توافقت الدول الحديثة على أن الغاية من المؤتمرات الدبلوماسية في جوهرها، هي تجسير الخلافات وتصحيح الانطباعات وترميم العلاقات. لكنها في ظل الوضع المغاربي المتأزّم الراهن، غدت مناسبة للمناورة والتحدي وتسجيل النقاط بين عاصمتين جارتيْن، أكثر من التنسيق العربي ضمن مجموعة إحدى وعشرين دولة بين المحيط والخليج. وظهرت بوادر مزايدتين إحداهما مغربية جزائرية، والأخرى فلسطينية.
أولا، في مباراة تنس غير دبلوماسية، يعمد اللاعبان إلى إحراج أحدهما الآخر بكرات ملتوية، فيرمي الأول بسردية: "أطالب بإدراج نقطة تسليح إيران للبوليساريو بالدرونات، واستهدافها للأراضي العربية؛ سواء في الخليج أو المغرب ضمن جدول الأعمال".
يرد الثاني بسردية الرفض والتجاهل. ثمّ يضيف الأول سردية معيارية قائلا: "ليس من حقّك الرفض، هناك تصويت وإجماع"، وهي سردية تستمد معياريتها من نظرية التموقع Positioning theory في علم النفس الخطابي Discursive psychology
هي دبلوماسية مغاربية أضحت جوفاء، وينتهي المشهد عند قناعة كل طرف أنه "سجّل على خصمه": مغربي يُحرج جزائريا، وجزائري يُحبط مسعى مغربيا؛ لإحراج إيران في ملعب أرضه ومنصة اجتماع وزراء خارجية عرب، يشترك أغلبهم في مركّب العناد والأنفة السياسية، أكثر من براغماتية المصالح المشتركة.
وتؤكد مؤشرات القمة العربية مرة أخرى، أنها قمم مجبولة على التخندق في الخلافات وتعارض المواقف على أجندة الأعمال. واليوم، يصبح حيز المناورة الدبلوماسية المغاربية محكوما بتهمة إيران وهي على بعد خمسة آلاف كيلومتر. في الوقت ذاته، لم تعد الإمارات والسعودية والبحرين تشكو مما هو إيراني، بقدر ما أضحى الفضاء المغاربي يتشبع بالفزاعة الإيرانية.
كانت القضية الفلسطينية قضية عروبة وقدس واحتلال ومظالم شعب. لكنها اليوم بفضل سردية السيد المالكي، أضحت ميزانا لتوزيع "الفضيلة" و"الرذيلة" بين العواصم المغاربية. كان وضع القدس وشرط حدود 4حزيران/ يونيو لدولة فلسطينية منشودة، منزّها عن أي اتّجار سياسي، لكنهما اليوم رصيد قابل للتجارة مع من يدفع أكثر!
ثانيا، في سياق ما يبدو أنه "ردّ الجميل" بين رام الله والجزائر العاصمة، يطالب وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي من الدول العربية أن "تتبع الجزائر فيما تقوم به اتجاه القضية الفلسطينية"، إذ "أدّت ما عليها من التزامات ووفاء تجاه الدولة والقضية الفلسطينية بشكل أحادي" على حد قوله.
سرديةٌ فلسطينيةٌ محبوكةٌ بعناية، تضع السياسة الجزائرية في مستوى "النموذج" السياسي و"المعيار" الأخلاقي. لكن لها وجهان متنافران: وجهٌ مبتسمٌ يثير مواقف التقدير والعزّة في ردهات قصر المؤتمرات وقصر المرادية. وتنمّ سردية المالكي في ثناياها ضمنيا عن التقليل من السياسة المغربية، وتجاهل تاريخ دعم المغاربة لنصرة القدس وحقوق الفلسطينيين، وهو تجاهل ينطبق أيضا على دعم الكويتيين والسعوديين والقطرين والتوانسة وغيرهم تاريخيا للفلسطينيين.
وتنطوي أيضا على تأجيج، مقصود أو غير مقصود، للتنافس التاريخي بين الجارين قبل تطورات العامين الماضيين، وتوحي بعقد مقارنة بين ما يمكن الاصطلاح عليهما: "جزائرية" القضية الفلسطينية، مقابل "مغربية" القضية الفلسطينية.
كانت القضية الفلسطينية قضية عروبة وقدس واحتلال ومظالم شعب، لكنها اليوم بفضل سردية السيد المالكي، أضحت ميزانا لتوزيع "الفضيلة" و"الرذيلة" بين العواصم المغاربية. كان وضع القدس وشرط حدود 4 حزيران/يونيو لدولة فلسطينية منشودة منزّها عن أي اتّجار سياسي، لكنهما اليوم رصيد قابل للتجارة مع من يدفع أكثر!
المراجعات الأمريكية السعودية إلى أين؟
حين ترفض السعودية الإملاءات الأمريكية.. ماذا بعد؟
طريق الحرير كبديل لنظام عالمي جائر