يعتقد الكاتب والمفكر الجزائري الدكتور عبد الرزاق مقّري رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية "حمس"، أن الاستمرار في الترويج للفصل النكد بين العلم والإيمان والدين والدولة، هو تضليل لا مسوغ عقليا أو تاريخيا له، وأن الفهم الصحيح للعلاقة بين الدين والدولة تكاملي يدعم بعضه بعضا، وأن الإيحاء بوجود تناقض بينهما هو دليل انحراف في الفهم.
قراءة المفكر الجزائري المنشغل بالنشاط السياسي الحركي من دون أن يغفل الجانب الفكري، والتي تنشرها "عربي21" كل يوم خميس من الأسبوع، بالتزامن مع نشرها على صفحته الخاصة على الإنترنت، تأتي انطلاقا من إعادة قراءة تأسيس العلاقة بين الدين والدولة كما تمثلت في نموذج الهجرة النبوية إلى المدينة، وما تلاها من عصور راوح فيها العالم الإسلامي بين النهوض والأفول، ثم يقدم قراءته لذات العلاقة كما بدت في قيام وتطور الدول الغربية.
باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza 1632-1677)
لقد ساهم الفكر المادي لهوبس والفكر التجريبي لجون لوك في صياغة مفهوم العقد الاجتماعي المشكِّل للحكومة المدنية المتجردة من المرجعية الدينية في نقل الحضارة الغربية إلى مرحلة العقل كحاكم مطلق في شؤون الناس، مع محاولات هاذين العالمين تقديم تفسيرات دينية على أساس العقل، ولو بدرجة أقل احتراما للدين من الفلاسفة الذين اهتموا بالتوفيق بين العقل والدين كرينيه ديكارت على سبيل المثال.
غير أن باروخ زينوزا كان أجرء فلاسفة زمانه في إهمال الحالة الدينية في التفكير الفلسفي، فقد كان يرى في كتابه ((رسالة في اللاهوت والسياسة)) أن العلم والإيمان منفصلان، وأن العقل ليس خادما للاهوت، ويعتبر أن معرفة الحقيقة هي مهمة الفلسفة التي تعتمد على الأفكار والمبادئ والقوانين الطبيعية الثابتة التي تحكم الأشياء والتي يتم التوصل إليها بدراسة الطبيعة وحدها، أما الإيمان فيقوم على التسليم بواقعة الوحي. وهو يعتبر أن الله موجود ضمن حقيقة مادية لا روحية متمددة في الأشياء كلها عبر الجزيئات المكونة لكل شيء.
لم ينته القرن السابع عشر حتى كانت المعركة قد أذنت بخسارة الكنيسة وتراجع تأثير المسيحية كلها في حياة الناس ودخلت أوروبا القرن الثامن عشر ولها ديانة جديدة هي المذهب الطبيعي العقلي بشقيه اللادينيين، الشق الذي يؤمن بإله خالق لا يأمر ولا ينهى ولم يرسل أنبياء ولم يوح بشيء ولا يتطلب الإيمان به الصلاة له ولا مراعاته في الفكر والسلوك وهم الذين يسمون بـ "الربوبيين" (les Deistes) ، أو بالشق الإلحادي الذي كفر بوجود الإله أصلا وسخِر أصحابه من هؤلاء " الربوبيين"..
وبالنظر لهذا المعتقد اعتبر سبينوزا بأنه من فلاسفة الحلول، واعتبره كثير من الفلاسفة الدارسين لحياته وأفكاره ملحدا. ولكن فلسفته الأكثر تأثيرا في من جاء بعده ابتداء من عصر الأنوار هو اعتبار أن الطبيعة هي ذاتها الله فأصبح كل ما يتعلق بصفات الخالق يسمى "الطبيعة" بدل "الله"، ويعتبر هذا الإله الذي يسمى الطبيعة قوة لامتناهية مندمجة مع الكون الذي يسير وفق قوانين ثابتة لا يتدخل في شأنها أي قوة أخرى.
وصلت جرأة زينوزا إلى اعتبار أن الكتب الدينية اليهودية مجرد نصوص كتبها مؤرخون جاؤوا بعد سيدنا موسى عليه السلام، وقد توصل إلى ذلك على أساس الدراسات التاريخية للنصوص المقدسة، وهو يُعد بذلك أول فيلسوف ساهم في بروز فلسفة "النقد الأعلى"، وهي الفلسفة التي يُقصد بها الدراسات التاريخية النقدية للنصوص الدينية اليهودية والمسيحية كاختصاص أخذ معالمه في القرن الثامن عشر، وكان أساسا لإنكار الكتب المقدسة من قبل العديد من فلاسفة عصر الأنوار.
ولد سبينوزا من عائلة يهودية سفاردية من البرتغال لجأت إلى هولندا فرارا من حملات " محاكم التفتيش" بعد سقوط الأندلس، وقد ساهمت أجواء التسامح الديني في هولندا حين اللجوء إليها باروخ سبينوزا في التعبير عن آرائه المخالفة لمعتقدات أهله التوراتية فتم إصدار قرار ديني بطرده ( حِرم باليهودية) من الطائفة اليهودية من قبل المرجعيات الدينية اليهودية وكان عمره آنذاك 23 سنة، كما أن المرجعيات الدينية المسيحية اتهمته كذلك بالزندقة، وقد تعرض إلى محاولة اغتيال. وبالرغم من أن ملهمه الأساسي كان رينيه ديكارك في الفلسفة العقلانية فقد ذهب بعيدا عنه في مخاصمة الأديان ضمن التطور المتدرج لابتعاد الحضارة الغربية عن أبعادها الدينية الأولى.
الكتاب الأبرز والأكثر شهرة وتأثيرا لسبينوزا هو كتاب " الأخلاق" وهو كتاب فلسفي نشره أصدقاؤه بعد وفاته سنة 1677 يهتم بالميتافيزيقة والانطلوجية والابستمولوجية يتحدث فيه عن الإله والكون والجوهر والمعرفة والفهم الإنساني، يظهر فيه اختلافه مع فلسفة ديكارت بانكاره التفريق بين الله الخالق والكون المخلوق وبين الجسد والفكر والروح والمادة، إذ يعتبر سبينوزا أن الله والطبيعة شيء واحد، وليس هناك طبيعة أخرى خلقها الله، وأن التكوينات الطبيعية في الكون والإنسان هي أشكال وخصائص الله، وأن الجسد والفكر، وكذا الروح والمادة شيء واحد، وأن كل أفكار البشر لها غاية نهائية واحدة وهي الوصول إلى السعادة والسلوك السليم والمجتمع العقلاني، و أن معرفة الخير والشر هو شأن متصل بما ينفع الإنسان في وجوده أو يضره، ما يسعده أو يحزنه، وأن التصرفات الأخلاقية منشأها معرفة الإنسان لانفعالاته بما يحقق له السعادة ويبعد عنه الأحزان.
إننا لا ندري هل سبينوزا كان فيلسوفا ألمعيا زاهدا غير مبتهج بزخارف الدنيا (وفق ما كتب عن سيرته) أبعده عن الهداية انحراف ديانته اليهودية وانحراف الديانة المسيحية السائدة في أوروبا أم أنه كان من الفلاسفة "الشياطين" الذين ساهموا أنفسهم في سلخ أوروبا ثم قطاعات واسعة من البشرية من الإيمان بالله الواجد الموجود القادر القاهر دون أن يعطوا للناس الذين اتبعوهم أجوبة عما كانوا يسألونه قبل أن يكفروا بالغيب.
مجموعة "التبين" المغربية.. الموقف والتنظيم وسؤال الوحدة
إسلاميو المغرب.. جدل التأسيس بين مطيع الحمداوي وحامي الدين
الهجرة والدولة.. الفكرة الدينية والاستنهاض الحضاري للأمة (5)