والمعترك السياسي أيام ثورة فبراير. وأضحى الفاعلون يعودون إلى القبائل لتلقي الدعم ويبدون لها ولاءً ينازع الولاء للوطن. أما على المستوى العسكري فقد منحت مشاركة العناصر القبلية في الثورة شرعية الحصول على الغنائم أو تصدّر مواقع القرار في السلطة الجديدة. ثم انبثقت جماعات عسكرية مناطقية تتنازع الحكم بقوة السلاح ومن هنا دبت الفوضى التي لم تعرف ليبيا سبل الخروج منها إلى اليوم.
أما في تونس فقد كان طُفو الصدامات القبلية (بين العروش) عنصرا [مفاجئا] للرأي العام الوطني. ويسخر الباحث من الوصف [مفاجئ] الذي اعتمده الباحثون عندها أو من تفسيراتهم [المضطربة]. ويردّها إلى عدم قدرتهم على تبيّن الصورة الحقيقية لأنماط تطور المجتمع التونسي. فالريف لم يدرس دراسة علمية وافية ولم تتراكم حوله المعرفة التي تشخص مراحل تطوره وتحدد ملامح آفاقه. والباحث الفطن يدرك أنّ جذوة الانتماء إلى العروش لم تنطفئ وإنما ظلت كامنة تنتظر هبة ريح تذكيها لتعاود الاشتعال. والأوضاع العقارية لم تحسم. وأغلب الأراضي الفلاحية تُمتلك امتلاكا جماعيا من قبل العروش أو فروعها وحسم ملكيتها لا يتحقّق إلا ضمن بنيتها. أما الأداء السياسي للسلطة المركزية فقد كان ضعيفا أقرب إلى التهميش الاجتماعي الممنهج الذي يستهدف الجهات الداخلية أو الوافدين منها إلى المدن. وعليه فقد أسهمت كل هذه العوامل في إعادة إنعاش العلاقات الحميمية الكامنة والمتسترة.
7 ـ من نتائج هذه الدراسة المقارنة
عمل الباحث محمد نجيب بوطالب على دراسة المكون القبلي في المثالين التونسي والليبي عاملا على أن يسد شيئا من الفراغ الدراسي الناتج عن "السياسات العشوائية والتوجّهات القطرية الفجة التي انتهجتها الأنظمة المتحكمة في البلدين، على مدى نحو نصف قرن". ومع ذلك فقد أمكن للبنية القبلية في المجتمعين أن تتعايش مع بنى مستحدثة وأن تؤدي دورا، ثقافيا كالحفاظ على تصور خاص للهوية إزاء الإيديولوجيات المطلقة التي تنشد الإنسان في كونيته. ويحسب لها أنها كانت تقوي مظاهر التلاحم الوطني أثناء الثورتين، دافعة بالولاء لها إلى الخلف. ولكن حالما تفتر النزعة الثورية تعاود هذه البنى الكامنة الاشتغال على نحو مهدد لوحدة الوطن.
ورغم هذا التشابه ينتهي الباحث إلى اختلاف الوضعين في تونس وليبيا، ظاهرا وعمقا. فقد كان لهذه البنية تأثير سلبي بارز في ليبيا انتهى إلى التقاتل على السلطة. أما في تونس فقد كشف الواقع، أنّ النظام السياسي كان يتعامل مع البنى التقليدية وممثليها على نحو سري (العروش والقبال) ضمن سياسة براغماتية تصل حد مناقضة إيديولوجيا التحديث التي يتبناها. وحالما طفا هذا الشعور بالانتماء على السطح وأخذ يمارس دورا سلبيا، أسهمت فاعلية المجتمع المدني، في تحصين الانتماء المشترك للوطن وجعلت مثل هذه النزعات محدودة ومحاصرة ومدانة. وعموما "تبقى الفوارق قائمة بين البلدين، على صعيد التعامل مع المعطى القبلي، مرتبطة بطبيعة الدولة من جهة أولى، وبخصائص النخب من جهة ثانية. فقد بدا التوظيف السياسي للقبيلة في ليبيا أكثر حضورا، بينما اتخذت الدولة في تونس موقفا واضحا من القبيلة، منذ البداية، فواجهتها ببرامج وأساليب عمل أدت إلى تفكيك بناها وتقليص وظائفها من سلبياتها".
جمعية الشبان المسلمين بتونس والمشروع الإصلاحي في كتاب
النظرة التقليدية للمسألة الوطنية السورية.. قراءة في كتاب (1/2)
كيف انتهى الحراك الثوري اليمني إلى نشاط سياسي محدود؟