تناولت وسائل
الإعلام بعد تتويج تشارلز الثالث ملكا لبريطانيا، علاقته مع الإسلام، والتي تعود
إلى سنوات طويلة تعلم فيها التاريخ الإسلامي، ودرس الإسلام بعمق، وتعلم بعض
العربية لفهم القرآن.
وتحدث تشارلز
الثالث غير مرة عن التاريخ الإسلامي، واستشهد به في مواضيع عدة، بيئية، واقتصادية،
وغيرها.
وإعجاب ومعرفة تشارلز بالعقيدة
الإسلامية موثقان جيدًا، حتى وصل إلى أن يدعي مفتي قبرص في عام 1996 بأنه مسلم
سرًا.
وكان تشارلز
الثالث قد كشف ذات مرة أنه كان يتعلم اللغة العربية من أجل فهم القرآن بشكل أفضل؛
وهي حقيقة أشاد بها إمام مسجد كامبريدج المركزي.
وتاليا الجزء الثاني من خطاب لتشارلز حين كان أميرا لويلز في عام 1993، ألقاه في مركز أكسفورد
للدراسات الإسلامية، بعنوان "الإسلام والغرب" استكمالا لما نشرته "عربي21".
العميد،
السيدات والسادة
لئن كان هناك
سوء فهم كبير في الغرب حول طبيعة الإسلام، فهناك أيضاً كثير من الجهل حول ما تدين
به ثقافتنا وحضارتنا للعالم الإسلامي. إنه إخفاق ينجم، كما أظن، عن قيود من
التاريخ توارثناها. لقد كان العالم الإسلامي في العصور الوسيطة، من وسط آسيا إلى
سواحل الأطلسي، عالماً يزدهر فيه العلماء وأهل العلم. ولكن نظراً لأننا تعودنا على
أن نرى في الإسلام عدواً للغرب، باعتباره ثقافة غريبة، سواء من حيث مجتمعه أو من
حيث منظومته العقائدية، فقد نزعنا نحو تجاهل أو شطب ما له من علاقة وطيدة بتاريخنا
نحن.
فعلى سبيل
المثال، قللنا من أهمية 800 سنة من وجود المجتمع الإسلامي والثقافة الإسلامية في
إسبانيا، ما بين القرنين الثامن والخامس عشر، ولقد تم الاعتراف منذ زمن طويل
بمساهمة إسبانيا المسلمة في حفظ العلوم الكلاسيكية أثناء العصور المظلمة وكذلك
مساهمتها في أول إزهار لبراعم النهضة. ولكن إسبانيا الإسلامية كانت أكثر من مجرد
حجرة للمؤن تحفظ داخلها المعارف الهيلينية إلى أن حان أوان التهامها من قبل العالم
الغربي الصاعد حديثاً. لم يقتصر الأمر على قيام إسبانيا المسلمة بجمع وحفظ المحتوى
الفكري للحضارة اليونانية والرومانية القديمة، وإنما قامت بتفسير وتوسيع نتاج تلك
الحضارة، وقدمت مساهمة حيوية من تلقاء نفسها في كثير من حقول الاجتهاد البشري – في
العلوم والفلك والرياضيات والجبر (وهي كلمة عربية في الأساس)، والقانون والتاريخ
والطب والأدوية، والبصريات، وفي الزراعة والهندسة المعمارية، كما في العقيدة وفي الموسيقى.
وساهم ابن رشد وابن زهر، مثل نظرائهما في الشرق ابن سينا والرازي، في دراسة
وممارسة الطب بطرق استفادت منها أوروبا لقرون بعد ذلك.
لقد رعى
الإسلام السعي من أجل التعلم وحافظ عليه، وكما ورد في الأثر "مداد العلماء
أفضل من دم الشهداء". كانت قرطبة في القرن العاشر أكثر المدن الأوروبية حضارة
على الإطلاق. نعلم بوجود مكتبات لإعارة الكتب في عهد الملك ألفريد كانت ترتكب
أخطاء مريعة في فنون الطهي في البلاد. يقال إن 400 ألف مجلد كانت موجودة في مكتبة
الحاكم، وهذا العدد من الكتب التي كانت فيها أكبر بكثير من جميع ما كانت تحويه
المكتبات الأخرى في أوروبا مجتمعة. وما كان ذلك ليتحقق لولا أن العالم الإسلامي
اكتسب من الصين مهارة صنع الورق قبل 400 عام من وصولها إلى بقية أوروبا غير
المسلمة. كثير من الخصال والشمائل التي تفتخر بها أوروبا الحديثة إنما وردت إليها
من إسبانيا المسلمة. الدبلوماسية، والتجارة الحرة، والحدود المفتوحة، وتقنيات
البحث الأكاديمي، والأنثروبولوجيا (علم البشريات)، والإتيكيت (اللياقة والذوق)،
والأزياء، ومختلف أنواع الأدوية، والمستشفيات، كل ذلك جاء من هذه المدينة التي
كانت حينذاك أعظم المدن على الإطلاق.
كان الإسلام
في العصور الوسيطة ديناً متسامحاً لدرجة تثير الإعجاب في زمنه ذاك، إذ منح اليهود
والمسيحيين الحق في ممارسة وتوارث عقائدهم، وضرب بذلك نموذجاً من المؤسف أنه لم
يستنسخ في الغرب إلا بعد قرون طويلة. والمفاجأة، أيها السيدات والسادة، هي المدى
الذي كان به الإسلام جزءاً من أوروبا لزمن طويل، أولاً في إسبانيا ثم في البلقان،
وكذلك المدى الذي ساهم به مساهمة كبيرة في الحضارة، التي كثيراً ما نظن خاطئين
أنها غربية خالصة. إن الإسلام جزء من ماضينا ومن حاضرنا، وفي جميع حقول الاجتهاد
البشري. لقد ساعد على إيجاد أوروبا الحديثة، فهو بذلك جزء من إرثنا نحن، وليس
شيئاً منفصلاً عنا.
والأكثر من
ذلك أن الإسلام يمكن أن يعلمنا اليوم طريقة للفهم والعيش في العالم خسرتها
المسيحية فأضحت بدونها هي الأفقر. يوجد في القلب من الإسلام، حفظه للرؤية
المتكاملة للكون. فالإسلام، مثله في ذلك مثل البوذية والهندوسية، يرفض فصل الإنسان
عن الطبيعة، والدين عن العلم، والعقل عن المادة، وحافظ على النظرة الميتافيزيقية
والموحدة لأنفسنا وللعالم من حولنا. مازال يوجد في القلب من المسيحية نظرة متكاملة
لقداسة العالم، وإحساس جلي بالأمانة والمسؤولية التي كلفنا بها بشأن محيطنا
الطبيعي. وحسبما ورد في أنشودة للشاعر الرائع من القرن السابع عشر جورج هيربرت:
الرجل الذي
ينظر في الزجاج
هناك قد تبقى
عيناه
أو إذا رغب
فإنه يتجاوزه
فيقع بصره من
بعد على السماء
إلا أن الغرب
ما لبث أن فقد بالتدريج تلك النظرة المتكاملة للعالم مع كوبرنيكس وديكارت وقدوم
الثورة العلمية. لم تعد الفلسفة الشاملة للطبيعة جزءاً من عقائدنا اليومية. لا
أملك سوى الإحساس بأننا لو تسنى لنا الآن فقط أن نعيد اكتشاف المقاربة الشاملة
المبكرة تجاه العالم من حولنا، لنرى ونفهم معناه الأعمق، فقد نبدأ في الانعتاق من
الميل المتزايد في الغرب نحو العيش على أسطح الأشياء التي تحيط بنا، حيث ندرس
عالمنا لكي نستغله ونسيطر عليه، محولين بذلك الانسجام والجمال إلى اختلال في
التوازن وإلى حالة من الفوضى.
إنها لحقيقة
محزنة، في اعتقادي، أن العالم الخارجي الذي أوجدناه في آخر بضع مئات من السنين
انتهى به المطاف ليعكس حالتنا الداخلية المنقسمة والمرتبكة. لقد غدت الحضارة
الغربية، وبشكل متزايد، استحواذية واستغلالية، تتحدى بشكل سافر ما يناط بنا من
مسؤوليات تجاه البيئة. هذا المفهوم الهام للوحدة وللأمانة إزاء السمة الروحية
والمقدسة للعالم من حولنا، من المؤكد أنه شيء مهم يمكن أن نعود لنتعلمه من
الإسلام. أنا متأكد تماماً من أن البعض سوف يتهمني مباشرة، كما يفعلون في العادة،
بالعيش في الماضي، وبرفض التعايش مع الواقع ومع الحياة المعاصرة. على العكس
تماماً، أيها السيدات والسادة، كل ما أطلبه هو السعي من أجل فهم أوسع وأعمق وأدق
لعالمنا، من أجل إيجاد بعد ميتافيزيقي وبعد مادي في نفس الوقت لحياتنا، حتى نستعيد
التوازن الذي تخلينا عنه، والذي سوف يثبت غيابه، فيما أعتقد، بأن نتائجه ستكون
كارثية على المدى البعيد. إذا كان بإمكان طرق التفكير الموجودة في الإسلام وفي غيره
من
الأديان أن تساعدنا في ذلك البحث، فسيكون لدينا بذلك ما نتعلمه من منظومة
الاعتقاد هذه، والتي أحذر أن جهلنا بها يضرنا نحن.
أيها السيدات
والسادة
نعيش اليوم في
عالم واحد، تصيغه الاتصالات الآنية، والتلفزيون، وتبادل المعلومات على مستوى لم
يكن يحلم به جيل أجدادنا. يعمل الاقتصاد العالمي كما لو كان كياناً معتمداً بعضه
على بعض. مشاكل المجتمع، وجودة الحياة والبيئة، كلها باتت عالمية في أسبابها وفي
آثارها، ولم يعد لدى أي منا ترف التمكن من حلها بشكل منفرد. يشترك العالمان
الإسلامي والغربي فيما بينهما في مشاكل باتت مشتركة لدينا جميعاً: كيف نتكيف مع
التغير في مجتمعاتنا، كيف نساعد الشباب الذين يشعرون بالإقصاء من قبل والديهم أو
من قبل قيم مجتمعاتهم، كيف نتعامل مع الإيدز، والمخدرات، وتفتت العائلة. بالطبع
تتباين هذه المشاكل في طبيعتها وشدتها من مجتمع إلى آخر. مشاكل الأحياء الداخلية
في مدننا ليست مماثلة لتلك التي في القاهرة أو دمشق. لكن التشابه في التجربة
الإنسانية كبير جداً. خذ على سبيل المثال التجارة الدولية في المخدرات القوية، ومن
الأمثلة الأخرى على ذلك ما نلحقه من دمار بالبيئة من حولنا.
يجب علينا
التصدي لهذه الأخطار التي تهدد مجتمعاتنا ومعيشتنا معاً. بمجرد أن يتعرف بعضنا على
بعض يمكننا أن نحقق المعجزات. أذكر جيداً على سبيل المثال اصطحاب مجموعة من
المسلمين وغير المسلمين قبل بضع سنين للاطلاع على سير العمل في المركز الصحي في حي
مارليبون في لندن، والذي أرعاه. كان الحماس والعزم المشترك المتولد من تلك التجربة
يثلج الصدر. أيها السيدات والسادة، ينبغي علينا بطريقة ما أن نتعلم كيف يفهم بعضنا
بعضاً، وأن نعلم أطفالنا – أبناء الجيل الجديد، الذين قد تكون مسالكهم ونظراتهم
الثقافية مختلفة عنا – حتى يفهموا أيضاً. يجب أن نظهر الثقة، والاحترام المتبادل،
والتسامح، إذا ما كنا نسعى لإيجاد أرضية مشتركة بيننا للعمل معاً من أجل التوصل
إلى الحلول. إن المقاربة التي ينتهجها صندوقي، وتعتمد على مشاريع مجتمعية، ونظام
المتطوعين الناجح جداً، والذي يديره الصندوق منذ سنين، يثبتان كم يمكن أن ننجز من
خلال الجهد المشترك الذي يتجاوز كل التباينات بين الطبقات والثقافات والأديان.
لم يعد بمقدور
العالمين الإسلامي والغربي النأي بأنفسهما عن الجهد المشترك لحل مشاكلهم المشتركة.
من الأمثلة الممتازة على عمل ثقافتينا معاً في خدمة قضية مشتركة هو الطريقة التي
تعمل من خلالها المملكة العربية السعودية مع جامعة أكسفورد لإقامة مركز أبحاث في
الشيزوفرينيا (الانفصام) لصالح منظمة اسمها ساين، والتي أتولى رعايتها.
كما لم يعد
بمقدورنا إحياء المواجهات الإقليمية والسياسية التي كانت سائدة في الماضي. يتوجب
علينا أن نتبادل الخبرات، وأن يشرح بعضنا لبعض ما لدينا، وأن نسعى للفهم، وأن
نتسامح – وأنا أعلم مدى صعوبة هذه الأمور – وأن نبني على المبادئ الإيجابية التي
تشترك فيها ثقافاتنا. ينبغي أن يكون ذلك مقايضة في الاتجاهين. يحتاج كل منا لأن
يفهم أهمية التوفيق، وأهمية التدبر، من أجل فتح العقول والقلوب على بعضها البعض.
أعتقد جازماً بأن العالمين الإسلامي والغربي لديهما الكثير ليتعلماه من بعضهما
البعض. تماماً كما أن مهندس النفط في الخليج قد يكون أوروبياً، يمكن كذلك لجراح
زراعة القلب في
بريطانيا أن يكون مصرياً.
إذا كانت
الحاجة للتسامح والتبادل مطلوبة دولياً، فإنها تنطبق بإلحاح على الداخل البريطاني.
فبريطانيا مجتمع متعدد الأعراق والثقافات. ولقد أشرت سالفاً إلى حجم مجتمعاتنا
المسلمة التي تعيش في مختلف أرجاء بريطانيا، سواء في المدن الكبيرة مثل برادفورد
أو في تجمعات صغيرة نائية مثل ستورناوي غربي إسكتلندا. هؤلاء الناس، أيها السيدات
والسادة، مكسب لبريطانيا. فهم يساهمون في كافة مناحي الاقتصاد في بلدنا – في
الصناعة وفي الخدمات العامة، وفي المهن، وفي القطاع الخاص. نجدهم بين المدرسين
والأطباء والمهندسين والعلماء. يساهمون في رخائنا الاقتصادي كبلد، ويضيفون إلى
ثرائنا الثقافي كأمة. بالطبع، ينبغي أن يكون التسامح والفهم في الاتجاهين. بالنسبة
لغير المسلمين، قد يعني ذلك احترام الشعائر اليومية للدين الإسلامي وتوخي الحذر
تجنباً لأي أفعال قد تسبب ضرراً أو إزعاجاً بالغاً. أما بالنسبة للمسلمين في
مجتمعنا، فهم بحاجة لأن يحترموا تاريخ وثقافة وطريقة حياة الناس في بلدنا، وإلى
موازنة حريتهم الأساسية في أن يكونوا كما يريدون مع تقدير أهمية الاندماج في
مجتمعنا. وحيثما حصل إخفاق في الفهم وفي التسامح، نحتاج على عتبات بيوتنا إلى قدر
أكبر من التصالح ما بين مواطنينا. أرجو أن نتعلم جميعاً كيف نعبر عن ذلك مع تنامي
التفاهم بين هذه المجتمعات.
لا أملك سوى
أن أعبر عن إعجابي وأن أشيد بالرجال والنساء من كثير من المذاهب الذين يعملون بدون
كلل أو ملل، في لندن وفي جنوب ويلز وفي الميدلاندز وفي كل مكان لتعزيز العلاقات
الطيبة بين المجتمعات. ومن النماذج اللافتة بشكل خاص والناجحة مركز دراسات الإسلام
والعلاقات المسيحية الإسلامية في بيرمنغهام. ينبغي أن نكون ممتنين، في اعتقادي،
على ما نجده من التزام ونماذج تحتذى من قبل جميع الذين كرسوا أنفسهم من أجل قضية
نشر التفاهم.
أيها السيدات
والسادة، إذا كانت أعينكم خلال النصف ساعة الأخيرة قد جالت في المجاز الرائع عن
الحقيقة المنزلة علي الفنون والعلوم في سقف السير روبرت ستريتر من فوقكم، أنا
متأكد أنكم ستكونون قد لاحظتم كيف أن الجهل قد تم إقصاؤه عن الميدان – هناك تماماً
أمام صندوق الأورغ. أحس ببعض التعاطف مع الجهل، وأرجو أن يُسمح لي بإخلاء هذه
القاعة في وضع أفضل.
قبل أن أذهب،
أعيد التأكيد على أهمية الموضوعين اللذين حاولت ملامستهما هذا الصباح. هذان
العالمان، الإسلامي والغربي، يقفان على مفترق طرق في علاقاتهما. ينبغي عدم السماح
لهما بأن يفترقا. لا أقبل الحجة التي تقول إنهما حتماً متصادمان في حقبة جديدة من
الخصام. بل أعتقد جازماً بأن عالمينا لديهما الكثير ليقدماه لبعضهما البعض. لدينا
الكثير لنعمله معاً. وأنا سعيد بأن الحوار قد بدأ، سواء في بريطانيا أو في غيرها.
ولكننا بحاجة لأن نعمل بجد أكثر حتى نفهم بعضنا البعض، ولنتخلص من أي سموم بيننا،
ونضع عن كاهلنا شبح الريبة والخوف. وكلما مشينا أكثر على طول هذا الطريق كلما كان
العالم الذي نتركه لأطفالنا وللأجيال القادمة أفضل حالاً.
اقرأ أيضا: "عربي21" تنشر خطابا للملك تشارلز الثالث عن الإسلام (الجزء 1)