في
ظل الأزمة الشاملة التي تعصف بالبلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، قد يختلف
المهتمون بالشأن التونسي في تقدير "قوة" الرئيس قيس سعيد وركائز منظومة الحكم
التي يحتل واجهتها، وقد يختلفون في مدى قدرته على إدارة الأزمة في الفترة القادمة،
ولكن من الصعب أن يختلفوا في توصيف حالة الضعف والتشتت والعقم التي تعاني منها مكوّنات
المعارضة لمسار 25 تموز/ يوليو وخارطة طريقه.
ومع
اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المبكرة التي دعا إليها الرئيس والتي من المقرر
أن تجرى في 17 كانون الأول/ ديسمبر المقبل، يبدو أن هامش
"المقاومة" يضيق بحكم نجاح الرئيس في فرض خارطة طريقه، بدءا من تجميد
البرلمان والسيطرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية، مرورا بالاستشارة
الإلكترونية والاستفتاء على الدستور الجديد، وصولا إلى فرض انتخابات برلمانية
بقانون انتخابي جديد يُرسّخ النظام الرئاسوي ويزيد في تهميش الأحزاب وسائر الأجسام
الوسيطة.
قبل
الحديث عن أفق المعارضة سيكون من الضروري أن نفهم الواقع السلطوي في تونس منذ 25 أيلول/ سبتمبر 2021. فالرئيس قيس سعيد لم
ينجح فقط في إعادة هندسة المشهد السياسي، بل استطاع خلق مشهد مؤسساتي ومدني ونقابي
جديد في المستوى الداخلي، واتجه خارجيا إلى التحالف الاستراتيجي مع محور
"الثورات المضادة"، مع ما يعنيه ذلك من تقاطع موضوعي مع ذلك المحور في
مسألتي الموقف من "الإسلام السياسي" وقضية التطبيع وصفقة القرن. إننا
أمام مشهد يدّعي صانعه/ واجهته "التأسيسَ الثوري الجديد"، بينما يرى
خصومه في مشروعه مجرد مشروع استبدادي يعيد تدوير بعض المكبوتات اليسارية بتواطؤ
فرنكفوني-إيراني وبدعم قوي من النواة الصلبة للمنظومة القديمة؛ عبر أذرعها الحزبية
والمالية والإعلامية والنقابية والمدنية.
إننا أمام مشهد يدّعي صانعه/ واجهته "التأسيسَ الثوري الجديد"، بينما يرى خصومه في مشروعه مجرد مشروع استبدادي يعيد تدوير بعض المكبوتات اليسارية بتواطؤ فرنكفوني-إيراني وبدعم قوي من النواة الصلبة للمنظومة القديمة؛ عبر أذرعها الحزبية والمالية والإعلامية والنقابية والمدنية
وقد
استطاعت شبكات الدعم الداخلية والخارجية أن تُعليَ كلمة الرئيس وأن تُشرعن سرديته في
كل المحطات التي أظهرت الهوة الشاسعة بين ادعاءات تمثيل الإرادة الشعبية وبين واقع
تلك الادعاءات كما هو الشأن في الاستشارة الإلكترونية أو الاستفتاء على الدستور
الجديد. ومن المستبعد أن تسحب تلك الشبكات دعمها للرئيس في الانتخابات البرلمانية
القادمة في ظل "موازين الضعف" الحالية.
ونحن
نتحدث عن موازين ضعف لا عن موزين قوة لعدة أسباب؛ لعل من أهمها ركائز الشرعية
والمشروعية بالنسبة للسلطة والمعارضة على حد سواء. فشرعية الرئيس لا تسندها
الأرقام التي أقرّها هو نفسه في الاستشارة الإلكترونية والاستفتاء، أما شرعيته فلا
ترتبط بأي إنجاز اقتصادي أو اجتماعي ملموس. إننا أمام شرعية هشة ومشروعية لم
تتجاوز اللحظة السالبة، أي لحظة شيطنة "العشرية السوداء" و"الغرف
المظلمة" دون أي قدرة على بلوغ اللحظة الموجبة، أي تجسيد السلطات اللا محدودة
للرئيس في مكاسب مادية أو معنوية محسوسة لدى عموم المواطنين.
أمّا
المعارضة فإن شرعيتها قد أصبحت طي التاريخ بحكم تكريس واقع سلطوي جديد؛ أكد عقم
قراءاتها للواقع وتهافت مسار الانتقال الديمقراطي ومؤسساته قبل 25 تموز/ يوليو 2021 وبعده. وبصرف النظر عن قوة
حججها أو عمقها الشعبي، فإن غياب أية مراجعات نقدية علنية وتصدر الكثير من الوجوه
"سيئة السمعة" لمشهد المعارضة -مع استمرار تشتتها وصراعاتها البينية-
يفقدها الكثير من جاذبيتها خارج قواعدها التقليدية، ويعطي للرئيس وأنصاره مصدر
قوتهم الأهم رغم صفرية الإنجاز.
شرعية الرئيس لا تسندها الأرقام التي أقرّها هو نفسه في الاستشارة الإلكترونية والاستفتاء، أما شرعيته فلا ترتبط بأي إنجاز اقتصادي أو اجتماعي ملموس. إننا أمام شرعية هشة ومشروعية لم تتجاوز اللحظة السالبة، أي لحظة شيطنة "العشرية السوداء" و"الغرف المظلمة"
فالمعارضة
بالنسبة للمواطن العادي تريد العودة بالشعب إلى ديمقراطية صورية فوضوية تهيمن
عليها الصفقات السياسية ويدعمها رأس المال الفاسد، وهي لا تملك أي بديل وطني حقيقي،
والدليل على ذلك هو استمرار صراعاتها الهوياتية وانقساماتها الأيديولوجية وعجزها
عن تقديم أي بديل ذي مصداقية. وبصرف النظر عن مدى مطابقة الوعي الجمعي المتلاعب به
للواقع، فإن من يُحمّلهم المسؤولية عن الأزمة (بشخوصهم وخياراتهم) لا يمكن أن
يكونوا بالنسبة إليه جزءا من الحل، وهو واقع تصرّ الكثير من الشخصيات/ الأحزاب
السياسية على إنكاره ممّا يجعل منهم أكبر حليف موضوعي للرئيس رغم تموقعهم في
المعارضة.
تكمن
نقطة الضعف القاتلة للمعارضة -أو كعب أخيل إن استعملنا المعجم الاستعاري- في عدم
تجاوزها للحظة السالبة عند التأسيس لشرعية الاحتجاج على مشروع الرئيس. فهي ما زالت
تستمد شرعيتها من سردية الانتقال الديموقراطي بدستوره ونظامه السياسي ومؤسساته رغم
أن 25 تموز/ يوليو قد أثبت واقعيا أنها أوهى من بيت العنكبوت وأنها لا تعكس وعيا
ديمقراطيا صلبا. كما أن مشروعية المعارضة تبقى هي الأخرى في مستوى اللحظة السالبة،
أي في مستوى التغني بـ"الاستثناء التونسي" الذي جسدته "سياسة
التوافق" بين النهضة وورثة المنظومة القديمة، والذي جنب البلاد المصير
الكارثي لأغلب الثورات العربية (الانقلاب العسكري أو الاحتراب الأهلي).
نؤمن أنّ تجاوز الأزمة الحالية لن يكون إلا باجتراح "طريق ثالث" تمثله "الكتلة التاريخية" وما تعكسه من حاجة إلى عقل سياسي جديد. إننا نعتبر الرئيس ومشروعه مجرد تنويعة من تنويعات العقل السياسي الذي يُصنع على أعين النواة الصلبة للمنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين والدوليين، أما المعارضة وأطروحاتها فإنها في جوهرها أو في مستوى دورها الحقيقي مجرد جسم وظيفي في خدمة تلك النواة الصلبة ذاتها
وبصرف
النظر عن متانة هذه الحجج، فإن فوضوية المشهد السياسي منذ المرحلة التأسيسية وغياب
الإنجاز الاقتصادي قد دفعا بجزء كبير من الشعب إلى الكفر بالديمقراطية التمثيلية وأجسامها
الوسيطة. ومهما كان بؤس المنظومة الحاكمة حاليا، فإن الشعب لا يمكن أن يسترد
إيمانه بالديمقراطية التمثيلية وهو يرى مشهدا سياسيا مطبوعا بتشتت المعارضة
الحزبية وعجزها عن التوحد في إطار بديل وطني جامع يتجاوز جدليا آفات التوافق
ومخاطر الاستبداد والشعبوية.
وبناءً
على ما تقدم، فإننا نؤمن أنّ تجاوز الأزمة الحالية لن يكون إلا باجتراح "طريق
ثالث" تمثله "الكتلة التاريخية" وما تعكسه من حاجة إلى عقل سياسي
جديد. إننا نعتبر الرئيس ومشروعه مجرد تنويعة من تنويعات العقل السياسي الذي يُصنع
على أعين النواة الصلبة للمنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين والدوليين، أما
المعارضة وأطروحاتها فإنها في جوهرها أو في مستوى دورها الحقيقي مجرد جسم وظيفي في
خدمة تلك النواة الصلبة ذاتها. وهو ما يؤكد الحاجة إلى عقل سياسي مستأنف يتجاوز
القراءة السطحية للمشهد السياسي ويطرح على ذاته مهمة التأسيس الجديد الحقيقي، ذلك
التأسيس الذي لا يمكن أن يتم في دائرة الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة، ولا في ظل
هيمنة العقل السياسي الذي كان قبل الثورة وبعدها في خدمة
الفساد الممأسس (برعاية المركزية النقابية) والبنية الريعية للاقتصاد (برعاية
منظمة الأعراف).
twitter.com/adel_arabi21